عنب بلدي – رزام السوادي
رغم صغر سنه، فرض عليه الواقع إعالة أسرته بعد إصابة والده بديسك شديد جراء عمله في نقل البضائع ضمن مركز تجاري (حمال).
محمد الحضري، طفل بعمر الـ12 عامًا، هو الأخ الأكبر بين إخوته الأربعة، وهجروا من ريف حماة ليقيموا ببلدة الفوعة في محافظة إدلب.
يعمل محمد اليوم في جمع النايلون وعبوات المشروبات الفارغة الحديدية من الطرقات وأماكن تجمع القمامة.
ويقضي النهار بطوله يتنقل بين البلدات المجاورة لمكان سكنه ليجمع أكبر قدر ممكن من النايلون والعبوات الفارغة، ويبيع ما جمعه بعدها، ويكسب من الكيلو الواحد 30 ليرة تركية (أقل من دولار)، وفي بعض الأحيان يكون الكيلو هو جل ما جمعه.
مثل محمد، يتعرض الأطفال في حالات النزاع والحروب، كما هو الحال في سوريا، لشتى أنواع الانتهاكات الصحية والأمنية والتعليمية والحقوقية.
ويعتبرون الحلقة الأضعف، إذ يجري استغلالهم في مجالات تنتهك طفولتهم، وتؤثر على حياتهم الاجتماعية والنفسية.
من أبرز الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال العمالة، ويجري تشغيل الأطفال بأعمال تكون خطرة عليهم، إضافة إلى تجنيدهم خلال الحروب.
وفي تقرير أممي سابق حول الأطفال والنزاع المسلح لعام 2022، اعتبر أن سوريا هي الأسوأ عالميًا من ناحية تجنيد الأطفال واستخدامهم
وفق دراسة قام بها “مشروع بورجن“، يعمل الأطفال في سوريا بأكثر من 75% من الأسر، ونصفهم تقريبًا يوفرون مصدر دخل “مشتركًا” أو “وحيدًا”.
يتسم الوضع في سوريا بأشكال خفية من الاستغلال وعمالة الأطفال، وتتجه العمالة بشكل متزايد نحو العمل في المصانع أو العمل كعمال نظافة أو جامعي قمامة أو عمال بناء أو ميكانيكيين أو نجارين، حسب الدراسة.
عرضة للتنمر والإصابة
لم يتوقف محمد عن متابعة دروسه وإنجاز فروضه، وهو يبدأ عمله بعد انتهاء الدوام المدرسي، وينتهي بغروب الشمس، لكن العمل خلق بينه وبين زملائه حاجزًا، إذ يتعرض دائمًا للتنمر من رفاقه في المدرسة والحي بسبب مهنته.
قال الطفل محمد بحزن، “أردت العمل بمجال تصليح الإطارات والنجارة والحدادة، لكن لم يرد أحد تشغيلي، لذا اضطررت للعمل بهذه المهنة”.
إضافة إلى التنمر والنبذ، يعاني محمد من حساسية شديدة في كلتا يديه، بسبب نبش القمامة، وتزداد يداه تورمًا بفعل الجو البارد، لذا يستخدم دواء لمعالجة الحساسية يحصل عليه بين فترة وأخرى من مركز صحي بالمجان.
أما جلال حذيفة (15 عامًا)، فهو يعيش مع ندبة دائمة تذكره بما حدث معه خلال عمله في محل لبيع وصيانة البطاريات، إذ تطايرت مادة الأسيد الحارقة من إحدى البطاريات وهو يحاول فتحها، ما أدى إلى إصابته بحروق على وجهه، وتكفل أحد المراكز الطبية في منطقته بعلاجه مجانًا.
يضطر جلال للعمل رغم صعوبته، كونه الذكر الوحيد لعائلته المكونة من 4 فتيات، وتعاني والدته من مرض السكري وآلام في القدمين، وفارق والده الحياة منذ عدة أعوام.
لا يذهب جلال إلى المدرسة منذ كان في الصف الرابع الابتدائي، ولم يفكر بالرجوع إليها في ظل الظروف المادية الصعبة التي يعيشها.
وذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن التصعيد العسكري في مناطق شمال غربي سوريا أثّر بشكل كبير في إمكانية الوصول إلى خدمات التعليم لـ2.2 مليون طفل في سن المدرسة.
وأضاف أن 2.2 مليون طفل في سن المدرسة يقيمون شمال غربي سوريا، منهم مليون واحد على الأقل خارج المدرسة، لافتًا إلى أن الوضع مأساوي بشكل خاص في مخيمات النزوح.
وذكرت “يونيسف” في أحد تقاريرها التبعات الاجتماعية لعمالة الأطفال، التي تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة الاجتماعية والتمييز، على عكس الأنشطة التي تساعد الأطفال على التطور، مثل المساهمة في الأعمال المنزلية الخفيفة أو القيام بعمل خلال العطلات المدرسية، إذ إن عمل الأطفال يحد من إمكانية الحصول على التعليم ويضر بنمو الطفل الجسدي والعقلي والاجتماعي، وخاصة بالنسبة للفتيات، فـ”العبء الثلاثي” المتمثل في المدرسة والعمل والأعمال المنزلية يزيد من خطر تخلفهن عن الركب، ما يجعلهن أكثر عرضة للفقر والاستبعاد.
ويعيش الأطفال في مناطق شمال غربي سوريا كل هذه الانتهاكات، وتنشر أخبار بشكل دوري عن تعرضهم لإصابات، أو أمراض في أثناء العمل، وأحيانًا تودي بهم للوفاة.
أسباب العمالة
ذكر مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” ضمن دراسة بعنوان “عمالة الأطفال خلال الحرب السورية المستمرة منذ 2011″، الأسباب الكامنة وراء انتشار هذه الظاهرة.
واعتبرت الدراسة العمالة نتيجة حتمية للحرب، وأن النزوح المتكرر والمستمر للسكان، وحالة عدم الاستقرار التي يعيشونها، واستمرار القصف، تسهم بانتشار الظاهرة.
والانهيار الاقتصادي الذي تسببت به الحروب ونتج عنه العوز المادي والفقر، دفع الأهالي إلى تشغيل أطفالهم حتى مقابل أجور زهيدة للمساعدة في تأمين المعيشة.
ومن الأسباب أيضًا، موت المعيل، الذي فتح باب التشرد والعمل أمامهم واسعًا، حسب الدراسة.
وأسدى القصف المتكرر على محافظة إدلب إلى توقف عدد من المدارس عن العمل، إذ تحولت بعض المدارس لملاجئ تؤوي النازحين، الأمر الذي فتح المجال أمام الأطفال للانتقال نحو سوق العمل.
وجاء في الدراسة، أن انعدام الرقابة من جانب الجهة المسيطرة على الأرض، وعدم محاسبة مشغلي الأطفال، ممن يستغلون قلة الأجور التي يتلقاها الأطفال مقابل عملهم، وعدم وجود قانون صريح بوقف العمالة الكلي، إضافة إلى عدم قدرة منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية على احتواء أسباب الظاهرة والتخفيف منها، بسبب الحرب المستمرة، يزيد من انتشار الظاهرة.
آثار نفسية واجتماعية
المرشدة الاجتماعية انتضالي عبد العال، قالت لعنب بلدي، إن مفهوم “عمالة الأطفال” يشير إلى كل عمل يضر بصحة الطفل أو بنموه أو رفاهيته، ولا يكون من الأعمال النافعة التي تتناسب مع عمر الطفل، وتساعده على التطور الجسمي والعقلي والروحي والأخلاقي والاجتماعي، دون أن يؤثر على دراسته أو راحته أو متعته.
وتنتشر العمالة في حالات الكوارث والنزاعات والحروب، إذ ينتشر الفقر وفقدان أحد المعيلين، أو كليهما.
وانتشار ظاهرة العمالة تنعكس سلبًا على المجتمع والفرد، بسبب الاعتماد على يد غير مؤهلة من الناحية العقلية والفكرية والجسدية.
وينتج عن انتشار هذه الظاهرة انخفاض نسبة المتعلمين في المجتمع ككل، إضافة إلى زيادة الأضرار الجسدية الناجمة عن الإصابات التي قد يتعرض لها، والأمراض، والاضطرابات النفسية، نتيجة حرمانهم من طفولتهم، وتعرضهم لضغوطات ومسؤوليات أكبر من قدرتهم مبكرًا، وعدم حصولهم على الرعاية المناسبة حينها.
وكل ما ذكر يؤثر في بنية المجتمع ومستقبله، كون الأطفال سيكبرون ليكونوا أُسرًا، بينما لم يعالجوا بعد مما تعرضوا له في طفولتهم، وقد يأتي جيل مليء بالمشكلات النفسية والجسدية، وذو تحصيل علمي منخفض، حسب انتضالي.