خالد الجرعتلي | حسن إبراهيم | رهام السوادي
في قرية الباغوز السورية، شرقي محافظة دير الزور، وقعت آخر المعارك بين تنظيم “الدولة الإسلامية” و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مدعومة بقوات التحالف الدولي، في 9 من شباط وانتهت في 23 من آذار 2019، معلنة نهاية السيطرة الجغرافية للتنظيم، لكنها لم تشكل نهاية نشاطه الفعلي في سوريا.
ويتركز نشاط التنظيم، حاليًا في البادية السورية، في حين أن خلاياه تنتشر جنوبي وشمال غربي سوريا.
وقُتل عدد من قادة التنظيم كانوا يقيمون في مناطق سيطرة المعارضة السورية شمال غربي سوريا، وهو ما أظهرته العمليات العسكرية الأمريكية التي استهدفت اثنين منهم على مقربة من الحدود التركية، وأخرى نفذتها تركيا بالمنطقة نفسها، بينما قتل زعيم آخر في الجنوب السوري بمحافظة درعا.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع خبراء وباحثين متخصصين، اختلاف أشكال نشاط التنظيم، وأماكن توزعه، إلى جانب الآليات التي لا يزال يعتمدها لإمداد نفسه بالموارد المالية والبشرية في الأماكن التي انسحب منها منذ عام 2019.
الشرق مورد للتنظيم
يعتمد التنظيم في تأمين قسم من احتياجاته المالية والبشرية على قرية الباغوز وما حولها، ويعتمد على آلية جمع الأموال من السكان، كما تشكل المنطقة نفسها موردًا بشريًا على اعتبار أن البيئة الريفية تشكل حاضنة شعبية له، بحسب ما يراه خبراء وباحثون.
ولا تقتصر تحركات تنظيم “الدولة” في ريف دير الزور الشرقي على التزود بالموارد، إذ تعتبر مسرح عمليات أيضًا، تنشط فيها خلاياه، وتنفذ عمليات استهداف شبه يومية ضد “قسد” التي تسيطر على المنطقة، إلى جانب مدنيين يتهمهم التنظيم بالعمل لمصلحتها.
وفي 15 من آذار الحالي، أعلن التنظيم عن حصيلة عملياته حول العالم خلال أسبوع، ومنها سوريا، بمعدل سبع عمليات، ثلاث منها شرقي محافظة دير الزور وحدها.
وفي بلدة الباغوز ومحيطها، يرسل عناصر من التنظيم رسائل خاصة عبر تطبيق “واتساب” إلى مدنيين وتجار من أصحاب رؤوس الأموال بشكل دوري، يطالبونهم بدفع مبالغ لـ”الزكاة”، أو ما يسميها حاليًا “الكلفة السلطانية“، مع التهديد بالعقاب للممتنعين.
ومن جهة أخرى، يعمل التنظيم على استقطاب شبان وأطفال لتجنيدهم، في محاولة لإعادة بناء هيكليته وشبكة مجنديه، بحسب دراسة صادرة عن “مشروع مكافحة الإرهاب”.
واستندت الدراسة في تحليلها إلى صور نشرتها معرفات التنظيم لمقاتلين في سوريا خلال بيعتهم لزعيمه الجديد “أبو الحسين القرشي”، ظهر فيها مقاتلون يبدو على أجسامهم أنهم أطفال ومراهقون.
وفي أيلول 2022، و جه التنظيم رسائل صوتية على لسان متحدثه الرسمي “أبو عمر المهاجر”، مطالبًا فيها “المسلمين بالالتحاق بـ(الدولة الإسلامية)”، خاصًا بالذكر سكان سوريا والعراق، كونهم كانوا شاهدين على حكمه في المنطقة.
الباحث المختص بشؤون الجماعات الجهادية عباس شريفة، قال لعنب بلدي، إن منطقة الباغوز تحمل رمزية مهمة للتنظيم، كونها شهدت آخر معاركه مع التحالف الدولي و”قسد”، وفيها كان “الإسدال الأخير على عمر الخلافة”، التي أعلنها زعيم التنظيم الأسبق “أبو بكر البغدادي”، عام 2014.
ويعتقد شريفة أن التنظيم يسعى إلى الاستثمار في رمزية الباغوز، لاستعادة “الهيبة”، عبر تجنيد أكبر عدد من الشباب المحليين، الذين قُتل ذووهم في المنطقة.
وتعتبر الباغوز منطقة “هشة” أمنيًا، إذ إن سيطرة “قسد” عليها “ضعيفة جدًا”، ما يسمح للتنظيم باستعادة نشاطه تدريجيًا، وإعادة تكوين صفوفه، بحسب الباحث.
مسرح عمليات
أصدر تنظيم “الدولة الإسلامية” أحدث إحصائية لعملياته في سوريا، في 22 من آذار الحالي، تضمنت تسع عمليات في سوريا، منها ثمانٍ في محافظة دير الزور وحدها، والتاسعة في محافظة حمص.
عمليات التنظيم في دير الزور تركزت في الريف الشرقي، وأسفرت عن مقتل وجرح نحو عشرة أفراد من “قسد”، بحسب ما نقلته صحيفة “النبأ” التابعة للتنظيم عن مصادر أمنية.
ويصدر التنظيم بشكل دوري، في كل يوم جمعة من كل أسبوع، إحصائية لنشاط خلاياه ومجموعاته حول العالم، ويشير إلى العمليات التي نفذها في سوريا والعراق بشكل أكثر تفصيلًا.
ومنذ مطلع العام الحالي، سجلت عمليات التنظيم أعلى وتيرة لها منذ أكثر من عام، بحسب ما أعلن عنه التنظيم تباعًا عبر معرفه الرسمي في “تلجرام” (غرفة إخبارية مغلقة تضم صحفيين)، وتوزعت هذه العمليات على الجزء الشمالي من سوريا، وأخرى في منطقة البادية بريف حمص الشرقي.
وأعلن التنظيم عن 32 عملية في الأسبوع الأول من العام الحالي، استهدفت عناصر من قوات النظام السوري و”قسد” شمال شرقي وشرقي سوريا.
العمليات ضد “قسد” شرقي دير الزور لا تختلف عن تلك التي كان ينفذها على امتداد السنوات الماضية، لكن كثافتها كانت مختلفة، إذ تجاوزت تلك التي كان ينفذها التنظيم خلال السنوات الماضية.
في نيسان 2023، قالت وزارة الخارجية الأمريكية في إحاطة صحفية حول عمليات تنظيم “الدولة” في سوريا والعراق، إن هجمات التنظيم تراجعت في سوريا والعراق خلال الأشهر الأولى من العام نفسه، ووصفت الفترة الزمنية، حينها، بأنها “الأكثر سلمية” من حيث انخفاض عمليات التنظيم.
ورأى خبراء أمميون أن تنظيم “الدولة الإسلامية” يمتلك بين 5000 و7000 عنصر في سوريا والعراق، وأن مقاتليه في أفغانستان يشكلون اليوم أخطر تهديد “إرهابي”، في حين يحاول التنظيم إعادة بناء نفسه وتجنيد أشخاص جدد وتحديدًا من مخيمات شمال شرقي سوريا، بحسب تقرير نشرته وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية، وكذلك من “المجتمعات الضعيفة” في الدول المجاورة لسوريا.
وفي الوقت الذي وصلت فيه عمليات التنظيم لأرقام قياسية منذ نهاية سيطرته الفعلية عام 2019، تستمر قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا في سوريا والعراق بالعمل على مكافحة نشاطه، بينما تستمر “قسد” بإطلاق عمليات أمنية ضده.
وعلى الجهة الغربية لنهر الفرات، لا تزال روسيا والنظام السوري يحاولان برًا وجوًا كبح جماح عمليات التنظيم دون أثر على أرض الواقع.
من جانبها، أعلنت “قسد“، نهاية شباط الماضي، أنها أطلقت عملية أمنية لملاحقة خلايا تنظيم “الدولة” أسفرت عن إلقاء القبض على 16 من عناصره ممن تورطوا بتنفيذ عمليات طالت عناصر من “قسد”، إلى جانب آخرين قدموا تسهيلات ودعمًا لعناصر التنظيم وساعدوهم في تنفيذ عملياتهم.
وأشارت إلى أن قواتها تمكنت من ضبط أسلحة ومعدات عسكرية خلال العملية.
لماذا لم تجدِ المكافحة؟
لم تسفر عمليات تنفذها جهات مختلفة لمكافحة تحركات التنظيم في البادية السورية عن نتيجة حتى اليوم، إذ نشرت الولايات المتحدة قواعد عسكرية في البادية السورية لهذا الهدف، أبرزها قاعدة “التنف” شرقي سوريا، إلى جانب قواعد أخرى شرقي دير الزور.
وفي المقابل، تتحرك روسيا باستمرار بطائراتها الحربية لقصف مواقع ومخابئ التنظيم، في الوقت الذي لا تزال فيه خلايا الأخير تفتك بقوات النظام في البادية الممتدة بمحاذاة الحدود العراقية من حمص، وصولًا إلى الرقة.
الباحث المتخصص بشؤون الجماعات الجهادية عبد الرحمن الحاج، قال لعنب بلدي، إن نشاط التنظيم يتركز في هذه المنطقة لعدة أسباب، أبرزها أنها منطقة صحراوية كبيرة تصعب السيطرة عليها.
وأضاف أن البادية السورية تشكل منطقة استراتيجية تمثل ممرًا بين العراق وجنوبي ووسط سوريا، وهو أحد أسباب استمرار العمليات أيضًا.
ويرى الباحث أن العامل الأبرز لاستمرار العمليات في هذه المنطقة هو انتشار العشائر والقبائل التي تمثل “البيئة الاجتماعية الأساسية للتنظيم”.
الحاج قال، إن البيئة العشائرية تتيح للتنظيم حرية الحركة، وقدرة أكبر على التوطن مقارنة بالمناطق الحضرية.
ومن جانب آخر، تمثل المناطق الحضرية “بيئات معادية” لنشاط التنظيم، إذ سبق وفشل في إيجاد موطئ قدم له فيها، كما هي الحال في إدلب ودرعا، حيث قتل قادة التنظيم على مدار السنوات السابقة.
ماذا عن الجنوب السوري؟
منذ سيطرة النظام بدعم جوي روسي وبري إيراني على الجنوب السوري، في تموز 2018، تلاشى تنظيم “الدولة” من المنطقة، لكن آثاره لم تغب عنها، إذ استمرت عمليات الاستهداف والاغتيال في شوارع المدينة، التي ينسب جزء منها للتنظيم.
عمليات الاستهداف التي شهدتها محافظات درعا والقنيطرة أثارت تساؤلات حول الجهة المسؤولة عنها، لكن التنظيم خرج عام 2000، معلنًا تبنيه سلسلة استهدافات شملت 25 عملية.
وفي 20 من كانون الثاني 2023، تبنى التنظيم 34 عملية استهداف في الجنوب السوري، قال إنها أسفرت عن مقتل عشرات الأشخاص يتوزعون بين محافظات درعا، والقنيطرة، والسويداء، خلال سبعة أشهر.
وذكر التنظيم في العدد الأسبوعي لصحيفة “النبأ”، أن مجموعاته الأمنية نفذت عمليات أسفرت عن مقتل 51 شخصًا، بينهم عناصر في قوات النظام السوري وآخرون متعاونون معه.
“النبأ” قالت أيضًا، إن غياب تبني التنظيم لعملياته في الجنوب السوري، دفع ببعض وسائل الإعلام إلى نسب هذه الهجمات إلى جهات عديدة معادية لتنظيم “الدولة” في المنطقة.
وأرفقت الصحيفة صورًا تظهر جثثًا لأشخاص قُتلوا خلال عمليات نفذها جنوبي سوريا، من بينهم عناصر في قوات النظام السوري، إلى جانب مدنيين اتهمهم التنظيم بالتعامل مع النظام.
ونقلت “النبأ” عن مصدر أمني في التنظيم لم تسمِّه، أن عمليات نشر وتبني الهجمات بالنسبة للتنظيم تخضع لـ”سياسة أمنية وإعلامية لدى قيادته”.
الإعلان المشار إليه سابقًا كان الأخير من حيث تبني التنظيم لعمليات في الجنوب السوري، إذ غابت إعلاناته منذ ذلك الحين، رغم أن الاستهدافات لا تزال مستمرة، وتجري بين الحين والآخر اشتباكات بين مجموعات تتهم بالتبعية للتنظيم، وأخرى محلية من بقايا فصائل المعارضة.
لماذا يغيب تبني التنظيم
قيادي بارز في الفصائل المحلية المتحاربة مع تنظيم “الدولة” في ريف درعا الغربي، قال لعنب بلدي، إن نشاط التنظيم تراجع بعد سلسلة عمليات نوعية استهدفت قياديين وكوادر تابعة له، كان أبرزها مداهمة تجمعات للتنظيم في مدينة جاسم في تشرين الأول 2022، أدت إلى مقتل عدد من قادته.
وكانت الفصائل نفسها تمكنت من قتل قادة في التنظيم، أبرزهم “أبو عبد الرحمن العراقي” و”أبو سالم العراقي” و”أبو عمر جبابي” و”أبو لؤي القلموني”، وهم من قادة الصف الأول بالتنظيم في درعا، بحسب القيادي الذي تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية.
القيادي أضاف أنه في شباط الماضي، داهمت الفصائل المحلية منزلًا في مدينة نوى بريف درعا الشمالي، كان يتحصن فيه عناصر للتنظيم، مستهدفة “والي حوران” أسامة العزيزي الملقب بـ”الشايب”، والذي قتل خلال المواجهات.
وأشار إلى أن هذه العمليات حدّت من قدرة التنظيم لوجستيًا وماديًا، وبات غير قادر على تنفيذ العمليات التي تركز معظمها على معارضي النظام، وخاصة أعضاء “اللجان المركزية”، بحسب القيادي.
الباحث عبد الرحمن الحاج، قال لعنب بلدي، إن الجنوب السوري يعتبر بيئة حضرية أكثر تماسكًا، مقارنة بالبيئات الصحراوية العشائرية في البادية، وهو سبب رئيس لانخفاض عمليات التنظيم مقارنة بالمناطق الشرقية من سوريا.
وأضاف أن البيئات الحضرية عمومًا معادية للتنظيم، ولا تستطيع تقبل أيديولوجيا متطرفة كالتي يحملها تنظيم “الدولة”.
وأضاف أن هذه الأسباب نفسها كانت عاملًا أساسيًا لطرد التنظيم من محافظة حلب مطلع 2014.
الحاج أشار إلى أن التنظيم ظل محاصرًا في درعا حتى مع وجود فصيل صغير مبايع له، وبقي نشاطه هامشيًا حتى اتفاق الجنوب أو “التسوية” كما يطلق عليها محليًا.
بقايا الفصيل المبايع للتنظيم شكلت، بحسب الحاج، “خلايا نائمة” في درعا، لكن مؤخرًا تمكنت المجموعات المحلية من القضاء عليها.
“درعا بيئة معادية للتنظيم، لأن القوى المدنية والعسكرية الثورية تتبنى مشروعًا وطنيًا يتناقض مع أيديولوجيته المتطرفة”.
عبد الرحمن الحاج
باحث متخصص في شؤون الجماعات الجهادية
التنظيم يراكم خبرات
منذ تأسيس التنظيم وحتى اليوم، دلّت عملياته العسكرية على خبرات متراكمة لعناصره وقادته، ضمنت لهم الاستمرار والتكيف مع الظروف المتغيرة، وإرسال الرسائل الدالة على وجودهم، بحسب ما يراه الباحث المتخصص بالشأن العسكري في مركز “جسور للدراسات” رشيد حوراني.
وقال الباحث إن التنظيم ينفذ عملياته تحت ستار “السلوكيات الأمنية”، ولا يمانع أن يكون لديه تعاون مرحلي مع من يعتبرهم أعداء له، مثل النظام السوري والميليشيات الإيرانية في سبيل تبادل المصالح.
حوراني اعتبر أن عمليات الاستهداف والتصفية في المنطقة الجنوبية ضد ناشطين أو أفراد شاركوا في نشاطات المعارضة عندما كانت تسيطر على المنطقة، تسجل ضد مجهولين بسبب تبادل المصالح بين التنظيم وأعدائه في المنطقة، خصوصًا أن المجتمع المحلي يحارب وجود التنظيم منذ سنوات.
الباحث اعتبر أن إخفاء التنظيم لنشاطه في الجنوب تمويه عن وجود زعيمه في المنطقة، الذي قتلته مجموعات محلية منتصف عام 2022، وفقدت جثته عقب ذلك.
الباحث عبد الرحمن الحاج، اعتبر أن التنظيم كان يدير خلايا نائمة في درعا من بقايا “جيش اليرموك”، وكان قيامه بعمليات بشكل متواتر ومفاجئ مؤشرًا على تغيير في طبيعة وجوده.
وبعد مقتل زعيم التنظيم في درعا، أخفى نشاطه في إطار محاولات إيجاد “قاعدة آمنة” له في المحافظة.
وفي الوقت الذي عمل فيه التنظيم على تمويه نشاطه، كان يسارع بتنفيذ العمليات ويرفع من حدتها من أجل الحشد، بحسب الحاج، على اعتبار أن عمليات التنظيم ضد خصومه هي أداته في التجنيد والتمويل.
ويرى الباحث أن التنظيم لم ييأس من محاولة إيجاد قاعدة له في درعا، على الرغم من أنه قلل من عملياته مؤخرًا، لكنه فشل في الوقت نفسه بالاستمرار مع انكشاف تحركاته والقضاء على قادته من قبل الفصائل من المحلية في المحافظة.
بعد “تسوية” تموز 2018، وهزيمة فصائل المعارضة، شُكلت “اللجان المركزية” وفصيل “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة الذي تبع لـ”الفيلق الخامس” المشكّل روسيًا عام 2016 ثم تبع لـ”الأمن العسكري”.
وبقيت بعض المجموعات العسكرية الصغيرة الرافضة لاتفاق “التسوية” في درعا، والمعترضة على التفاوض بين “اللجان المركزية” والنظام السوري.
ومع مرور الوقت، وجدت الفصائل الصغيرة المتناثرة في درعا نفسها أمام خيار القبول بالتفاوض مع النظام السوري صاحب السيطرة على الجنوب السوري، أو الانخراط في تحالفات مع جماعات “راديكالية” متطرفة، لكنها فضلت الخيار الثاني، ما تركها عرضة لهجمات من فصائل تدعم “اللجان المركزية”.
الشمال مخبأ لا مكان عمليات
لطالما كانت مناطق شمال غربي سوريا كلمة السر بالنسبة لتنظيم “الدولة”، ومكانًا لاختباء خلفائه، سواء في مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” بإدلب وريف حلب الغربي وريف اللاذقية الشمالي وريف حماة الشمالي، أو مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري” في ريفي حلب الشمالي والشرقي، ومدينتي رأس العين شمال غربي الحسكة وتل أبيض شمالي الرقة.
ورغم وجود خصومة وعداء وقتال بين تنظيم “الدولة” و”تحرير الشام” التي خرجت من رحم “القاعدة” وأعلنت انفصالها لاحقًا عن أي تشكيل، لجأ أول “خليفة” للتنظيم، “أبو بكر البغدادي”، إلى مدينة إدلب، وقُتل بعملية إنزال جوي نفذتها القوات الأمريكية في منطقة باريشا بريف إدلب الشمالي، في 27 من تشرين الأول 2019، وأسفرت العملية عن مقتل سبعة أشخاص مدنيين (ثلاثة رجال وثلاث نساء وطفلة).
وقُتل الزعيم الثاني عبد الله قرداش (أبو إبراهيم القرشي) في 3 من شباط 2022، بعملية إنزال جوي أمريكية على منزل في قرية أطمة الحدودية، أسفرت عن مقتل 13 شخصًا على الأقل بينهم ستة أطفال وأربع نساء.
وفي آب 2023، اتهم تنظيم “الدولة” “تحرير الشام” بقتل زعيمه الرابع “أبو الحسين القرشي” رغم نفي “الهيئة” لذلك، في حين قُتل “أبو الحسن القرشي” ثالث “خليفة” بعملية لـ”الجيش السوري الحر” بمحافظة درعا جنوبي سوريا، في تشرين الأول 2022، وفقًا للمتحدث باسم القيادة المركزية للقوات الأمريكية (سينتكوم)، جو بوتشينو.
أجهزة أمنية واستخباراتية تلاحق التنظيم
تراجع حضور عمليات التنظيم في الشمال السوري، ترافق مع ملاحقة متكررة لعناصره وقياديين بارزين فيه من الفصائل المسيطرة، ففي إدلب نشط “جهاز الأمن العام” منذ 2020 كجهة مسؤولة عن عمليات ملاحقة المطلوبين أمنيًا، وخاصة “خلايا تنظيم الدولة”، وصار يعلن بشكل دوري عن إلقائه القبض على “خلايا نائمة”.
في آب 2023، اتهم تنظيم “الدولة” فصيل “تحرير الشام” باستهداف زعيم التنظيم “أبو الحسين القرشي” في وقت سابق، وتصفيته وتسليمه للجانب التركي، وذكر أن عناصر “الهيئة” أسروا المتحدث باسم التنظيم “أبو عمر المهاجر” وبعضًا من “إخوانه”، وقوبلت هذه الاتهامات بنفي من “الأمن العام” في إدلب.
أحدث عمليات “الأمن العام” في ملاحقة التنظيم، كان إعلانه إلقاء القبض على ما أسماها “خلية أنصار الله” في تشرين الثاني 2022، وقال إنها ذات صلة بـ”الدولة الإسلامية”، وكانت تستهدف “المجاهدين في منطقة جبل الزاوية والجيش التركي”، ونشر صورًا لخمسة أشخاص منها، بينما لم يسبق أن تبنّت أو أعلنت مجموعة باسم “خلية أنصار الله” تنفيذ أي عملية شمال غربي سوريا.
الباحث في الجماعات الجهادية عرابي عرابي، قال لعنب بلدي، إن “جهاز الأمن العام” يعد قويًا في المنطقة وخلق حالة ضبط واضحة، ويمتلك فرعين لملاحقة تنظيم “الدولة”، الأول للعناصر الأجانب، والآخر لملاحقة عناصر التنظيم السوريين.
ورغم ذلك، يحصل بعض التسرب من عناصر سابقين أو عناصر كانوا قديمًا مع التنظيم وانضموا لـ”الهيئة”، لكن لا يزالون يحملون عاطفة نوعًا ما، أو يحصل اتفاق مع الفصائل المسيطرة بترك العناصر التي ليست لها قدرة على تشكيل خلايا أو على تشكيل حالة من التطرف والدعاية للتنظيم، لكنهم يبقون تحت الأنظار لمعرفة تأثيراتهم على المنطقة.
وفي 19 من آذار الحالي، تداولت مواقع إخبارية وغرف “تلجرام” (واسع الانتشار في الشمال السوري)، أخبارًا بأن “تحرير الشام” أفرجت عن القيادي السابق في التيار السلفي الجهادي بالأردن، والمنشق عن تنظيم “الدولة” سعد الحنيطي، بعد قرابة ست سنوات من اعتقاله.
واعتقلته “الهيئة” في 22 من حزيران 2018، واتهمته حينها بأنه أحد قياديي الخلايا التابعة للتنظيم في إدلب، وأنه مسؤول عن إدارة بعض عمليات التفجير والاغتيال في المنطقة.
تواصلت عنب بلدي مع المكتب الإعلامي لدى “تحرير الشام” ومع “جهاز الأمن العام”، للتأكد من صحة الإفراج عن القيادي السابق في التنظيم، لكنها لم تتلقَ ردًا حتى لحظة نشر هذا الملف.
مخابرات تركية وأجنبية حاضرة
أما في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري” فلا وجود لجهاز مخصص لملاحقة عناصر التنظيم وخلاياه، ويبرز جهاز المخابرات التركية الذي ينفذ عمليات متفرقة مع فصائل “الوطني”، كما أن الأخيرة تجري عمليات مداهمة واعتقال لمتهمين بانتمائهم للتنظيم، دون وتيرة ثابتة أو خطة واضحة.
وأعلنت السلطات التركية إلقاء القبض على زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية” في محافظة حلب، ويدعى عبد الله الجندي الملقب بـ”خطاب المهاجر“، وقالت في 1 من كانون الثاني الماضي، إنه كان يستعد للعمل ضد قوات الأمن التركية في منطقة عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” بريف حلب.
وذكرت أن عملية الاعتقال جرت في ريف حلب الشمالي، بمشاركة قوات من “الجيش الوطني”، وكان يخطط لهجوم على مركبات تابعة لقوات الأمن التركية في سوريا، وأن تنظيم “الدولة” يقوم “بأنشطة استطلاعية من وقت لآخر في هذا السياق”.
وفي 30 من نيسان 2023، أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن جهاز الاستخبارات التركية (MIT) “حيّد” زعيم تنظيم “الدولة”، “أبو الحسين القرشي”، بعملية في مدينة جنديرس شمالي حلب، في 29 من الشهر نفسه، قائلًا إن جهاز الاستخبارات كان يتعقبه منذ فترة طويلة، (تبعه نفي التنظيم لذلك واتهام “تحرير الشام”).
تواصلت عنب بلدي مع إدارة الشرطة العسكرية التابعة لـ”الحكومة السورية المؤقتة” (مظلة سياسية لـ”الجيش الوطني”) للحصول على إحصائيات عن عدد المعتقلين في سجونها سواء من عناصر تنظيم “الدولة” أو من المتهمين بالانتماء إليه، لكنها لم تتلقَ ردًا حتى لحظة نشر هذا الملف.
“ينظر تنظيم (الدولة الإسلامية) إلى سوريا ككل على أنها أرضه ويحاول استعادتها والتمدد فيها، لكن حاجته لبعض المناطق في الشمال السوري هي حاجة لوجستية، ولكي يحافظ على ذريته وعلى عدم استهدافها، حتى لا تتقطع أو تنتهي مصالحه في المنطقة”.
عرابي عرابي
باحث في شؤون الجماعات الجهادية
إضافة إلى الأجهزة الأمنية المذكورة، لا تنكرقوات التحالف وجود عملاء لها على الأرض، عقب إعلانها عن عمليات استهداف قياديين وعناصر يتبعون للتنظيم، كما أن “تحرير الشام” تُتهم بالتنسيق مع أجهزة استخبارات لإعطاء معلومات عن المقاتلين الأجانب في مناطق سيطرتها.
وفي كانون الأول 2023، اتهم القيادي جهاد عيسى الشيخ المنشق عن “تحرير الشام”، قائد الفصيل “أبو محمد الجولاني” بفعل كل وجوه العمالة، وتبديل أثوابها مقابل ثمن دون أي توضيحات أخرى عن طبيعة التعامل وماهيته والثمن مقابل ذلك.
وذكر الشيخ أن “الجولاني” فتح سجون “الهيئة” للاستخبارات البريطانية والأمريكية، إلى جانب شعوره بالفخر مع علاقاته “الجميلة” مع الأمريكيين.