غزوان قرنفل
تعمدت تأخير كتابة تلك السطور بضعة أيام عن موعد ذكرى الثورة بانتظار أن تنتهي تلك الطقوس الاحتفالية، وتخبو تلك الاندفاعة الموسمية لدى كثير من السوريين الذين ما زالوا يؤمنون بأن “الثورة مستمرة”، حتى لا يضيع الكلام في زحمة الرايات والهتافات والشعارات والمشاحنات.
بداية أجد من المهم التأكيد على مشروعية الثورة وأحقيتها لدى السوريين، بصرف النظر عن المآلات التي وصلت إليها، لأني من المؤمنين بأن أي واقع نشأ في ظل الاستبداد يحتاج إلى ثورة بالضرورة، فالاستبداد لا يكتفي أن يحنّط المجتمعات ويعرقل مسارات التطور الطبيعي للشعوب ويجعلها حرفيًا قطيعًا يستمرئ حال السكينة والانصياع الكامل توسلًا لأمان متوهم، بل يدمر كل أشكال الحياة الطبيعية للبشر، ويفكك البنى المجتمعية ويدمر البنى الاقتصادية والثقافية ليحول المجتمع إلى مجرد مستنقع آسن لا تعيش فيه إلا الطحالب والديدان والكائنات الطفيلية.
ومن المهم أيضًا أن ندرك أن الثورات ليست بالضرورة كلها ناجحة وتحقق مآرب أصحابها وآمالهم، وكثير من الثورات المعروفة رغم نجاحها بإزاحة السلطة الحاكمة، فشلت في الوصول إلى الأهداف التي رسمها أصحابها في مخيلاتهم قبل انطلاقها، بل إنه غالبًا ما يعقب حتى الثورات التي تنجح في إزاحة الطغاة انتكاسات مروعة غالبًا ما تجعل الناس، أو بعضهم على الأقل، يترحمون على ما يعتقدون أنها أيام خوالٍ كانوا يعيشونها قبل تلك الثورة، وأزعم أن الروس الذين نجحوا في إزالة حكم القياصرة خابت آمالهم كثيرًا بعدما دخلوا النفق الستاليني الذي أسس لمجتمع الخوف والترهيب لعقود وعقود، بنفس القدر الذي أزعم فيه خيبة أمل الفرنسيين من حقبة الدم والمقاصل والجنون النابليوني بعد ذلك. وربما هذا فعلًا ما حصل الآن على الأقل لدى بعض من الشعوب الليبية والعراقية والمصرية، وربما أيضًا لدى كثير من السوريين بالنظر إلى سوء المآل الذي وصلت إليه ثوراتهم.
في كل الأحوال فإن الثورة السورية لم تكن خيارًا بقدر ما هي ضرورة لا بد من خوض غمارها، مهما كانت النتائج والمآلات، لأن استمرار الحال على ما كانت عليه يعني بالضرورة استئثار فئة من السوريين بالسلطة والثروة على نحو أبدي، واستمرارًا لتدمير المجتمع السوري وتمييع قيمه وثقافته على نحو متعمد، فضلًا عن تدمير كل البنى الاقتصادية والتعليمية مما برعت في تحقيقه سلطة العصابة الحاكمة، وبالتالي فالثورة كانت خطوة جريئة ومهمة وضعت للمرة الأولى منذ نصف قرن المجتمع السوري على عتبات التغيير الشامل بما يمهد للتأسيس لمرحلة التحول الديمقراطي المأمول.
لكن هل حققت تلك الخطوة غايتها، وهل حقا لا تزال الثورة مستمرة كما يهتف ويكتب الكثير من الشباب ممن شاركوا فيها أو عاصروا وقائعها وأحداثها، أم هو قول مضلل، وأنا أراه شخصيًا كذلك، يصدر عمن لا يرى حقائق الواقع أو لا يريد الاعتراف بها، فواقع السوريين ينبئ على نحو حاسم أنهم تمكنوا فعلًا من إدماء وجه الطاغية وتهشيم صورة منظومته الحاكمة والنيل من مشروعيتها، ومن مشروعية استمرارها في الحكم أو أن تكون جزءًا من المستقبل السياسي لسوريا، لكنهم فشلوا أيّما فشل في استثمار ذلك والبناء عليه، وفشلوا في أن يكونوا بديلًا أخلاقيًا وسياسيًا عن المنظومة الحاكمة، ذلك أنهم افترضوا أن تغيير الأشخاص كافٍ لفعل ذلك، بينما كانت الحاجة ملحة لتغيير أنماط التفكير وآليات التعاطي مع حقائق الواقع الجيوسياسي لسوريا بما يملي في كثير من الأحيان سياسات توجب الأخذ بعين الاعتبار ضرورة إجراء تقاطعات بين المصالح الدولية والضرورات الوطنية السورية، وهذا يقتضي وجود فهم وخبرة سياسية لا تتكئ على المظلومية وتحريض التعاطف الإنساني، على أهميته، لتحقيق التغيير المأمول، بل التركيز أكثر على شكل البديل والسياسات والالتزامات القانونية والسياسية التي يستطيع تقديمها لأصحاب المصالح من القوى الدولية والإقليمية والداخلية دون إفراط أو تفريط، وهو ما لم يحصل بل وربما لم يكن متوفرًا أصلًا.
النقطة الأهم باعتقادي أيضًا أنه لا يمكننا أن ننشد التغيير ونعمل لأجله للحصول على الحرية، بينما لا تزال البنية العقلية والثقافية والمعرفية لدينا ساكنة وتقييدية وتنبذ مفهوم الحريات وتضعها في مواجهة المقدس، وكأن هذا المقدس وتلك الشرائع الدينية التي يؤمن بها السوريون هي على الضد من الحرية، أو كأنها لم تأتِ أصلًا لإعتاق البشر وإطلاق عقولهم من سجون الضلال والتضليل والظلامية، ومن يعتقد بذلك فهو يحمل بالضرورة عقلًا ساكنًا كارهًا للحريات ونابذًا لها، والعقل الساكن لا يمكنه إنتاج المعرفة التي هي أهم شروط تحقيق التحولات الجوهرية في المجتمعات ووضعها على السكة الصحيحة للتغيير.
خلاصة القول، إن السوريين تهيأت لهم لحظة تاريخية فاصلة ومهمة للخلاص من حكم عصابة استحوذت على وطنهم وثرواته واستعبدت شعبه لأكثر من نصف قرن، لكنهم مع الأسف فرّطوا بها وفوتوها على أنفسهم وعلى أجيال جديدة بعدهم، فقط لأنهم أصروا أن يضعوا الله خصمًا للحرية.
إن من مقتضيات بقاء “الثورة مستمرة” ليس فقط التظاهر والابتهاج برفع علم الاستقلال، بل العمل بجد ودأب على طرح الأسئلة الصعبة والمؤلمة حول لماذا فشلنا؟ ثم مواجهة الإجابات العقلية البعيدة عن التذاكي وإلقاء اللوم على الآخر، والمتحررة من عقدة الخوف ورهاب الدين، وإدراك أن التغيير فعل مستمر، لكن لا بد له من نقطة بداية، والبداية هنا كما أزعم إطلاق سراح العقل ومراجعة كثير من الأفكار والمسلمات، وإدراك أن الدولة الوطنية ليست على الضد مع الدين، وأن القانون ليس على الضد من الشريعة، وأن العلمانية ليست كفرًا ولا تحريضًا عليه، وأن الله ليس خصمًا لدعاة الحرية ولا الدين نقيضها، وأن كسب مختلف أطياف السوريين لقضيتهم الوطنية وثورتهم أولى من كسب رضا أي جهة أو دولة مهما عظم شأنها أو دورها. عندها فقط يمكن أن يصح القول إن الثورة مستمرة، وعندها أيضًا يمكننا الجزم بحتمية انتصارها.
–