غزوان قرنفل
منذ منتصف العام 2022، توقف قطار اللجنة الدستورية السورية عن العمل، بعد ثماني جولات لم تثمر شيئًا ولم يتحقق فيها أي اختراق من شأنه أن يمنح السوريين بريق أمل بحل سياسي شامل لأزمتهم المستحكمة، التي لم تعد ضمن أولويات الحراك السياسي على المستوى الدولي، بعد أن غرق العالم مجددًا بأزمات وصراعات في غير منطقة من العالم.
وكانت أعمال تلك اللجنة قد تعطلت بقرار روسي، عندما فشل المبعوث الدولي، غير بيدرسون، بعقد أعمال جولتها التاسعة بعدما تم إخطاره برسالة رسمية من رئيس وفد النظام السوري، أن وفده لن يكون مستعدًا للمشاركة، ما لم تتم الاستجابة للمطالب الروسية، المتمثلة بالبحث والاتفاق على مكان جديد لانعقاد أعمال اللجنة، باعتبار أن جنيف لم تعد محايدة بسبب الموقف السويسري من الغزو الروسي لأوكرانيا، ما يوضح بجلاء كم أن المسألة السورية برمتها ومستقبل السوريين صار رهين مصالح وأهواء وسياسات الدول المنخرطة في هذا الصراع.
ورغم أن “وثيقة المعايير المرجعية والعناصر الأساسية للائحة الداخلية” التي تحكم آليات عمل اللجنة قد نصت على أن تكون جنيف مقرًا لتلك اللجنة، وأنها يجب أن تعقد جولاتها “دون تدخل خارجي”، كما صرح المبعوث الدولي بيدرسون نفسه في إحاطته الأخيرة المقدمة إلى مجلس الأمن الدولي، فإنه مع ذلك ترك الباب مواربًا في محاولته “البحث عن حلول خلاقة”، مؤكدًا استعداده المتابعة في أعمال اللجنة إذا ما توافق الطرفان على انعقادها في مكان آخر غير جنيف.
في هذا السياق، طُرحت العاصمة العراقية بغداد كمكان بديل، لكنها لم تحظَ بقبول الفريق المعارض، وطرحت نيروبي (العاصمة الكينية) كبديل آخر، خصوصًا أن للأمم المتحدة مكاتب إقليمية فيها، لكنها قوبلت برفض النظام، وأمام هذا الانسداد أعاد بيدرسون دعوته لتكون جنيف مجددًا مكانًا لانعقاد أعمال الجولة التاسعة للجنة، مع استمرار البحث عن بديل توافقي، وقام فعلًا بتوجيه الدعوات للوفود وتلقى ردًا إيجابيًا من المعارضة، فيما لا يزال وفد النظام يلوذ بالصمت حتى الآن.
اللافت أولًا في هذا الإيقاع أن لا صوت للوفد الثالث الذي يفترض أنه يمثل “المجتمع المدني” السوري، ليس فقط في صراع المكان، وإنما في عموم المجادلات والخلافات والاختلافات التي طالما اصطبغ بها عمل تلك اللجنة، الذي لم يفضِ أصلًا إلى شيء بعد ثماني جولات انعقاد منذ أواخر العام 2019 حتى الآن، وكأنه مجرد وفد لتزيين المكان، أي مكان، وللقول إن ثمة مجتمعًا مدنيًا سوريًا مشاركًا ويقول كلمته الفصل.
والمؤكد ثانيًا أن وفد النظام السوري يعمل بكل دأب على تمييع أعمال اللجنة وإطالة أمده، إعمالًا لمبدأ شراء الوقت والمراهنة عليه وإغراق أعمال اللجنة دائمًا بعناوين وتفاصيل تافهة يعتبر الغوص فيها انجرارًا للضفة التي يراها آمنة له، تتيح له ترحيل كل الاستحقاقات التي يتعين عليه الولوج إليها، بانتظار أن تحدث تصدعات في المواقف الدولية والإقليمية والعربية تجاهه. وهذا ما حصل فعلًا، إذ ألقى العرب ودول الإقليم مطالب السوريين في سلال قمامتهم وبدؤوا يخطبون ودّ النظام ويطبعون علاقاتهم معه على إيقاعات مختلفة، لكنها كلها تسير في ذات الاتجاه، ولم يبقَ من المواقف الدولية سوى موقف أمريكي- أوروبي لا يزال حتى الآن على الأقل يؤكد وجوب الالتزام بحل سياسي يتوافق عليه السوريون، ولا يزال يحول دون الانجرار إلى التطبيع مع نظام الأسد أو الانخراط في برامج إعادة الإعمار دون المساءلة عن الجرائم والفظاعات، ودون إنجاز خطوات جدية وملموسة في مسارات الحل السياسي.
مسألة “جنيف” وعدم حياديتها مجرد هراء روسي لا يراد منه البحث عن بديل “حيادي” غير موجود أصلًا، لأن لا صفة ولا دور لسويسرا في أعمال اللجنة الدستورية التي تعقد أصلًا اجتماعاتها في مقر الأمم المتحدة الموجود في مدينة جنيف، وهذا المقر يتبع وفق القوانين والاتفاقيات الدبلوماسية لهيئة الأمم المتحدة وليس للحكومة السويسرية كما هي جميع ممثليات وسفارات الدول في دول أخرى، فهي تتبع بالسيادة للدولة التي تمثلها وليس للدولة الموجودة فيها. وكما هو أيضًا مقر الأمم المتحدة في نيويورك، فهو لا يتبع للولايات المتحدة الأمريكية رغم وجوده على أراضيها، فهل امتنعت مثلًا بعثة روسيا بالأمم المتحدة في نيويورك أو حتى في العاصمة السويسرية (بيرن) نفسها، أو باريس أو غيرها من العواصم، عن ممارسة مهامها الدبلوماسية بسبب مواقف تلك الدول من الغزو الروسي لأوكرانيا؟ بالتأكيد لم تفعل وهو ما يدحض مزاعمها لجهة عدم حيادية جنيف فيما يتعلق بأعمال اللجنة الدستورية.
المسألة باختصار أن روسيا تسعى لإلغاء ونسف المرجعية الدولية لتلك المفاوضات ولأي حل يتعلق بالوضع السوري، لأنها تعتقد أن تلك المرجعية والسير وفق مضامينها ستفضي حتمًا إلى تفكيك بنية المنظومة الحاكمة في سوريا، إذ لطالما سعت روسيا ودول إقليمية أخرى لاجتراح حلول ومسارات تفاوضية بعيدة عن المرجعيات الدولية كـ”أستانة” و”سوتشي”، التي لم تفضِ إلا إلى تراجع زخم الثورة وانحسار مناطق سيطرتها وانفضاض الناس عنها، بعد أن انخرط في تلك المسارات وتبنى مخرجاتها المدمرة كثير من المرتهنين.
وعندما تمضي خمس سنوات على تشكيل اللجنة الدستورية وبدء أعمالها دون أن يثمر ذلك عن مبدأ أو نص دستوري واحد متوافق عليه، وعندما يحتار المتفاوضون أين يعقدون اجتماعاتهم وتهيم وجوههم بين بغداد ونيروبي وجنيف دون طائل، فاسمحوا لنا أن نقول: دستور من خاطركم!