بيلسان عمر – دمشق
كتب كثيرون عن المجتمع، تكوينه، طبقاته، أسباب تخلفه، وشروط نهضته، ولكن يبدو أن الغريزة البشرية تميل نحو تكرار ما يعتور مجتمعاتها من آفات تنخر ببنيانها، حتى وإن اجتمعت آلاف المقالات والأبحاث عن الموضوع ذاته، ولعل الشرخ الطبقي اليوم عاد ليطفو على السطح من جديد، فها هو المواطن السوري ينتقل من المناطق القابعة تحت آلة حرب النظام إلى المدينة لتيسير أموره القانونية في مؤسسات الدولة، ويشتري بعض حاجياته، فيرى الكهرباء والماء والإنترنت، بعد أن خالها انقرضت من هذا العصر، ويتنفس الصعداء فرحًا بفسحة حياة بين ركام الحرب، ثم ليقطع نفسه حقيقة ما يجري أثناء تجواله بين القلة ذوي الامتيازات، على حد تعبيرهم، مقابل الفئة البائسة على المستويين المادي والحياتي.
مجتمعاتنا طبقية بامتياز
منذ عصور ونحن ندّعي أن بلادنا لا طائفية، تترك للمواطن حقه في اختيار ما يرتضيه دينًا، ولكن لن ننكر أننا ومنذ ذاك الزمن ونحن ننمي دور الطبقية في المجتمع، والناس “مقامات” بثقافة تربيتنا البائسة، نعيش في مجتمع يحدد المكانة الاجتماعية للفرد ولاديًا، يولد وبيده ملعقة ذهب والختم الذي يقف الناس على أعتاب صاحبه ليذيل لهم قصاصات أوراقهم اليومية، ثم نزيد من تكريس تلك الثقافة المتأصلة من أيام الاستعباد والسيد والعبيد، لتمتنها من جديد ثقافة الشكل والستايل والبريستيج، فها نحن نعيش الآن النقيض بين أطفال يملؤون ساحات المدينة، تعلو أصواتهم صوت آلة الحرب، يعيشون حياتهم في مدنيّة بحتة، يخرجون من مشروع دعم نفسي لما خلفته الحرب، إلى آخر يخرجهم من الصدمات، وثالث ينمي مواهبهم الإبداعية، ورابع يعلمهم كيف يكونوا قادة في المجتمع، وآخر يكسبهم فن التعامل مع الآخر المختلف عنهم، وإن كان الكلام نظريًا لا تطبيق له، وهم ما أُطلق عليهم الصفوة، تلك الطبقة التي لم تعرف للجوع طعمًا، ولم تضئ للصبر شمعة، ولم ينسج الألم في قصورها بيتًا، تلك الطبقة التي أنجبت معالم الحضارة السورية المادية (تحف نادرة، عملات خيالية، مواد وآليات باهظة الثمن، أسواق مفتوحة) وغيرها الكثير.
ولكن يبقى نقيض ما يعيشه الريفي الذي تعلو أصواته أيضًا، ولكن هذه المرة في الساحات، يطالبون بإيقاف قتلهم، وفك الحصار عنهم، ولقيمات يقمن أصلابهم بها، يصرخون بحاجاتهم لأدنى مقومات الحياة الإنسانية لا المدنية كما يحلم أولئك، يشعرون بالغربة عند التقائهم معًا، وتحاصرهم أحاسيسهم بسلبهم لكل حقوقهم حتى على مستوى حمامات العموم في الشوارع.
ثم تتطور الطبقية بين هؤلاء وأولئك، ويدخلون مدارس تحمل أسماء (السعادة، المجد، الأوائل، الأمل، التفوق، التميز، الريادة) وغيرها، بينما تحمل مدارس أولئك أسماء شهداء وأبطال خلدهم التاريخ، وساحات معارك، وكأن الطبقة الأولى خلقت لتعيش وتهنأ وتشغل المناصب السامية، بينما قُيّض للأخرى أن تكبر وهي تلعق مفاهيم الثورة والشهادة والحروب والقتال والموت لأجل الوطن مرة والإنسانية مرة والدفاع عن أدنى الحقوق مرات ومرات.
الـ “لا طبقية”.. وقد أصبحت حلمًا
ليزيد تجار الحرب من ترسيخ هذه الطبقية، فهم يروجون للفئتين على أنهما ضحايا، وشتان بين ابن المدينة الذي فقد نزهته الأسبوعية إلى غوطتي دمشق، وبين ابن الغوطتين الذي فقد أرضه وبيته وأهله وتعليمه وألعابه وحياته اليومية الآمنة وأدنى حقوقه وطعامه وشرابه وملبسه، فقد كرامته وهو ينظر إلى أضواء تحف الغوطة، تحاصره مدنية أولئك واستمرار حياتهم غير آبهين به، بذات الدرجة التي تحاصره بها آلة النظام.
حتى عندما يقومون بمشاريع إنسانية، كما يسمونها، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تخدم إلا تلميع طبقتهم، بمزيد من الوهم الاجتماعي الذي يحيونه، فلم تكن تلك النقابات والأحزاب والجمعيات الأهلية والخيرية التي أُطّرت بها تلك الطبقات سياسيًا وفكريًا إلا مرايا للنظام، وأرجوحة للشعب، يمنح امتيازات لطائفة على حساب أخرى، ليمتّن أواصر الشرخ ويرسّخ قواعده بين أفراد الشعب.
وبين الطبقة الدنيا والطبقة العليا نشهد اليوم على تحولات اجتماعية، تجلّت في انقسام المجتمع إلى طبقات من فئات مستقرّة، وأخرى مهجّرة أقل درجة في سلّم كماليات بل وحتى أساسيات الحياة، إن صح التعبير، وثالثة محاصرة ورابعة مغتربة، والأكثر ألمًا فئة المعتقلين والمغيبين قسريًا، تلك الورقة التي يتشبث بها النظام، ومرة أخرى ضاعت حقيقة نشوء تلكم الطبقات، والفاعل الحقيقي لها، فيحاول البعض لمآربه الخاصة عدم إظهار العمليات التي أعطت هذا الطابع، ما يسبب انعكاسًا غير كامل للحقيقة، ويشوّه الواقع، وتحاول كل طبقة أن تجعل من ذاتها محدودة الامتداد، ولا تسمح لذاتها برؤية الطبقات الأخرى، لعدم اعترافها بها، أو تهربًا من مسؤولياتها تجاهها.
ويبقى السؤال الذي يطرح ذاته، من يعيد لنا حقنا في المساواة؟، وهل يكون خلاصنا بالثورة؟