إبراهيم العلوش
“الروبوت” الإسرائيلي الذي يختار الأهداف وينفذ القصف الكثيف وإعادة التقييم بكفاءة عالية، هل هو تجربة تلخص مستقبل الإنسانية مع الذكاء الاصطناعي الذي لا يمتلك أي حس إنساني تجاه أطفال ونساء ومدنيي قطاع غزة، أولئك الذين لم تستطع حتى الآن أي قوة في العالم إنقاذهم من التدمير والجوع والتشرد؟
يومًا بعد يوم تتزايد الكتب والمقالات التي تتنبأ بتهديد مستقبل الإنسانية من قبل الذكاء الاصطناعي، الذي أطلق عنانه قبل سنتين على يد “ChatGPT” وما تناسل عنه من برامج داعمة أو منافسة، من “جوجل” أو “مايكروسوفت” أو “آبل” أو غيرها من عمالقة التكنولوجيا.
كانت الجيوش القديمة تحارب في ساحات خالية من البشر وتتنافس الخطط الحربية على الفوز بعيدًا عن المدنيين، وستجد خطط الإسكندر المقدوني ونابليون وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم من القادة الذين جنبوا المدن شر القتال، أما اليوم مع انتشار حروب المدن وتحولها إلى استراتيجية أساسية في الحروب الحديثة، واعتبارًا من الحرب العالمية الثانية، حيث تناوبت القوات الأمريكية والروسية على تدمير مدن ألمانيا من أجل الاستثمار في إعادة إعمارها، وليس للتأكد من خلوها من جيش هتلر الذي هزم قبل أعمال الدمار الشامل التي توسعت إلى قصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين بالقنابل النووية من قبل الجيش الأمريكي.
الحرب في غزة تعيد مآسي الحرب العالمية الثانية على الفلسطينيين عبر “الروبوت” الإسرائيلي المسلح بأحدث التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، ولكنه مبرمج بأفكار قديمة وبالية، كانت تعتنقها الدول الاستعمارية في القرن الـ19 من بقايا النظريات العنصرية عن تفوق العرق الأبيض على بقية العروق، مع تعديل بسيط هو التفوق الإسرائيلي على الفلسطينيين ومن بعدهم على العرب جميعًا.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على فلسطينيي غزة، أثبتت القوات الإسرائيلية تفوق قدراتها التكنولوجية وصارت “روبوتاتها” تجمع وتحلّل عشرات آلاف الأهداف يوميًا، بينما كانت الوسائل اليدوية والعسكرية العادية لا تصل إلى فرز وتحديد أكثر من 10% من هذه الأهداف.
وهذا فتح جديد للذكاء الاصطناعي، وتأكيد لنظريات الخوف منه، وخطره على الوجود الإنساني، فالحروب التي بدأت بالسيف والترس تقتل أعدادًا قليلة في المعركة مقارنة بالأعداد الكبيرة في زمن البارود والطائرات والمدافع الآلية، أما بعد إضافة “الروبوتات” وانعدام الحس الإنساني فإن الذكاء الاصطناعي أثبت أنه قادر على إبادة البشرية خلال عقود أو قرون قليلة إن تمت برمجة أسلحته على الطريقة الإسرائيلية المتبعة في غزة.
في حرب غزة اجتمعت ثلاث قوى مدمرة، هي العنصرية، وحرب المدن، والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى حس الثأر الذي استسلمت له إسرائيل، متجاهلة التاريخ الطويل في إذلال الفلسطينيين والتقليل من وجودهم وإنسانيتهم باعتبارهم مجرد عوائق تعرقل مشروعها، وقد لخص وزير الدفاع الإسرائيلي الموضوع بأنهم مجرد حيوانات بشرية، ما مهد الطريق لشبهة الإبادة الجماعية التي تنظر فيها محكمة العدل الدولية.
ترافقت الحرب الإسرائيلية مع حملة تضليل رقمية كبيرة، حسب صحيفة “هآرتس” التي بينت في مقال لها أن مئات الصفحات المزيفة استعملتها إسرائيل من أجل تضليل الرأي العام، وخاصة صناع القرار في الولايات المتحدة وأوروبا، وأنشأت صفحات تزوّر الأخبار وتبالغ في تسليط الضوء على مزاعم اغتصاب الإسرائيليات من قبل “حماس”، وهذا ما لم تثبته أي جهة محايدة، بل إن الاعتداءات على الفلسطينيات وعلى ممتلكات الفلسطينيين تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، ويبثها الجنود أنفسهم وهم يفجرون البيوت كنوع من العبث على شكل هدايا للأصدقاء والصديقات، ويعبثون بممتلكات وخصوصيات الفلسطينيين.
قبل أعوام صدر كتاب يطلب من العلماء في جميع المجالات الجواب عن سؤال واحد، ما مستقبل العالم بعد عشرة آلاف سنة؟ الآن ومع حرب الذكاء الاصطناعي الذي تشنها إسرائيل على سكان غزة لا نستطيع أن نتخيل العالم بعد مئة سنة. وكما يقول الفيلسوف غونتر أندريس، فإن البشرية خلقت الظروف المناسبة لإبادة نفسها.
تخيلوا مستقبل العالم مع هذا التوظيف السلبي للذكاء الاصطناعي، تخيلوا التنظيمات الدينية المتطرفة وقد حشت برامج الذكاء الاصطناعي بكراهيتها للحد الأقصى، تخيلوا الدول الدكتاتورية وقد ملأت حواسيبها ببرامج و”روبوتات” تبحث عن المواطنين الذين يرفضون قضاء حياتهم منافقين للقائد، أو للمرشد، أو الذين يشككون بمعتقداتهم الجامدة، تخيلوا الشركات الكبرى وهي تهدم اقتصادات الدول التي لا تخضع لها عبر احتكارات مالية واقتصادية مدعومة بروبوتات الذكاء الاصطناعي وتحولها إلى دول فاشلة. أليست هذه الظروف المناسبة للانتحار البشري؟
ولكن هل ستكون إسرائيل قد حفظت أمنها مع كل هذا التوظيف الوحشي للذكاء الاصطناعي؟
الفيلسوف اليساري هربرت ماركوزة، اليهودي الأصل، استشعر ذلك مبكرًا عندما زار إسرائيل عام 1971، وفي مقابلة له مع صحيفة “يديعوت أحرونوت” قال إنه “ليس من مصلحة إسرائيل أن تبقى قلعة عسكرية محاطة بالكراهية، إسرائيل الحرة لن تعيش إلا مع العرب الأحرار والمحفوظة كرامتهم”.
وقبل انبثاق عصر القتل بـ”الروبوت”، لخص الشاعر محمود درويش القلعة الإسرائيلية على طريقته “يتدثرون بالفولاذ.. ويولدون ويعملون ويقطعون العمر في دبابة!”.
–