يونس كريم – كاتب وباحث سوري
“الدواء المجاني كان أحد المرتكزات الزائفة لحكومات البعث المتعاقبة على سوريا، فكلما راجعت مشفىً عموميًا يُطلب مني أن أشتري الدواء من الصيدليات المقابلة لها، لتصبح أغنى من الوزارة نفسها”.
لم تكن هذه السياسة محض صدفة، بل نتيجة ظهرت على نحوٍ جليٍّ في توجه الحكومة إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، منذ أن حسم التحوّل مع الفترة الثانية لحكم بشار الأسد، وهو ما ساهم بشكل أو بآخر بإذكاء نار الثورة.
ورغم الأوضاع الأمنية المتردية وغياب بيئة استثمارات حقيقية في سوريا خلال الثورة، ماتزال حكومة النظام تمنح تراخيص لمعامل أدوية في مناطق سيطرتها آخرها ثمانية معامل مطلع آذار الجاري، وافتتاح معمل “هيومان فارما” في طرطوس بتكلفة 500 مليون ليرة، بتحالف بين مجموعة رجال أعمال، فهل هذه الأرقام حقيقية وهل تعمل بكامل طاقتها الإنتاجية؟
تحويل المشافي إلى هيئات مستقلة
منذ إصدار قرار وزارة الصحة، لاحقًا لقرار وزارة التعليم العالي في شباط 2010، مضت الحكومة بتحويل المشافي إلى هيئات مستقلة، معللةً ذلك بمحاولة تأمين دخل بسيط إضافي للمشافي، وهو بمطلق الأحوال “ليس بالدخل الكبير”، بحسب تعبير الدكتور سليمان مشقوق، مدير المشافي في وزارة الصحة، الذي اعتبر أن “من شأن هذا التدخل تأمين الحوافز المالية للعاملين في الهيئات، ولإداراتها أيضًا، بغية تحسين نوعية الخدمات الطبية والاستشفائية المقدمة للمواطنين، والحد من هجرة الخبرات من المشافي الحكومية إلى خارجها، تلك التي تبحث عن الحوافز المالية فقط”.
إذًا، الفقراء الذين يعالجون في هذه المشافي، سوف ينقذون واقع الصحة ويحدون من هجرة الخبرات، وهذا ما يقودنا إلى دراسة واقع الصحة في سوريا.
معامل الدواء توفر على سوريا نحو 600 مليون دولار
لم نجد خلال خلال البحث أرقامًا موثقة رسمية، ومعظم الأرقام المتوفرة منقولة عن مقابلات صحفية لمسؤولي الصحة، ومكررة نفسها منذ عام 2007، لذا توجهنا إلى تحليل أحدث معلومات عن واقع الصحة بشكل جزئي، ثم إسقاطها على واقعنا، محددين المدة بين عامي 2005 و2011 للدراسة، باعتبار أن النظام يتغنى بإنجازاته خلال هذه السنوات، وبهدف معرفة من يحكمنا.
يبلغ عدد السكان في سوريا أكثر من 21 مليونًا (حسب المكتب المركزي للإحصاء)، 51% منهم ذكور، بينما يبلغ مستوى النمو 2.4% وهو من أعلى معدلات النمو في العالم. وبحسب الإحصائيات الصحية المتواترة في الصحافة الرسمية، يزيد مجموع المشافي في سوريا عن 482 مشفى فيها أكثر من 30 ألف سرير، أما المشافي الحكومية فعددها 117 مشفى، بعدد أسرة يقارب 22 ألف سرير، غير أن المشافي الحكومية تحوز على أكثر من 65% من قدرة الاستيعاب.
كما تضطلع وزارات الصحة والدفاع والتعليم العالي والداخلية بتدبير نظام الرعاية الصحية في المشافي العامة، وفق ما تشير تقارير المجموعة الإحصائية عام 2010، بينما يوجد 70 معمل أدوية توفر 90% من احتياجات السوق الدوائي السوري، وتصدّر إلى 59 دولة عربية وأجنبية، ليصبح الدواء السوري الأول في العراق واليمن.
وفرت المعامل على سوريا مستوردات من الأدوية الأجنبية، بنحو 550 – 600 مليون دولار سنويًا، إذ تنتج للسوق المحلية ما قيمته 350 مليون دولار، ويعمل فيها نحو 13 ألف عامل من الجامعيين من كافة الاختصاصات، بالإضافة إلى عمال فنيين، في 16 معملًا تصنّع بامتياز، بينما وصل عدد الشركات العالمية المانحة لامتياز التصنيع في سوريا 58 شركة، وعدد المستحضرات المصنعة بامتياز 380 مستحضرًا، بنسبة 8.5% من مجمل المستحضرات المصنعة محليًا.
صناعتنا الثانية عربيًا
كما تشير إحصائيات اتحاد منتجي الدواء العرب إلى تبوّء سوريا حتى عام 2011 المرتبة الثانية عربيًا، من حيث تصدير الدواء، بقيمة تبلغ 210 ملايين دولار، بعد الأردن التي سجلت 370 مليون دولار، ثم مصر والإمارات. يتفرد القطاع العام بإنتاج 7% من الناتج والباقي ينتجه القطاع الخاص، ويبين الاتحاد أن معامل الأدوية تعمل لخدمة السوق المحلية وتلبية حاجاته البالغة 550 مليون دولار.
يأتي ذلك في الوقت الذي نشرت فيه المجموعة الإحصائية (الإصدار 63 لعام 2010 منقح مع وزارة الصحة) الجدول التالي:
2010 | 2009 | 2008 | 2007 | 2006 | 2005 | السـنة |
التصنيف | ||||||
6895 | 6381 | 6168 | 5860 | 5709 | 5218 | عدد الأصنـاف الدوائيــة المصنعـة محليـــًا |
9538 | 11922 | 14139 | 14050 | 15250 | 16300 | عـدد تحاليـل الرقابـة على الــدواء |
70 | 67 | 66 | 63 | 56 | 54 | عـدد معامـل الأدويــة المحليــــة |
91 | 90 | 90 | 90 | 90 | 90 | نسـبة التغطية بالأدوية المحليـة مـن إجمالي الأدوية % |
53 | 46 | 58 | 54 | 54 | 44 | تطور أنواع الأدوية الوطنية المصدرة
|
هذه المعلومات نشرت بمصادر رسمية وشبه رسمية، لإيصال صورة عن تطور صناعة الأدوية في سوريا، لكن إذا أمعنا النظر قليلًا نجد:
انخفضت تحاليل الرقابة على الأدوية عام 2010 بمقدار 6762، أي ما نسبته 41.48% عن السنة الأساس 2005، في حين انخفضت عن السنة 2009 بمقدار 2384 أي ما نسبته 20%، في حين زادت نسبة المعامل المنتجة للدواء عام 2010 بمقدار 16، معمل أي ما نسبته 29.6% عن السنة الأساس 2005، أما مقارنة بالعام 2009 فكان مقدار زيادة ثلاثة معامل ما نسبته 4.47%.
وهذا يشير إلى أمرين:
إما أن تكون معامل الأدوية في سوريا لا تتقيد بمعايير الجودة التي ذكرت في الوسائل الرسمية والتي تمثّل مأمونية الأدوية، وهي عنصر أساسي من عناصر سلامة المرضى.
وتعتمد مأمونية الأدوية على الصعيد العالمي على قوة النظم الوطنية وقدرتها على رصد عمليات استحداث الأدوية ورصد جودتها والإبلاغ عن آثارها الضارة وتوفير معلومات دقيقة عن الأساليب المأمونة لاستعماله، وهو ما أشار الجدول (أعلاه) إلى انخفاضها.
أو أن القواعد التي تطبقها معامل الأدوية السورية غير صحيحة أو قديمة توقفت عن ممارستها بعد الحصول عليها، وهي:
- تطبيق قواعد الممارسات التصنيعية الجيدة GMP.
- تطبيق أنظمة الجودة:
– نظام إدارة الجودة ISO 9000.
– نظام إدارة البيئة ISO 14001.
– مواصفة السلامة المهنية للعاملين OHSAS 18001.
– نظام إدارة الممارسة المخبرية الجيدة 17025
• توفر وتأهيل كوادر فنية لتتلاءم مع الصناعات المتطورة الدقيقة.
هل الأدوية السورية تحقق الدساتير والمواصفات العالمية؟
دخلت دمشق اتفاقية التجارة العربية بعلاقات سياسية، اعتمادًا على رخص الدواء السوري كسلاح رئيسي، لكن الجودة لم تكن أداة منافسة في الخارج، لأن المعيار الحكم لجودة الدواء السوري هو دراسة التكافؤ والتوافر الحيوي، ولا يوجد مراكز لإجراء تلك الاختبارات في سوريا، إذ يذهب أصحاب المعامل إلى الأردن لدفع الملايين وشراء الشهادة.
يوجد تحليل واحد متوفر في سوريا هو التحليل الكيميائي، ولكنه لا يفيد في حال التصدير، كما لا يوجد دراسات سريرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، فأكثر من 90% من الدواء السوري جنيس وليس مخترعًا، والدواء الحائز على امتياز منه تبلغ نسبته 8%، وهو امتياز قديم من أوروبا منذ عام 2000.
الدواء السوري “لا يغزو الأسواق“
أغلب مصنعي الدواء في سوريا يطالبون بـ “حماية الصناعات الدوائية المحلية”، بحسب تصريحات سابقة للدكتورة ميسون نصري، معاونة وزير الصحة، وهي معادلة مستحيلة الحل في علم التجارة.
ولابد من الإشارة إلى كلام الدكتور زهير فضلون، رئيس المجلس العلمي للصناعات الدوائية الوطنية في سوريا، الذي أكد أن عدد الدول التي يصدّر إليها الدواء هي “أسماء مسجلة لدى وزارة البلدين فقط، دون القدرة على دخول أسواقها، كما حدث في السوق اللبنانية التي لم نستطع الدخول إليها خلال 15 عامًا”.
تغطي المعامل السورية ما نسبته 90% من احتياج السوق المحلية وفي بعض تصريحات وزارة الصحة 92% من حاجة القطر، أما 8% الباقية فتستورد عن طريق مؤسسة التجارة الخارجية أو مستودعات الأدوية للقطاع الخاص.
لكن الوقائع التي يؤكدها الجدول تشير إلى أن الازدياد في عدد الشركات والمعامل هو ازدياد أفقي، في الوقت الذي تتجه فيه الشركات عالميًا للاندماج، لما تتطلبه عملية إنتاج الأدوية من إمكانيات مادية ضخمة، وهذا يتطلب الاتحاد بين شركات ومعامل الأدوية في سوريا للتركيز على المستوى الشاقولي وتطوير العمل.
ويتكون قطاع صناعة الدواء في سوريا من معملين للقطاع العام، والباقي للقطاع الخاص، بينما تتوقف ثمانية معامل حاليًا. تنتج هذه المعامل حسب نقيب الصيادلة 8000 صنف دوائي، أما الأدوية المستوردة باهظة التكاليف فغير متوفرة في الصناعة السورية، منها على سبيل المثال أدوية سرطانية، مشتقات الدم، أدوية هرمونية، لقاحات وهي أهم الزمر الدوائية.
التهريب يغطي حاجة السوق
عدد أصناف الدواء خلال خمس سنوات (من 2005 إلى 2010)، لم يزد عن 1677 دواء بنسبة زيادة 32.138% عن سنة الأساس، في حين زادت معامل الأدوية بنسبة مشابهة لزيادة نسبة عدد أصناف الدواء، ما يؤكد أن الزيادة لم تكن تتطور بقدر ما هي كمية لتغطية السوق، وبالتالي فإن الدواء السوري الذي يغطي احتياجات السوق هو “كلام دعائي” من الناحية الإحصائية.
أما من الناحية الواقعية فيقول الدكتور فضلون إنه “من دون مبالغة نحو 70- 80% من الصيدليات الموجودة في القطر والبالغ عددها نحو عشرة آلاف صيدلية تبيع أدوية مهربة، فيما لم يكن في العام 1990 سوى أربع صيدليات فقط تبيع هذه الأدوية”، مع ملاحظة أن مستوردات لبنان من الأدوية تشكل ضعفي حاجته والسبب التهريب إلى سوريا.
الاعتماد لا يكفي ربع احتياجات السوق
وعلى الجانب الآخر، أكدت اللجنة الاقتصادية في الحكومة أنها تخصص لوزارة الصحة 25 مليون يورو كل ربع عام، بهدف استيراد الدواء، أي 100 مليون يورو في العام 2010، لكن عمليًا تخصص وزارة الصحة ميزانية نحو 1.8 مليار ليرة سورية فقط من حصتها من الموازنة، وهذا الرقم لا يكفي لشراء اللقاحات البشرية التي تستوردها المؤسسة العامة للتجارة الخارجية، وهذا يعني:
- الاعتماد (1.8 مليار ليرة) لا يكفي لشراء سوى6% من احتياجات السوق من زمر اللقاحات.
- إذا كانت وزارة الصحة تحتاج سنويًا إلى 100 مليون يورو فقط لنوع واحد من الزمر الدوائية وهو اللقاحات، عدا باقي زمر الأدوية السرطانية، ومشتقات الدم، والأدوية الهرمونية، التي تشير الإحصائيات إلى أرقام أكبر من ذلك بكثير، فماذا يعني ازدياد عدد المعامل ماديًا وعلاجيًا؟
- إذا اعتبرنا كل زمرة تحتاج وسطيًا إلى نفس مبلغ اللقاحات (100 مليون يورو)، علمًا أن سوريا تعتبر من البلدان المرتفعة بنسب الإصابة السرطانية والهرمونية، ما يعني أننا بحاجة 400 مليون يورو لتغطية السوق الدوائية.
وبالتالي فإن الكلام عن أن الصناعة الدوائية تغطي 90% أو أكثر من احتياجات السوق، كاذبة وبعيدة عن الواقعية.
من خلال ما سبق وبمعلومات خاصة من مسؤولين في الحكومة، حول سبب التسجيل على رخص معامل الأدوية، التي وصلت خلال الفترة من أواخر 2007 حتى بداية 2010 إلى 3124 إضبارة، نصل إلى نتيجة أن سبب تقديم الطلبات للحصول على الرخص هو التجارة، إذ يحصل المستثمرون ورجال الأعمال على رخص لتشييد معامل أدوية سرعان ما يقومون ببيعها لاعتبارات عديدة، وهذا ما يثبت أيضًا عدم الثقة ببيئة الاستثمار في سوريا.