المخطط الكولونيالي لميناء في غزة

  • 2024/03/17
  • 2:47 م
لمى قنوت

لمى قنوت

لمى قنوت

تحت عنوان إرسال المساعدات وتوزيعها في قطاع غزة، يتم العمل على إحداث تغييرات على أرض الواقع بخطى حثيثة. وبخطين متوازيين، تنفذ الإدارة الأمريكية قرار الاحتلال بدخول المساعدات عن طريق البحر، عبر إقامة رصيف عائم في المياه الإقليمية لتفريغ السفن القادمة من قبرص والمحملة بالمساعدات، لتصل إلى البر عبر ميناء يتم تشييده الآن في منطقة البيدر أقصى جنوبي مدينة غزة، وعلى حدود المحافظة الوسطى، وليس عبر الميناء الرئيس في غزة كما يُقال. وبخط موازٍ آخر، يعمل جيش الاحتلال على تقسيم قطاع غزة إلى مناطق ونواحٍ، وتمكين وخلق كيانات موازية لسلطة “حماس”، كالعشائر والعائلات، لتتولى مبدئيًا مسؤولية توزيع المساعدات، ثم تتزاحم فيما بينها على السلطة والنفوذ والموارد، من جهة، وتزاحم “حماس” على السلطة من جهة أخرى، تمهيدًا لفرض وكيل استعماري من المحليين، يبسط سلطته ويحول الحق الفلسطيني إلى مظلومية خدمات.

تفتيت المجتمع الغزي

رفض التجمع الوطني للقبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية مخطط الاحتلال في تقسيم القطاع وإدارته، وذلك عبر بيان أصدره في 5 من كانون الثاني 2024، وشدد فيه على أنه يدعم المقاومة، وطالب العالم بالوقوف في وجه الاحتلال وداعميه وشركائه لوقف مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، وإفشال مشاريع تهجير شعبها عن أرضه. وبعد هذا البيان، صدر بيان آخر باسم “عائلات وعشائر قطاع غزة” في 13 من آذار 2024، يحمل في طياته بصمات الاحتلال ورغبته في إحداث اقتتال داخلي في القطاع، فالبيان لا يكتفي باتهام عناصر “حماس” بالعمل مع عصابات المخدرات وارتكابهم جرائم قتل وسرقات، بل ويعربون فيه، كعائلات وعشائر، عن استعدادهم للحديث مع “أي جهة أممية”، بخصوص سلطات تدير القطاع.  واللافت، أن البيان يذكر أسماء عائلات فلسطينية معروفة بولائها لمنظمة التحرير، و”فتح” تحديدًا. الجدير ذكره بأن العشائر في قطاع غزة والعائلات القوية كانت واحدة من أكبر التحديات التي واجهتها “حماس” إبان سيطرتها على القطاع قبل 17 عامًا.

من غير الواضح مدى مصداقية البيان الثاني أو وجود حقيقي لجهة تدعى “عائلات وعشائر قطاع غزة”، وقد يكون هذا البيان جزءًا من الحرب النفسية لتفتيت المجتمع الغزي، وإذا صحت الفرضية الأخيرة فهي تعكس فشل الاحتلال بإغراء عائلات وعشائر بالسلطة والموارد. وفي تجربة كولونيالية أخرى، كلف الاحتلال مدير المخابرات الفلسطينية، ماجد فرج، مهندس التنسيق الأمني مع الاحتلال، ببناء قوة مسلحة من عائلات لا تؤيد حركة “حماس” في جنوبي القطاع من أجل توزيع المساعدات، وبناء بديل عن الحركة في اليوم التالي للعدوان.

تقويض عمل المنظمات

يستهدف ويقوض الاحتلال عمل المنظمات الدولية العاملة على تنسيق وتوزيع المساعدات بشكل ممنهج، فبعد تبني 15 دولة مزاعم إسرائيل في “تورط” بعض موظفي “أونروا” في عملية “7 أكتوبر” (تشرين الأول)، من أجل إضعافها وتصفيتها للقضاء على حق العودة، يواصل الاحتلال استهداف موظفيها ومنشآتها، ففي 13 من آذار 2024، قصف أحد مراكزها المخصص لتوزيع ما تبقى من المساعدات الشحيحة في القطاع، في الوقت الذي يستخدم الاحتلال فيه سلاح التجويع كسلاح حرب ضد المدنيين، وقتل ما لا يقل عن 165 من العاملين في “أونروا”، منهم من تم قتله خلال تأدية عمله، وتعرض موظفوها لسوء المعاملة والإذلال في أثناء احتجازهم بمراكز احتجاز الاحتلال، وتم إجبار بعضهم على “الاعتراف” كذبًا بصلة الوكالة بـ”حماس”، وأن موظفين فيها شاركوا بعملية “7 أكتوبر”. ومنذ بداية العدوان على غزة أصبح الاعتداء على مرافقها وقوافلها وموظفيها أمرًا شائعًا. كما يرهب الاحتلال دور المبادرات الفردية التطوعية بالإشراف على توزيع المساعدات من خلال الاستهداف المباشر للناس المتجمهرين حول شاحنات المساعدات.

الميناء كموطئ قدم كولونيالية إضافية

لقطاع غزة 6 معابر مع الأراضي المحتلة أو مع الضفة، أغلقها الاحتلال جميعها، منها 5 معابر مغلقة منذ محاصرة القطاع في حزيران 2007، أما معبر “رفح” الذي يخضع للسلطة المصرية، فالاحتلال يتحكم فيه بشكل كامل بسبب سياستها الانهزامية تجاه القضية الفلسطينية، باستثناء فرض التربح على من يريدون الخروج من القطاع، وبأسعار ينوء عن تحملها غالبية الفلسطينيين والفلسطينيات. تتكدس الشاحنات قرب المعبر بهدف التجويع وقطع كل الإمدادات المنقذة للحياة، ولا يجد الاحتلال نفسه مضطرًا لتقديم ذرائع، ولكن حين يقدمها، كما حصل مؤخرًا حين منع عبور شاحنة بسبب احتوائها على مقص للأطفال، تبدو كجزء من سياسة الاستمتاع في التعذيب.

والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا اللجوء إلى بناء “الميناء المؤقت” واختيار إيصال المساعدات بحرًا، فمع الهوس الكولونيالي في الإخضاع والنهب، لا بد من التمحيص في جميع زوايا هذا المشروع:

أولًا، الإيحاء بتعقيد مسألة إدخال المساعدات، وتبرئة الإدارة الأمريكية من دورها في ممارسة التجويع وخدمة بايدن بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، التي من المحتمل أن يخسرها بسبب الغضب العارم من المشاركة في الإبادة الجماعية ضد سكان القطاع، وخاصة في صفوف العرب والمسلمين والسود الذين فاز بأصواتهم في عام 2020 ضد ترامب.

ثانيًا، تطوير الميناء لنهب حقل غاز مارين الواقع قبالة شواطئ غزة، والمُكتشف في تسعينيات القرن الماضي، والذي كانت السلطة الفلسطينية قد منحت رخصة حصرية للتنقيب عن الغاز والنفط في عام 1999 لشركة “بريتش غاز” (British Gas)، وشركائها شركة اتحاد المقاولين، وتم التصديق على الاتفاقية في عام 2002 ولمدة 25 عامًا، وتغطي الاتفاقية نقل وتوصيل الغاز إلى مناطق السلطة الفلسطينية، إلا أنها لم تدخل حيز التنفيذ. وفي عام 2017، صدر قرار من رئاسة الوزراء بتمديد الاتفاق حتى 25 من أيار 2042. وبين عام 2001 و 2006، لم تتفق شركة “بريتش غاز” مع الاحتلال الذي كان يرغب بشراء الغاز الفلسطيني بسعر أرخص من الأسعار العالمية، وتم تعديل الاتفاقية بتغيير نسب الشركاء، إلى أن باعت شركة “بريتش غاز” حصتها لشركة “رويال ديتش شل” في 2016، وفي العام الذي يليه استحوذ “صندوق الاستثمار الفلسطيني” (مؤسسة شبه حكومية) و”اتحاد المقاولين” على حصة شركة “شيل”، وأصبحا يملكان 50% لكليهما، ثم 7في عام 2018، شكلت السلطة الفلسطينية ائتلافًا يضم الصندوق والاتحاد مع الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية، وبعد 30 عامًا وافق الاحتلال للفلسطينيين على العمل المشترك مع مصر لاستخراج الغاز الطبيعي، لكن الاحتلال منع استفادة قطاع غزة من الغاز وعائداته، ومنع مشاركة “حماس” في المشاركة بأي حوارات تخص حقل غاز مارين. لقد وضع الاحتلال وطوال العقود السابقة عقبات ليمنع الفلسطينيين والفلسطينيات من التحكم في ثرواتهم ومواردهم، وهو الآن في وضع مريح وفرصة ذهبية للاستيلاء عليها، بعد تطوير الميناء.

ثالثًا، توفير المزيد من الشرعية لإطالة العدوان على القطاع واستمرار احتلاله، ولشن هجوم وحشي على رفح، ومن ثم لبنان كهدف معلن للاحتلال.

رابعًا، إضعاف دور معبر رفح، الذي قد يُغلق نتيجة الهجوم على رفح.

خامسًا، هناك قلق كبير من استخدام الميناء لتهجير الفلسطينيين والفلسطينيات عبر السفن المتجهة إلى قبرص.

سادسًا، يوفر إشغال المجتمع الإسرائيلي بحروب نتنياهو فرصة للأخير ليبقى بعيدًا عن المحاسبة.

إن التطور السريع لمجريات حرب الإبادة الجماعية على سكان غزة والانتهاكات الواسعة النطاق على سكان الضفة الغربية وسط بيئة عربية تحكمها أنظمة معادية للحرية ولجميع أشكال المقاومة، سواء كانت ضد الاحتلال أو الاستبداد، والغطاء الواسع النطاق، وغير المسبوق، للجرائم التي يرتكبها الاحتلال وشركاؤه وداعموه، وممارساته التفتيتية في قطاع غزة، تشير إلى أن مخططًا يحمل تغييرًا كبيرًا لفلسطين وللمنطقة لن تتوقف وحشيته على حدود القطاع.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي