خالد الجرعتلي | حسن إبراهيم | ريم حمود | يامن مغربي
ينحسر الخلاف على تاريخ الثورة، أمام حالة الانقسام التي عصفت بالمجتمع السوري، وارتفاع جدار الخوف الذي أعاد بناءه النظام في السنوات الأخيرة، واستمرار الانتهاكات وارتكاب جرائم الحرب التي تمارسها سلطات الأمر الواقع وعلى رأسها النظام.
لسنوات، اختلف بعض السوريين على متى وأين انطلقت أول مظاهرة في سوريا، فيفضل بعضهم التذكير بأول مظاهرة انطلقت من سوق الحميدية بدمشق في 15 من آذار 2011، ويميل قسم آخر لاعتبار المظاهرة التي انطلقت من الجامع “العمري” بمحافظة درعا في 18 من آذار للعام نفسه، وجرى إطلاق النار عليها وسقوط أول شهيدين مدنيين فيها، هي بداية الحراك، وهو ما يبدو أنه لم يعد أولوية لغالبية المختلفين في الوقت الحاضر على الأقل.
وبأكثر من اتجاه، يعيش السوريون اليوم بمختلف انتماءاتهم السياسية والدينية والعرقية ظروفًا صعبة ومعقدة، كما يعاني الملايين جراء انهيار الوضع الاقتصادي وندرة الخدمات، وعجز الحكومات المسيطرة عن معالجة وتأمين الاحتياجات، في وقت بات فيه حسم الملف السوري مقرونًا بأهواء دول تدعم الأطراف المختلفة داخل البلاد.
الظروف الصعبة أمنيًا واقتصاديًا انعكست في آراء السوريين خلال استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي في مناطق السيطرة الأربع، وشمل 47 شخصًا.
تفاوتت رؤى الشريحة المستطلعة آراؤها حيال مستقبل البلاد، وإمكانية التوصل إلى حل سياسي، وعودة التماسك المجتمعي، وهو ما يناقشه هذا الملف مع خبراء وباحثين.
سوريا من كيان إلى كيانات
أفضت الحرب المشتعلة في سوريا على مدار 13 عامًا إلى تحولات جذرية، بعضها كان مفاجئًا، وأحدث تغييرًا كبيرًا في سياق الأحداث، بل أنتج سلطات أمر واقع جديدة، تتحكم بحياة السوريين وتحكمهم.
وتشكلت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) عام 2015، من فصائل كانت تسمى “معتدلة”، وأخرى كردية يعتبرها بعض السوريين حتى اليوم “أجنبية”، كونها تمثل أيديولوجيا أطلقها حزب “العمال الكردستاني” الذي انطلق من تركيا قبل سنوات طويلة.
ويدير هذا الكيان العسكري اليوم حياة السوريين في شمال شرقي سوريا، باسم مظلته السياسية التي أضافت حديثًا كلمة “ديمقراطية” لاسمها، لتصبح “الإدارة الذاتية الديمقراطية”، بينما يشتكي سكان المنطقة من شرخ كونته ممارسات هذه السلطة بين المكونين، العربي (غالبية السكان) والكردي (الحاكم)، إلى جانب أن المنطقة تحولت إلى مسرح عمليات عسكرية تركية، إذ تقول أنقرة إنها تلاحق منظمات كردية مصنفة على قوائم الإرهاب لديها.
وبمحاذاة شمال شرقي سوريا باتجاه الغرب، على الحدود مع تركيا، تحكم “هيئة تحرير الشام” التي شكلت نواتها تنظيمات جهادية، إذ تدير مفاصل حياة السوريين بمحافظة إدلب، وجزء من أرياف حلب الغربية، والشمالية، ومساحة من ريف اللاذقية الشمالي، وجزء من ريف حماة أيضًا، ويحرم وجودها أبناء المنطقة من خدمات كان من الممكن أن تصل إليهم، بسبب وجود “الهيئة” على “لوائح إرهاب” دولية، تمنع توجيه دعم للمنطقة.
ومنذ أيام، لم تتوقف الاحتجاجات المنادية برحيل زعيم “تحرير الشام”، أحمد الشرع الملقب بـ”أبو محمد الجولاني”، وسط محاولات الأخير اعتقال معارضيه، وملاحقة التهديدات التي تلف بكيانه الذي شيده على ركام المباني المدمرة بفعل العمليات العسكرية على مدار سنوات.
وبين شمال غربي وشرقي سوريا، تسيطر حالة فصائلية تعرف بـ”الجيش الوطني السوري” على ريف حلب الشمالي وجزء من الشرقي، تحاول مظلتها السياسية “الحكومة السورية المؤقتة” تنظيمها منذ سنوات، لكن جهودها لم تنعكس على أرض الواقع حتى اليوم.
وتواجه هذه الفصائل اتهامات بارتكاب انتهاكات، منها ما هو موثق بالصوت والصورة، ويعزو مسؤولون هذه الانتهاكات إلى أن فصائل المعارضة حالة جديدة، لا خبرة لها، وتعمل جاهدة على تدارك الأخطاء.
تدهور أمني بمناطق النظام
لا يمكن النظر إلى مناطق سيطرة النظام السوري على أنها منطقة جغرافية واحدة، ورغم أن السيطرة العسكرية الفعلية هي واحدة في معظمها، فإن السياقات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية تختلف فيما بينها.
وبينما حصرت مناطق سيطرة النظام عام 2015 بمساحة جغرافية ضئيلة، بأجزاء من حماة وحمص والمحافظات اللاذقية، وجزء من محافظات الجنوب، أحدث التدخل الروسي العسكري في سوريًا خللًا بتوازن القوى، إذ أعاد للنظام السيطرة على مساحات واسعة من الخارطة السورية.
بعض المناطق التي دخلها النظام بموجب “تسوية أمنية”، وهي اتفاق بين أبناء عدد من المناطق وقوات النظام بوساطة روسية، ما زالت ترفض وجود النظام فيها، وتنعكس حالة الرفض هذه بعمليات استهداف واغتيالات لعناصر من قواته في شوارعها.
الجنوب السوري يشكل خير مثال على حالة الرفض، إذ لا تزال قرى ومدن بكاملها تمنع دخول أي مظاهر عسكرية للفروع الأمنية أو القوات العسكرية للنظام السوري منذ أكثر خمس سنوات، إلى جانب عمليات الاستهداف اليومية لعناصره وجنوده على الطرق الواصلة بين القرى والمدن.
ويمكن إسقاط هذه الحالة على معظم المناطق التي سيطر عليها النظام عقب 2015، بموجب اتفاقيات “التسوية” التي لعبت روسيا فيها دور الوسيط، ثم تخلت عنها لاحقًا.
الاقتصاد بانحدار مستمر
وبالتوازي مع حالة الانقسام وانعدام الأمن، يستمر الوضع الاقتصادي بالتدهور، تحت ضغط العقوبات الغربية، وعدم قدرة النظام وروسيا على استعادة المناطق الجغرافية الغنية بالموارد، كونها مناطق نفوذ أمريكية شرقي سوريا، إضافة إلى سوء إدارة الوضع الاقتصادي وضعف الموارد خارج مناطق نفوذ النظام.
ويعيش السوريون في مناطق السيطرة الأربع ظروفًا معيشية متشابهة، ومتردية، كما يعزز الصراع والانقسام حالة الانفصال الاقتصادي مع تراجع قيمة الليرة وضعف تداولها، ففي شمال غربي سوريا، يتداول سكان المنطقة الليرة التركية، والدولار الأمريكي في بعض الأحيان، مستعيضين بهما عن العملة السورية المحلية.
وبينما حافظ شمال شرقي سوريا على اقتصاده مرتبطًا بالبنك المركزي في دمشق، تمكنت “الإدارة الذاتية” من تأمين رواتب لموظفي مناطقها أفضل من تلك التي يطرحها النظام، فبينما يصل راتب الموظف الحكومي لدى “الإدارة” إلى أكثر من مليون ليرة سورية، فهو لا يتجاوز 250 ألفًا لدى النظام.
ويستمر الوضع الاقتصادي في سوريا بالتدهور عامًا تلو الآخر، كما تدفع سياسات حكومة النظام إلى استمرار التضخم المالي، وجلب أرقام قياسية في مؤشرات انهيار الاقتصاد مثل قيمة الليرة وأسعار الذهب والوقود كل عام.
وتراجعت قيمة الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي بنسبة وصلت إلى 113% على أساس سنوي خلال عام 2023، وبنسبة 180% على صعيد النشرات الرسمية التي يصدرها مصرف سوريا المركزي.
وخلال عام 2023، سجلت الليرة السورية أقل قيمة لها أمام الدولار، في 16 من آب، وبلغت 15500 ليرة، وذلك بعد يوم واحد من إعلان زيادة في الراتب الشهري بنسبة 100% بالليرة السورية.
وبلغ سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار لحظة تحرير هذا التقرير 13850 بحسب موقع “الليرة اليوم” المتخصص برصد حركة العملات في سوريا.
وبالنسبة للذهب، ارتفع سعر مبيع الغرام من عيار 21 قيراطًا إلى 812 ألف ليرة سورية، في كانون الأول 2023، بينما كان يبلغ، بحسب “الجمعية الحرفية للصياغة وصنع المجوهرات بدمشق”، 325 ألف ليرة مطلع العام الحالي، أي بنسبة زيادة وصلت إلى نحو 150%.
أما المحروقات فارتفعت أسعارها لأرقام قياسية خلال 2023، بما يشمل “المدعوم” و”الحر” منها أيضًا، في ظل التقنين الحكومي ببيع هذه المواد والانخفاض الكبير بالقوة الشرائية للسكان.
ووصلت نسبة الزيادة خلال العام الحالي في سعر الليتر من البنزين “المدعوم” إلى 200%، وفي “الحر” إلى 226%، أما مادة المازوت فقد بلغت نسبة الزيادة في “المدعوم” 185%، وفي “الحر” 159%.
وتعد أيضًا الموازنة العامة للدولة أحد أهم المؤشرات على وضع الاقتصاد المحلي، ويتخذ هذا المؤشر منحى تنازليًا بعد أن كانت موازنة العام 2024 الأقل قيمة منذ عام 2011، إذ بلغت 35550 مليار ليرة سورية بينما بلغ إجمالي العجز في الموازنة 9404 مليارات ليرة، وحسب سعر صرف الدولار بالمركزي حين صدورها (12600 ليرة) تساوي نحو 2.82 مليار دولار، وهو تراجع بالقيمة مقداره 2.66 مليار دولار، وبنسبة 48% عن موازنة العام الماضي.
هل الثورة مستمرة؟
تفاوتت الآراء بالنسبة للسوريين الذين استطلعت عنب بلدي آراءهم في مختلف مناطق السيطرة، وفي رد على سؤال “هل ترى أن الثورة السورية مستمرة؟”، رأى 25 شخصًا من أصل 42 (+59%) أن الثورة لا تزال مستمرة.
ورأى 16 شخصًا (+38%) ممن شملهم الاستطلاع، أن الثورة السورية انتهت منذ سنوات.
وأجاب شخص واحد بالحياد (لا أعلم).
الواقع السياسي والاقتصادي والأمني، وحتى الاجتماعي، أثر في رأي الشرائح المستهدفة بالاستطلاع بشأن الأسباب التي تقف وراء ذلك، إذ رأى بعضهم أن الثورة ليست مستمرة لأنها انحرفت عن مسارها وارتهنت لدول الخارج.
بينما غادر حملة المطالب الأساسية البلاد، أو جلسوا في منازلهم معتكفين عن النشاط.
وتنظر شريحة من السوريين إلى مستقبل سوريا على أنه عبارة عن منطقة مليئة بالقتل والجوع والسرقة والاغتصاب وانتشار المخدرات.
كيف ينظر السوريون إلى المستقبل؟
انعكست التقسيمة الحالية لمناطق السيطرة في سوريا على الاستطلاع الذي أجرته عنب بلدي، إذ أبدت الشريحة الكبرى تمسكًا بأهداف الثورة، بينما ظهرت على الآراء المستطلعة في المناطق التي سيطر عليها النظام السوري خلال السنوات الماضية في دمشق ودرعا حالة من الإحباط، وحافظت السويداء على زخم حراكها المناهض للنظام، الذي لا يزال قائمًا، إذ أبدى المستطلعة آراؤهم من هذه المحافظة تفاؤلًا برحيل النظام، وبناء دولة مدنية في المستقبل.
المشكلة أكبر من بشار الأسد
أبدت نسبة مرتفعة من السوريين المستطلعة آراؤهم بمختلف مناطق السيطرة تشاؤمًا حيال ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع مستقبلًا في البلاد، وخلال إجابتهم عن سؤال “كيف ترى مستقبل سوريا؟”، قال 15 شخصًا إنهم يرون أنه ذاهب للأسوأ، و16 قالوا إنهم لا يعرفون، بينما أبدى 16 شخصًا (+34%) تفاؤلًا بالمستقبل.
تشير الإجابات إلى أن نحو 65% من السوريين إما ليسوا متفائلين أو أنهم لا يملكون فكرة حيال مستقبل سوريا.
سألت عنب بلدي المتخصصين حول إمكانية التغيير في رأس هرم النظام وآثار ذلك، إذ يرى الزميل الأول في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، داني بعاج، أن قضية رحيل رئيس النظام السوري، بشار الأسد، عن سدة الحكم “تفصيل صغير قليل الأهمية”، إذ يرتبط التغيير بدور سوريا الإقليمي، لا بدور الأسد في الحكم.
وقال في حديث إلى عنب بلدي، إن سوريا كانت تاريخيًا لاعبًا إقليميًا، وتحولت عقب اندلاع الثورة إلى “كرت تفاوض”، كنتيجة لسماح الأسد بتدخل إيران السافر في البلاد، وهو ما شكّل ملامح “صراع على سوريا”، وجعل دور سوريا الإقليمي السابق مرتهنًا بالكامل لإيران، وهو ما يدل على أن المشكلة لم تعد بشار الأسد، بل هي أكبر من ذلك.
وانطلاقًا من الواقع الذي وصفه بعاج، يعتقد الباحث أن التسوية السياسية التي قد تتوصل إليها الجهات الدولية النشطة في الملف السوري هي ما سيحدث مستقبلًا، وفي حال اتفقت الأطراف على رحيل الأسد، سيرحل، والعكس بالعكس.
وينظر بعاج إلى سيناريو رحيل الأسد على أنه الأقل احتمالًا من حيث فرص التطبيق، وليس لجهة إمكانية الوصول إلى هذا الاحتمال، والسبب، بحسب بعاج، هو أن النظام يلعب دورًا في توازن داخلي، وطالما أن المعارضة لا تزال في مكانها، ولم تلعب دورًا في هذا الإطار، فلن تكون هناك فرص لفرض سيناريو جديد يفضي لرحيل الأسد.
من جانبه، مدير قسم المعلومات والباحث في مركز “جسور للدراسات”، وائل علوان، ينظر إلى الوضع الراهن في سوريا على أنه أكبر من شخص بشار الأسد، ولو أن الأخير يتحمل مسؤولية كل ما حدث على مدار السنوات الـ13 الماضية، معتبرًا أن تغيير الأسد لن يحل مشكلات السوريين اليوم.
وقال علوان لعنب بلدي، إن الحل يكمن في تغيير النظام بالكامل، مشيرًا إلى أن الآلاف من الضباط العاملين تحت قبة النظام متورطون فعليًا بدماء السوريين، ولن تصل المعارضة لنتيجة بتحييد بشار الأسد والإبقاء على هؤلاء.
علوان اعتبر أن التدخل العسكري الروسي في الملف السوري عام 2015، دوّل قضية السوريين، وجعلها مرتبطة بشكل وثيق بتفاهمات ومصالح دولية خارجية.
وبناء على ما سبق، يرى علوان أن رحيل بشار الأسد من السلطة هو جزء رئيس من الحل، لكنه ليس الحل بالكامل.
رحيل الأسد ضرورة للحل
السياسي السوري المعارض يحيى العريضي، قال لعنب بلدي، إنه إذا كان البحث قائمًا عن حل جذري للقضية السورية، فيجب النظر إلى أن رحيل “منظومة” النظام السوري هو أكثر من ضرورة.
ومن جهة أخرى، إذا كانت الحلول “ترقيعية” أو مؤقتة، فيمكن تأويل الحل ليقود إلى غير ذلك.
ويرى العريضي أن سوريا اليوم مقسّمة تحت سطوة سلطات الأمر الواقع، التي ارتكبت بدورها بعض الانتهاكات، لكنها لا تعادل عُشر ما ارتكبه النظام السوري بحق السوريين.
وأضاف أن سلطات الأمر الواقع تسيطر على مناطق منذ سنوات، لكن هذه السيطرة تعتمد بالكامل على وجود قوى دولية أو إقليمية أخرى بجانبها، إذ تدعم أمريكا “قسد” شمال شرقي سوريا، وتركيا تدعم “الجيش الوطني” شمالي حلب، وتستفيد “تحرير الشام” من هذا الدعم في إدلب.
وتقف إيران وروسيا إلى جانب قوات النظام السوري وسط وجنوبي سوريا.
وبالنظر إلى واقع انتشار هذه السلطات، يرى العريضي أن شرعيتها بالكامل مستمدة من قوى أجنبية، ولا توجد أي جهة بينها تستمد شرعيتها الفعلية من الشعب السوري.
تفتيت الصراع
الباحث السياسي في مركز “عمران” عمار قحف، أرجع تفاؤل السوريين بوجود حل قريب، إلى حالة المعاناة والتهجير التي عانوها على مدار السنوات الماضية، التي زادتهم إصرارًا على التمسك بمطالبهم.
وفي الوقت نفسه، استبعد قحف التوصل إلى أي حل سياسي أو تسوية حقيقية خلال العامين المقبلين على أقل تقدير.
وأضاف أن المنطقة بالكامل تمر “بمخاض جديد عنوانه إعادة الاستقرار في المنطقة”، ولم يظهر حتى اللحظة تعريف محدد لهذا الاستقرار من قبل الفاعلين الإقليميين، وبالتالي لا يمكن قراءة انعكاسات لهذه التغييرات لكل بلد على حدة، من بينها سوريا.
الباحث أضاف أنه لا يمكن لأي حالة من الاستقرار أن تشمل الأسد، خصوصًا أن النظام السوري لا يملك أدوات الاستقرار أصلًا، ولا يمارس دوره وفق اللعبة الإقليمية وقواعد إدارة الأزمة في المنطقة.
قحف أشار إلى أن النظام السوري لا يزال ممانعًا لأي حل قد يفرض استقرارًا في المنطقة، وهو ما تسبب بفشل محاولات التطبيع معه كاملة، ما يضعه في موضع “غير معروف المصير” ضمن تطورات الأحداث.
وتوقع قحف أنه لا حل أو تسوية تلوح في الأفق، إنما تحاول الجهات الفاعلة بالملف السوري “تفتيت الصراع” وتحويله إلى صراعات صغيرة هنا وهناك، وهجمات بطائرات مسيّرة، وعمليات عسكرية نوعية من جميع الأطراف.
وفي الوقت نفسه، يرى قحف أن حالة تجميد الصراع في سوريا لا تزال هشة، لكن التداعيات الخطيرة لحالة تجميد الصراع أو تفتيته هي حالة الانقسام في المجتمع السوري نحو مجتمعات صغيرة تتعدد فيها أنماط الحكم، والنماذج التعليمية، والعملات المستخدمة، وهو ما ينذر بخطر على مستقبل سوريا كدولة واحدة.
مجتمع منقسم
لطالما كانت الجملة التي طرحها رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في حديثه أمام أعضاء مجلس الشعب السوري عام 2017 محط سخرية بالنسبة للجمهور المعارض له، إذ قال إن سوريا خسرت خيرة شبابها لكنها كسبت “مجتمعًا متجانسًا بالمعنى الحرفي لا بمعنى المجاملات”.
السنوات الـ13 الماضية، أظهرت ما يمكن وصفه بالشرخ بين مكونات المجتمع، وهو ما دفع جهات دولية، وحكومات، لوصف ما يحدث في سوريا بأنه “نزاع” أو “حرب أهلية”، بدلًا من وصف “الثورة السورية” الذي تبناه ملايين السوريين، وتداولته كثير من وسائل الإعلام.
طرحت عنب بلدي سؤالًا في استطلاعها، مفاده ما إذا كان المشاركون يعتقدون أن المجتمع السوري متشابه، وجاءت الإجابات متفاوتة حسب توزع العينة التي سئلت في مناطق السيطرة الأربع، لكنها عبرت عن عمق الأزمة على المستوى الاجتماعي.
ورأى أكثر من 57% من السوريين المستطلعة آراؤهم أن الشعب السوري اليوم غير متشابه، والنسبة الباقية توزعت بين اعتباره متشابهًا أو الإجابة بـ”لا أعلم”.
تعكس الأرقام أثر الصراع في بنية المجتمع، وربما تشير هذه الأرقام إلى عدم وجود هوية وطنية جامعة في سوريا.
لتفسير آراء السوريين، سألت عنب بلدي الدكتور في علم الاجتماع حسام السعد، ليوضح أن مفهوم التجانس يحال إلى وجود مجموعات اجتماعية تتطابق في الدين والنظام الاجتماعي والأسري والقيم والمعتقدات، بحيث تكون رابطة لهم ومُوجهة لسلوكهم وأفعالهم، وهو ما ينتج التشابه في أنماط الشخصيات والأفكار، لكن يمكن أن يختلفوا بمفهوم الانسجام الذي يعني وجود أنماط فكرية وشخصيات مختلفة لكنها تتميز بالتقبل، وتقدير الاختلاف، وهو سمة المجتمعات المعاصرة عمومًا.
وحول اختلاف آراء السوريين فيما يتعلق بانسجام المجتمع من عدمه، يرى السعد أن الانقسام حول أي فكرة أو حالة راهنة هو حالة صحية، وتبنى على قراءة كل شخصية لمعنى الانقسام من وجهة نظره، تبعًا للخلفية والأيديولوجيا، أو الحالة الدينية، أو الوطنية، أو الإنسانية.
ورغم ما خلفته الحرب السورية من انقسام في الجسد الاجتماعي، يرى السعد أن رغبة كثيرين تذهب نحو رؤية الانقسام على أنه عارض زمني، لكنه في الحقيقة يعود إلى موقع الفرد من المجتمع، وقيمة المجتمع بالنسبة له.
معظم الحالات التي شملها استطلاع الرأي كانت ترى أن السوريين غير متشابهين، لكن الدكتور السعد يعتقد أن المجتمع السوري متشابه بدرجات كبيرة من حيث البنية الشخصية، إذ عانى أفراده دون استثناء من تبعات الحرب، كلٌ حسب نمط معاناته والجهة التي عانى منها.
ويمكن التعويل مستقبلًا على إعادة التماسك المجتمعي مجددًا، وذلك مرهون بتحول سياسي ديمقراطي يشرك مكونات المجتمع السوري كافة، بحسب السعد، الذي يرى أن ما فرقته “الأيديولوجيا القمعية” يمكن أن تصلحه الديمقراطية السياسية.
السويداء مثالًا
كانت محافظة السويداء مثالًا حاضرًا في العينة المستطلعة بشمال غربي سوريا، وحتى في أقصى الشرق السوري، محافظة دير الزور، ما يشير إلى ارتباط مستمر على مستوى الاهتمامات بين فئات المجتمع.
ويعتقد عبد الكريم محمد، وهو موظف بمنظمة خيرية في بلدة الباغوز شرقي محافظة دير الزور، أن الشعب السوري لا يزال متجانسًا، وأكبر دليل على ذلك هو ثورة السويداء، وهو رأي يتشارك فيه مع الناشط ماجد عبد النور، المقيم شمال غربي سوريا، مستشهدًا بحالة التعاطف التي أبداها المجتمع السوري بعد زلزال 6 من شباط 2023، الذي ضرب الشمال السوري.
وفي الوقت الذي ينظر فيه معارضو النظام السوري إلى حراك السويداء على أنه دليل على التشابه، ترى غصون ذات الـ42 عامًا من محافظة اللاذقية، أن السوريين بمختلف توجهاتهم، ومعتقداتهم، يشبهون بعضهم بحالة الفقر، وهموم تأمين الطعام، والحلم بزيارة السوق.
ينظر الدكتور في علم الاجتماع حسام السعد إلى عودة حالة التجانس بين أفراد المجتمع السوري على أنها ممكنة التطبيق، في حال كانت تشمل الجانب السياسي، أي وجود قوى سياسية عقلانية تراعي مصالح جميع مكونات الشعب السوري، أو الوضع الاقتصادي مثل إعادة إعمار، وفتح سوق عمل، وغيرها، وهو جاذب للتماسك المجتمعي بسبب تقاطع المصالح من قبل فئات المجتمع.
كل ما سبق يشير إلى حاجة سوريا إلى حل سياسي عاجل، هو غير ممكن من وجهة نظر المحللين السياسيين، كما أن إعادة بناء الدولة يتطلب سنوات طويلة، ما يعني أن انعدام الحلول، والأفق المسدود بحواجز التقسيم واستمرار سلطة النظام القمعية، وعدم الاستجابة إلى القرارات الدولية ومطالب الناس في التغيير والانتقال السياسي، ستبقى كلها عوامل تؤثر في حياة السوريين، كما تدفع بهم نحو التشاؤم حيال مستقبل بلادهم، وتدفعهم نحو الهجرة بأي ثمن، وهي خيارات عبر عنها الأشخاص في استطلاع الرأي الذي أجرته عنب بلدي.