خالد الجرعتلي | يامن المغربي
أعاد النظام السوري حزب “البعث العربي الاشتراكي” إلى واجهة الحياة السياسية الداخلية، مع حملة الترويج التي أطلقها للانتخابات الحزبية في بلد يطغى عليه نظام الحكم الواحد، وبعد نحو 13 عامًا من سيل دماء أطلقته الآلة العسكرية التابعة له عقب مطالب نادت بالإصلاح وإطلاق الحريات ورحيل الحزب الحاكم.
التغييرات التي ارتبطت بحزب “البعث” في سوريا اليوم، قلل مراقبون ومهتمون من أهميتها، إذ ظهرت على أنها إعادة تفعيل لـ”المادة الثامنة” من الدستور، لكن من خلف الستار.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف أسباب وتوقيت عودة الحديث عن تفعيل دور حزب “البعث” في سوريا من قبل رئيس النظام، بشار الأسد، وتأثير هذه العودة على حياة السوريين السياسية، والاقتصادية ربما، وارتباط هذا التوجه باستحقاقات قادمة ابتداء من العام الحالي وحتى 2028، إذ تنتظر سوريا انتخابات مجلس الشعب والإدارة المحلية ورئاسة الجمهورية، في وقت لم يستجب فيه النظام لمتطلبات القرارات الدولية بالانتقال السياسي.
“البعث” يعود إلى الواجهة
عمد رئيس النظام السوري، بشار الأسد، إلى تنشيط حضور حزب “البعث” خلال الفترة الماضية، من خلال طرح مجموعة من الأسئلة تتمحور حول أهمية الحزب، في ظل غياب أي حياة سياسية حقيقية في سوريا، ومنع وجود منافسين من أحزاب أخرى حقيقية في أي انتخابات مقبلة، سواء في الإدارة المحلية أم مجلس الشعب، أو حتى رئاسة الجمهورية.
وبالإضافة إلى انتخابات “البعث” في العام الحالي، تنتظر سوريا ثلاثة انتخابات مقبلة، هي على التوالي انتخابات مجلس الشعب في العام الحالي، علمًا أنه لم يعلن عن موعدها حتى الآن، وتجرى الانتخابات كل أربع سنوات وكان آخرها في 2020.
ويعقبها انتخابات الإدارة المحلية في 2026 في حال لم تؤجل، وتقام كل أربع سنوات، وآخرها كان في 2022، ومن المفترض أيضًا أن تجرى انتخابات الرئاسة في 2028.
ركز الأسد خلال ظهوره المتتالي مع أعضاء اللجنة المركزية لحزب “البعث” على مجموعة من النقاط، بينها قيادة الحزب للدولة والمجتمع، وأهمية إنهاء حالة الترهل بين صفوفه.
ولا يقتصر وجود “البعث” على كونه حزبًا سياسيًا وصل حافظ الأسد من خلاله إلى سدة الحكم عام 1970 فقط، بل تغلغل كذلك في جميع مفاصل الدولة، معتمدًا بشكل رئيس على مادة ذكرت في الدستور السوري قبل تعديله في عام 2012، بوصفه “قائدًا للدولة والمجتمع”، وبالتالي تدخل في جميع شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
كما أن توقيت تركيز الأسد على الحزب ودوره في سوريا خلال الفترة المقبلة، يثير التساؤل حول تحركات رأس النظام الحالية، ومدى احتمالية ارتباطها بالتحركات العربية تجاه الأسد.
ما الدوافع؟
منذ زلزال 6 من شباط 2023، تحرك الملف السوري إقليميًا بشكل لافت، انفتح العرب على النظام، وعاد الأسد ليشغل مقعد سوريا في جامعة الدول العربية وفق “المبادرة الأردنية”، زيارات واجتماعات وملفات تثير الجدل بين لجان الاتصال التابعة للدول العربية المعنية بالشأن السوري.
وسط كل هذه التحركات، اندلعت المعارك في قطاع غزة، وهي حرب من شأنها أن تغير شكل المنطقة لعقود، وكان لافتًا أن النظام ابتعد عن الانخراط بالملف الفلسطيني، بكل ما يعنيه كورقة أمسك بها لعقود، والتفت للتركيز على حزب “البعث” ودوره في الفترة المقبلة.
هذا التركيز لم يقتصر على مواد إعلامية تصدرها صحيفة “البعث” الناطقة بلسان الحزب فقط، بل شمل جميع منصات وسائل التواصل الاجتماعي الحكومية، كحسابات رئاسة مجلس الوزراء والوزارات، وحساب رئاسة الجمهورية كذلك.
الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” معن طلاع، يرى أن هناك أربعة دوافع رئيسة لتحركات الأسد تجاه “البعث”، يتعلق الأول بشعور متنامٍ لدى قادة الحزب بوجود نوع من الترهل داخله، وهي حالة تحتاج إلى إخراجه من حالة السكون، مع وجود بعض الاستحقاقات المقبلة التي تستوجب بدورها بعض التغييرات.
ودافع آخر يتعلق بحالة “الإيحاء بالفعل”، أي تحركات شكلية لا عملية، ولها دلالات على المستويين الداخلي والخارجي، فداخليًا يوحي الأسد والحزب بوجود حياة حزبية تحظى باهتمام في سوريا، وترتبط هنا بأحقية حزب “البعث” بأن يكون على رأس السلطة، وبالتالي يجب أن يهتم بتحسين قواعده الحزبية وضمان درجة من الديمقراطية والإصلاح داخله، ولكن كل ذلك على مستوى الإيحاءات فقط، وفق طلاع.
أما خارجيًا، فتوحي هذه التحركات بأن الحياة في سوريا مستمرة سياسيًا، وأن “البعث” ماضٍ في استحقاقاته الداخلية وغير آبه بالمشهد السياسي عمومًا.
ووفق طلاع، يتعلق الدافع الثالث بـ”متطلبات الفاعلية”، ويرى قادة الحزب أن استحقاقات سوريا والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تستوجب حالة من تضافر الجهود والتصدي للمسؤولية، ويرتبط هذا الدافع بتصدير الحزب لفكرة تحمله مسؤولية الأمان الاقتصادي والاجتماعي.
أما الدافع الرابع فيرتبط بضرورة تكاتف جهود النظام على كل المستويات، وعندما يبدي إيحاءات بإعادة هيكلة أمنية وعسكرية، أو على الصعيد الحكومي، فيجب أن يعطي بعض الانتعاش السياسي عبر تحرك داخل الحزب وإعادة تنظيم صفوفه، وسيكون النظام حريصًا على ضمان الضبط والتحكم، لأن حالة الترهل الشديدة هي عائق أمام النظام نفسه، ويحاول إنعاش الحياة الحزبية لتكون له مظلة سياسية قادرة على قيادة المشهد في ظل أي تغييرات متوقعة، وفق طلاع.
التحركات التي يبديها الأسد، وحزب “البعث”، تأتي عمليًا مع غياب حقيقي لأي حياة سياسية في سوريا، إذ يسيطر الحزب على مجلس الشعب، سواء عبر عدد المقاعد الكبير داخله، أو عبر “الجبهة الوطنية التقدمية”، ومحاصرة أي تحركات جادة لأي أحزاب تاريخية في سوريا، كالحزب “السوري القومي” أو “الشيوعي”، وهما إلى جانب “البعث” كانا من أكبر الأحزاب السياسية ما قبل 1963، إلى جانب الحزب “الوطني” وحزب “الشعب”.
القيادي السابق في حزب “البعث”، ناصر سابا، قال لعنب بلدي، “إن غياب الحياة السياسية في سوريا أفقد أي حزب سياسي دوره ومعناه الحقيقيين، ومن الخطأ اعتبار حزب البعث اليوم حزبًا بالمعنى الفكري والسياسي، إذ لا يحقق الشروط المطلوبة لتنفيذ دوره”.
وقلل سابا من أهمية تحركات الأسد، أو إمكانية أن ينفذ “البعث” تحركات حقيقية، باعتبار أنه جزء من منظومة أمنية تتبع لرئيس النظام، في بلد “مدمر وفاقد للسيادة وشعبه في المنفى”.
“غياب الحياة السياسية في سوريا أفقد أي حزب سياسي دوره ومعناه الحقيقيين، ومن الخطأ اعتبار حزب البعث اليوم حزبًا بالمعنى الفكري والسياسي، إذ لا يحقق الشروط المطلوبة لتنفيذ دوره”.
ناصر سابا
قيادي سابق في حزب “البعث”
ما علاقة المبادرة العربية
في حزيران 2024، نشرت مجلة “المجلة” السعودية ما قالت إنه بنود “المبادرة الأردنية”، التي تقدمها عمان للحل السياسي في سوريا، بما فيها من مطالب ومقترحات وتفاصيل تطالب النظام بكثير من الإجراءات على الأرض من جهة، وما يصبو النظام لتحقيقه عبر هذه المبادرة من جهة أخرى.
وتضمنت المرحلة الثالثة حديثًا عن “خطوات متوقعة من دمشق”، تشمل إصلاحات لضمان حكومة جيدة ومنع الاضطهاد، والانخراط في المصالحة مع المعارضة السابقة (داخل سوريا)، والاتفاق على صيغة حكم أكثر شمولًا، وانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة.
توحي تحركات الأسد الأخيرة بارتباط بالمبادرة، خاصة مع وجود ثلاثة استحقاقات انتخابية ستشهدها مناطق سيطرة النظام خلال السنوات الأربع المقبلة، وهي انتخابات مجلس الشعب وانتخابات الإدارة المحلية، ثم الانتخابات الرئاسية في 2028.
الحديث المتكرر للأسد عن دور “البعث” في الحياة السياسية السورية، يشير في ظاهره إلى استعدادات مبكرة لخوضه الانتخابات، وضمان استمرار دوره السياسي في سوريا، بمعزل عن الظروف الحالية.
الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلاع، استبعد أن تكون تحركات الأسد مرتبطة بالتحضير لأي انتخابات، بقدر ما هي أن تكون لدى “البعث” القدرة على مواجهة الفترة المقبلة، كما حصل في 2011، عندما لجأ النظام لتسليح الحزب وإنشاء “كتائب البعث”، لكن الفارق اليوم هو أن الجاهزية يجب أن تكون سياسية لا عسكرية، حسب قوله.
وتجلّت جاهزية النظام السوري من خلال مواجهته للاحتجاجات المناوئة له في السويداء التي استهدفت الحزب بشكل مباشر، لذا يبدو من الضرورة امتلاك أدوات القوة داخليًا، وفق طلاع.
“تحركات الأسد لا ترتبط بالتحضير لأي انتخابات، بقدر ما هي أن يكون لدى البعث القدرة على مواجهة الفترة المقبلة، كما حصل في 2011، عندما لجأ النظام لتسليح الحزب وإنشاء كتائب البعث، لكن الفارق اليوم هو أن الجاهزية يجب أن تكون سياسية لا عسكرية”.
معن طلاع
باحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”
ولا يرى طلاع كذلك أن هناك رابطًا بين الانتخابات والحزب، على اعتبار أن حجم الفساد والترهل اللذين ضربا الدولة والحزب نفسه لا يستهان به، ولا يمكن لأي انتخابات مبكرة أن تؤدي إلى تغييرات حقيقية، مع مبدأ الإلغاء ورفض الآخر.
وأضعفت الظروف التي مر بها الحزب خلال السنوات الماضية على الأقل في سوريا موقعه في البلاد، ويلاحظ الأمر في فقدانه شريحة واسعة من شعبيته، والانشقاقات التي صاحبت انطلاق الثورة السورية عام 2011، وهو أمر اعترف به الأسد نفسه في خطاب أمام اللجنة المركزية في 16 من كانون الأول 2023.
ولا توجد أعداد دقيقة للمنتمين لحزب “البعث” داخل قوات النظام، إلا أن الحزب درج طيلة عقود على إجبار الطلاب في المدارس والجامعات والمؤسسة العسكرية، وموظفي الدوائر الحكومية على الانضمام إليه.
ويستمد النظام السياسي الحالي في سوريا أصوله المؤسسية من الانقلاب البعثي عام 1963 ودستور 1973، رغم تعديله، كونهما ثبّتا الدور القيادي لحزب “البعث”.
“المادة الثامنة”.. الإمساك بمفاصل الدولة
في عام 1973، صدر رسميًا الدستور الجديد لسوريا، بعد ثلاثة دساتير مؤقتة عُمل بها منذ عام 1963، تاريخ تنفيذ “البعث” لانقلابه العسكري على الرئيس ناظم القدسي.
تضمن الدستور الصادر بعد عامين من تولي حافظ الأسد لسدة الرئاسة في سوريا، مادة وصفت بشكل مباشر الدور الذي يلعبه الحزب في سوريا، وهي المادة الثامنة.
وتنص المادة على أن حزب “البعث” هو “الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب، ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”.
بعد انطلاق المظاهرات الشعبية التي طالبت برحيل الأسد الابن في 2011، وضع الأخير دستورًا جديدًا، تضمن إلغاء المادة الثامنة بعد عقود على وجودها.
وكان لافتًا أن الأسد عاد مجددًا خلال لقاءاته مع اللجان المركزية للحديث عن المادة، معتبرًا أن إلغاءها لا يعني أن “البعث” ليس كذلك.
ومنذ تأسيسه قبل 75 عامًا، على أيدي ميشيل عفلق وصلاح البيطار وزكي الأرسوزي، رفع “البعث” شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، وعُرف عنه تعظيمه المطلق للعروبة، وتأكيده على حق الأمة العربية في أن تحيا كدولة واحدة.
حوّلت تلك المادة “البعث” إلى أداة للإمساك بمفاصل الدولة وهياكلها ومؤسساتها، من قبل الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، ونجله بشار، ورغم إلغاء المادة وسحبها من “دستور 2012″، لا تزال مفاعيلها سارية في العديد من وظائف الدولة حتى الآن.
وفي عام 2012، قالت جريدة “البعث” الناطقة باسم الحزب الحاكم، إن إلغاء المادة الثامنة القاضية بتفرد حزب “البعث” في السلطة واستبدالها بأخرى تدعو إلى التعددية الحزبية “لا يشكل خسارة” للحزب.
وكتبت الجريدة حينها أن عملية الاستبدال “لا تشكل خسارة للبعث، بقدر ما هي استعداد للتضحية المثمرة، على غرار تضحيته بحل تنظيمه في سوريا لإنجاز الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958″.
ووفق الباحث معن طلاع، فإنه حتى اليوم لم تنتهِ المفاعيل القانونية للمادة الثامنة من الدستور (البعث قائد الدولة والمجتمع)، وهناك ما يقرب من 44 مادة قانونية فاعلة تشير إلى هذا الأمر تحديدًا على مستويات الرقابة الداخلية والإدارة المحلية والأمنية والعسكرية.
كما أن لدى الحزب 265 شعبة حزبية، وإدارة كاملة للتوجيه السياسي المرتبطة بالحزب، وفرع أمن معني بأمن حزب “البعث”، بناء على قانون استثنائي ظهر في ظل قانون الطوارئ.
وتشير تصريحات الأسد إلى التأكيد على قدرة النظام وإطاره السياسي على مواجهة ما بعد وقف إطلاق النار من تحديات اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا.
لذا عنوان المرحلة بالنسبة للنظام هو الضبط والتحكم، وإعادة بناء شبكاته التي تعرضت لانتكاسات كبيرة منذ 2011 من جديد، وكل هذا يأتي ضمن إعادة الشبكات لا إيحاءات ورغبات سياسية أو مواءمة لأحداث المنطقة، وفق طلاع.
وتشير دراسة صادرة عن مركز “كارنيغي للشرق الأوسط”، أن الصراع في سوريا كان بين المؤسسات الرسمية وقاعدة السلطة الشخصانية واضحًا جدًا عندما تولى بشار الأسد الرئاسة عام 2000، إذ منحه “مجلس الشعب” وحزب “البعث” دعمهما، فعدّل الدستور للسماح له بشغل منصب رئاسة الجمهورية على الرغم من صغر سنه.
وبحسب ورقة بحثية أعدها الباحث محسن المصطفى ونشرها مركز “عمران للدراسات”، فقد زاد تمثيل حزب “البعث” على مدار الأدوار التشريعية السابقة بشكل مطّرد منذ عام 2000، وذلك على حساب بقية أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” والمستقلين.
وقد اتبع “البعث” الأسلوب الشيوعي في التنظيم، بشكل جعله أقرب ما يكون إلى تنظيم أمني منه إلى تنظيم سياسي.
الباحث المتخصص بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية يمان زباد قال لعنب بلدي، إن النظام يعتبر حزب “البعث” وسيلة للسيطرة على الدولة، على الرغم من إزالة المادة الثامنة من الدستور في تعديل عام 2012.
زباد قلل من أهمية حديث الأسد عن تغييرات، إذ اعتبر أنها جزء من إعادة إنتاج النظام لنفسه ضمن تغييرات صورية تحاول أن توحي بأن هناك إصلاحات حقيقية تُفضي إلى عدم وصول العقوبات لمؤسسات النظام “المدنية” مثل “الأمانة السورية التنمية” التي ورد اسمها في مسودة قانون “مناهضة التطبيع”.
وأضاف أن التغييرات، وإن حدثت، لن تؤثر على الحياة السياسية أو المعيشية ضمن مناطق سيطرة النظام، بل تهدف لتقديم صورة خارجية قد تكون مرضية لبعض الدول أو مسوغًا لرفع مستوى التنسيق مع النظام أو للتسويق له لجلب أموال متعلقة بإعادة الإعمار أو التعافي المبكر.
“البعث” في سوريا
شهد عام 1934 عودة كل من ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار من فرنسا إلى العاصمة السورية دمشق، عقب تخرجهما في جامعة “السوربون” الفرنسية.
لم تكن عودة هذين الشخصين عادية، إذ سعيا لنشر أفكارهما حول القومية العربية، وضرورة وحدة البلاد العربية في دولة واحدة، وتزامنت دعوتهما مع صعود نجم زكي الأرسوزي، الذي يعد أحد أبرز منظري القومية العربية.
بعد ست سنوات، وفي مقهى “الرشيد” بشارع “29 أيار” وسط دمشق، أعلن كل من البيطار وعفلق عن “حركة الإحياء العربي”، قبل أن تتغير لاحقًا بعد “ثورة رشيد الكيلاني” ضد بريطانيا في العراق إلى كلمة “بعث” بدلًا من “إحياء”، لأن الأولى “أكثر جذرية وعمقًا”، بحسب كتاب “الأسد والصراع على الشرق الأوسط”، للكاتب البريطاني باتريك سيل، ثم تقدم كل من البيطار وعفلق بطلب الحصول على ترخيص الحزب في عام 1945، وفي العام التالي انضم حافظ الأسد إلى الحزب، وهو العام نفسه الذي أُسست فيه صحيفة “البعث” عام 1946.
وفي عام 1952، اندمج حزب “البعث العربي”، مع “الحزب الاشتراكي” بقيادة أكرم الحوراني، واعتُمد اسمه رسميًا حزب “البعث العربي الاشتراكي”، ليصبح ثاني أكبر كتلة في البرلمان السوري في انتخابات عام 1954.
لم تستمر الحياة السياسية في سوريا طويلًا، وسرعان ما أُعلنت الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1958، وهو ما أدى إلى إلغاء الأحزاب، بما فيها حزب “البعث”، وذلك حتى عام 1961، الذي شهد انقلابًا عسكريًا بقيادة عبد الكريم نحلاوي، وعادت الحياة البرلمانية إلى سوريا، وانتخب ناظم القدسي رئيسًا.
في سنوات الوحدة، اتخذ الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، قرارًا بنقل ضباط سوريين إلى مصر، وكان بينهم حافظ الأسد، الذي أسس مع صلاح جديد في القاهرة “اللجنة العسكرية”، التي قُدّر لها لاحقًا حكم سوريا لسبع سنوات متتالية.
وأعلنت “اللجنة العسكرية”، التي تكونت من حافظ الأسد ومحمد عمران وعبد الكريم الجندي وصلاح جديد وأحمد المير، وبمباركة من “اللجنة المدنية” في الحزب، عن انقلاب عسكري في عام 1963 أُطلق عليه لاحقًا “ثورة 8 من آذار”، وهو تاريخ يتزامن مع ذكرى إعلان سوريا ملكية دستورية، حين نُصّب فيصل بن الحسين ملكًا عليها في عام 1920.
سرعان ما دبت الخلافات السياسية بين اللجنتين، واستبعد كل من صلاح البيطار وميشيل عفلق من الحزب، وتولت “اللجنة العسكرية” مقاليد الأمور في عام 1966 فيما سمي بـ“حركة 22 من شباط”.
عقب الانتهاء من “اللجنة المدنية”، نشب صراع جديد بين حافظ الأسد وصلاح جديد على خلفية عدد من القضايا السياسية، بينها هزيمة 1967، وحينها كان الأسد وزيرًا للدفاع، ثم دعم الفلسطينيين في مواجهة الملك الأردني فيما عرف بـ”أيلول الأسود”، وفي عام 1971 نفذ حافظ الأسد ما أسماه “الحركة التصحيحية”، واعتقل رفاق الدرب وتولى السلطة منفردًا، وكتب دستورًا جديدًا، حمل في طياته المادة الثامنة: “حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع”.
وبعد انقلاب 1966، رحل كل من عفلق والبيطار إلى بيروت، ثم توجه عفلق إلى العراق وانضم إلى حزب “البعث” العراقي، وهو ما دفع الأسد للتواصل مع صلاح البيطار لمحاولة إيجاد توازن سياسي، والتقى الرجلان في عام 1978 وسط ظروف سياسية بالغة التعقيد، بحسب مقال نشره الكاتب صلاح نيوف عام 2005 في مجلة “الحوار المتمدن”.
لم ينجح الأسد باستمالة البيطار الذي عاد إلى منفاه في باريس، وأسس مجلة “الإحياء العربي”، التي هاجم من خلالها الأسد وتواصله مع معارضيه، حتى اغتيل في عام 1982، أما ميشيل عفلق فتوفي في باريس ودُفن في بغداد عام 1989.
سبق تنفيذ “الحركة التصحيحية” تساقط رفاق الأسد، إذ اتفق كل من صلاح جديد وحافظ الأسد على التخلص من محمد عمران، بسبب إصراره على إعادة الوحدة مع مصر، واعتقل عمران في عام 1966، وأفرج عنه في 1967 ليرحل إلى مدينة طرابلس اللبنانية، ثم اغتيل على باب منزله في عام 1972، رغم تحذيرات تلقاها من محاولات لاغتياله.
أما عبد الكريم الجندي فانتحر بعد علمه بقدوم دورية لاعتقاله، بعدما حوصر سياسيًا من قبل حافظ الأسد في عام 1969، وترك رسالة اتهم فيها حافظ الأسد بالخيانة، وبيّن وجهة نظره بالصراع السياسي بين أجنحة حزب “البعث”.
وتوفي صلاح جديد في عام 1993 بسجن “المزة العسكري” الذي سُجن فيه بعد انقلاب 1970، أما أحمد المير فتوفي في عام 2007، وكان الأسد أعفاه من منصبه كآمر لجبهة الجولان في العام 1968، وانتقل إلى العمل الدبلوماسي سفيرًا لسوريا في مدريد.
استعادة السيطرة والتحكم
التغييرات التي قد تحدث لن تشمل بُنية النظام، بل تستهدف استعادة دور الحزب، بوصفه وسيلة إحكام للسيطرة على المجتمع، بحسب ما يراه الباحث الزميل في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” نادر الخليل، إذ يمكن تشبيهها بعملية “تحديث” لأدوات النظام السلطوية، التي لا تنحصر بالأجهزة الأمنية والجيش فقط، بل تشمل أدوات أخرى، من بينها الحزب الحاكم.
الخليل يرى أنه نظرًا إلى طبيعة النظام السوري وتاريخه في التعامل مع الحياة الحزبية، لن يشهد السوريون تغييرات جوهرية تؤثر بعمق على بنية النظام السياسية وطريقة إدارته للحياة الحزبية في البلاد.
وأضاف لعنب بلدي أن التغييرات المرتقبة لن ترقى لمستوى تغييرات نوعية في حياة الفرد السوري، ومن الممكن أن تنحصر، في أحسن الأحوال، بشكلين، تغيّر في عدد من الشخصيات المتصدّرة لمشهد قيادة الحزب الحاكم (باستثناء شخص الأسد)، وتفعيل للمناقشات حول المشكلات التي تواجه الجانب المعيشي للسوريين، خلال الأنشطة الحزبية، كنوع من أنواع “التنفيس”، وهي من الأساليب المعتادة خلال السنوات السابقة، دون أن يؤدي ذلك إلى تغيّر في أداء الحكومة ومنظومة اتخاذ القرار الفعلية فيها.
سياسات النظام التي سادت خلال السنوات الماضية، بما في ذلك المتعلقة بإدارة الأزمات والمساعدات الإنسانية، أظهرت اهتمامًا شبه معدوم باحتياجات الأساسية للفرد، بحسب الخليل، إذ لم تلامس رفاهية الفرد السوري بأي شكل، وينصب اهتمام النظام على تسخير الإمكانيات لما يضمن استمراره فقط.
“يهدف النظام من هذه التغييرات لاستعادة قدرة رأس الهرم على السيطرة في الداخل، بعدما تراجع نفوذه لمصلحة قوى وشخصيات من أمراء حرب أو محسوبين على الحليف الإيراني أو الروسي”.
نادر الخليل
باحث متخصص بالشأن السياسي
وأضاف أن أهدافًا خارجية تلعب دورًا في هذا الطرح، أهمها الإيحاء لقادة دول عربية سعت للتطبيع معه، بأنه يستعيد نفوذه الداخلي بصورة كبيرة، وبأن السيطرة ليست لإيران، بغية الحصول على دعمهم المالي والاستثماري، إن أمكن.
بينما قد تبدو التغييرات التي يروّج لها النظام واعدة ظاهريًا، يجب النظر إليها بحذر، مع الأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي للنظام والتحديات الجوهرية التي لا تزال تواجه سوريا، والأهم هي عقيدة النظام وطبيعته التي لا تصلح للتغير ولا تتقبله بأي شكل كونها “قائمة على معادلة صفرية فحواها إما أنا أو لا أحد”.
هل ينعكس على حياة السوريين؟
ترك حزب “البعث” انطباعًا لدى شريحة واسعة من السوريين أن المؤسسة الحزبية في سوريا هي الأخ التوأم للمؤسسة الأمنية، إذ تصب فيها التقارير الأمنية، وتشكل منطلقًا لأي حركة قد تكون داعمة للنظام السوري منذ سنوات، حتى العسكرية منها.
وفي خضم الاحتجاجات التي شهدتها محافظة السويداء ضد النظام السوري، قال الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في السويداء، وأحد وجوه الحراك، إن مؤسستين يعاني منهما الشعب السوري، هما المؤسسة “الحزبية” والمؤسسة “الأمنية”، إذ لم يرَ السوريون منهما إلا “الخطر”.
هذا الانطباع حمله السوريون من جمهور المعارضة، كتصور مسبق عن أن لا حياة سياسية في سوريا طالما يتحكم حزب “البعث” بمفاصل القرار.
اليوم ومع تصاعد حديث الأسد عن إصلاحات، وانتخابات، وإثبات حضور، وثقة، وهي مصطلحات غابت عن مسامع السوريين في وقت الحاجة لها عام 2011، تُطرح تساؤلات عن إمكانية إحداث تغيير فعلي مستقبلًا ينعكس على حياة من بقي من السوريين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :