عنب بلدي – فاطمة المحمد
يعد تعلم اللغات في دول اللجوء التحدي الأكبر أمام اللاجئين للاندماج في المجتمع المضيف، وتمكينهم من الانخراط في مجالات العمل والدراسة، وتسهيل حصولهم على إقامات اللجوء.
وفي أثناء البحث عن بلد المستقر، اضطر سوريون بشكل متكرر لتغيير عدة بلدان لجؤوا إليها، وذلك ما وضعهم أمام تحدي تعلم لغة جديدة في كل مرة، في محاولة للاندماج والاستقرار بالبلد المضيف.
“انتهيت من دراسة اللغة التركية وفي الأسبوع الثاني انتقلت إلى ألمانيا، وبدأت من الصفر في تعلم لغة جديدة”.
بدور إدريس (26 عامًا)، المنحدرة من مدينة حمص وتقيم حاليًا في ألمانيا، تتكلم اللغة الإنجليزية والألمانية والتركية بطلاقة إلى جانب لغتها الأم العربية.
تغير بلد اللجوء بشكل متكرر اضطر بدور لتعلم لغة البلد المضيف في كل مرة.
قالت بدور لعنب بلدي، إن والدها منذ صغرها اهتم بإدخالها في دورات اللغة الإنجليزية والفرنسية، خلال فصل الصيف، وكان يفكر بإرسالها لإتمام تعليمها الأكاديمي في الخارج عندما تكبر.
واستطاعت إتقان اللغة الإنجليزية والفرنسية في عمر صغير، ما لعب، من وجهة نظرها، دورًا مهمًا في تمكنها من إتقان اللغتين.
لغات بلدان اللجوء
خرجت بدور إلى تركيا عام 2018، وبدأت بدراسة اللغة التركية لتتمكن من دخول الجامعة، وقرب مفردات اللغة العربية من مفردات اللغة التركية، إلى جانب التقارب بين الثقافتين، جعل إتقان التركية أمرًا سهلًا بالنسبة لها.
وبهدف دخول الجامعة، تعلمت بدور اللغة التركية خلال عام واحد، وكانت أقصر مدة تتعلم بها لغة جديدة، ودعّمت اللغة لديها من خلال المسلسلات والأغاني وأفلام الكرتون إلى جانب التسجيل بدورات تدريبية مكثفة في اللغة.
قالت بدور لعنب بلدي، إن الموافقة على طلب لم الشمل إلى ألمانيا الذي قدمه والدها لهم أتت بعد امتحانها لنيل شهادة اللغة التركية في المستوى الخامس “1C”.
“أذكر جيدًا، لقد قدمت امتحان (1C) يوم الاثنين وكان موعد طائرتي يوم الأربعاء، وبدأت من الصفر في تعلم اللغة الألمانية يوم الاثنين الذي يليه، كان الأمر محبطًا جدًا، وشعرت أن أحدهم أنزلني من قمة الجبل وطلب مني تسلقه من جديد”، قالت بدور.
تحديات جديدة
ذكرت الجريدة الألمانية المستقلة “recklinghaeuser” في تقرير لها عام 2021، أن الصعوبات التي تواجه المتحدثين الجدد باللغة كانت بسبب احتوائها على عدد لا يحصى من القواعد النحوية، وخصائص بناء الجملة، وهو ما يؤدي إلى مشكلات عديدة للأشخاص مع غير المتحدثين الأصليين بها.
وطول الكلمات في اللغة الألمانية يسبب الارتباك حتى عند المتحدثين الأصليين، وهناك كلمة مكونة من 67 حرفًا، ما يجعلها منافسًا قياسيًا لواحدة من أطول الكلمات في العالم، بحسب الجريدة.
وأضافت أن الاختلاف الأكبر عن اللغات الأخرى يعود للبنية النحوية والجملة، وتتميز اللغة الألمانية ببنية فريدة وبعديد من الحالات النحوية المختلفة، ويجد كثير من المتحدثين الأصليين باللغة صعوبة في وضع الصيغ الصحيحة بالترتيب الصحيح.
لم يكن الأمر سهلًا في بدايته لدى بدور مع ابتعادها مجددًا عن حلمها في ارتياد الجامعة لتعلم اللغة، ما جعلها تدخل في صراع نفسي بين إكمال مسيرتها أو التخلي عنها، خاصة بعد أن علمت أن دراسة اللغة الألمانية ستأخذ سنتين أو أكثر.
وطلبت من والدها منحها أسبوعين قبل البدء بتعلم اللغة الألمانية، لتحاول استيعاب الوضع الجديد وتتقبل أن دراستها الجامعية ستتأجل مجددًا، وتساءلت قائلة هل سأقضي حياتي كلها في تعلم اللغات؟
والدها كان أول المشجعين لتعلمها اللغات، ما يجعلها فتاة قوية تقف على أربع أقدام وليس فقط على قدمين، على حد تعبيرها.
لم تكن الألمانية باللغة السهلة على بدور، وكانت تختلف بشكل كامل عن بقية اللغات التي تعلمتها، ولكي تختصر على نفسها الوقت درست اللغة الألمانية كل مستويين معًا، وكانت تكرس كل وقتها في اليوم لتعلم اللغة.
وعلى الرغم من تفضيلها التعليم الإيجابي من خلال ممارسة اللغة والاختلاط مع السكان المتحدثين بها ومشاهدة الأفلام والمسلسلات بها، فإنها كرست كل وقتها للجمع بين كل أشكال التعليم من قراءة وكتابة وقواعد وحفظ وممارسة وتحدث مع سكان ومشاهدة رسوم متحركة باللغة الألمانية والاستماع إلى الأغاني ومشاهدة المسلسلات والأفلام الألمانية، بحسب ما ذكرته لعنب بلدي.
ووسط مشاعر من اليأس والإحباط، استطاعت بدور نيل شهادة المستوى السادس من اللغة الألمانية “2C”، وكانت تلك أكثر لحظة شعرت فيها بالفخر بإنجازها.
واعتبرت أن اللغة الألمانية هي الجسر الوحيد المتبقي لظفرها بدراسة الجامعة، وبذلت جهدًا كبيرًا للحصول على مقعد جامعي، والتحقت لاحقًا بكلية هندسة العمارة في ألمانيا، والآن يفصلها فصل دراسي ومشروع عن التخرج، وهي اليوم في سن الـ27.
وأضافت خلال حديثها أن رحلتها في تعلم اللغات جعلتها تدرك امتلاكها القدرة والمرونة اللازمة لتعلم أي لغة، فالتعلم المتكرر للغات مختلفة جعل دماغها مدربًا على اكتساب أي مهارة لغوية جديدة، ولذلك بدأت في الشهر الماضي بتعلم اللغة الإسبانية لكونها لغة عالمية ومهمة.
ولا تعتقد بدور أنه يمكن وضع اللغة بقالب من المستويات، لأنها عبارة عن بحر من العلم وعملية تعلمها مستمرة.
وكل لغة تختلف بشكل مطلق عن اللغات الأخرى، فتوجد دائمًا مصطلحات من الصعب إيجادها في لغة أخرى.
المتحدثون بأكثر من لغة
شارك الموقع الرسمي لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية مقالًا للدكتورة في جامعة “كاليفورنيا” جوديث كرول قالت فيه، إن الأبحاث الجديدة حول تعدد اللغات غيرت من مفهومنا بتعلم لغتين أو أكثر، وآثار تعلم اللغات على الدماغ والنجاح والرفاهية.
وأشارت نتائج الأبحاث إلى أن الأفراد المستفيدين من التعرض لعدة لغات يوفر لهم دماغهم حماية ضد التدهور المعرفي، وانعكست هذه الحماية على الشيخوخة الصحية، وتجنب الإصابة بالسكتات الدماغية والخرف.
وأفادت الأبحاث التي استندت إليها كرول في أن وجود لغتين يعزز من فرص التفاعل الاجتماعي والتقدم الاقتصادي، وزيادة التفاهم بين الثقافات، وكون الشخص متعدد لغات يخلق هذا لديه مرونة في أثناء مواجهة ظروف متوترة.
وسيلة للاندماج
خرج عبد الملك دغيم (26 عامًا) من مدينة إدلب إلى تركيا في عام 2014، وفي حين كانت أعداد السوريين لا تزال قليلة في تركيا، شعر بضرورة تعلم لغة البلد المضيف ليتمكن من إكمال تعليمه الأكاديمي والبحث عن فرص عمل مناسبة.
قال عبد الملك لعنب بلدي، إنه توجه إلى مدينة كربوك التركية في عام 2015، وسجل في دورة تدريبية للحصول على شهادة “2C”، وعاش في منزل واسع مع 12 طالبًا تركيًا، وكان هو العربي الوحيد بينهم، ما اضطره إلى التكلم باللغة التركية، وأسهم ذلك في تطور لغته بشكل سريع وفعال، بحسب قوله.
ولاحظ عبد الملك أن تحدثه بلغة أهل البلد المضيف جنّبه التعرض لمواقف عنصرية بشكل كبير، ويعتقد أن نسبة كبيرة من المواقف وقعت بسبب عدم إتقان اللاجئين السوريين للغة، وعدم قدرتهم عن الدفاع عن أنفسهم أو أفكارهم.
دخول عبد الملك إلى فرع السينما والتلفزيون بجامعة “تشاناكالي” أسهم بشكل كبير بتعزيز رغبته بتعلم اللغات، لمعرفة ثقافة البلد من خلال لغتها وأفلامها ومسلسلاتها وأغانيها.
واستطاع بعد تمكنه من اللغة بالمساعدة بالترجمة للسوريين داخل المستشفيات والدوائر الحكومية، إذ لم يكن هناك، آنذاك، كثير من السوريين المتحدثين باللغة التركية، على حد قوله.
حاول عبد الملك شرح الأفكار المغلوطة لدى الأتراك عن السوريين من خلال تقديم فيديوهات تثقيفية تشرح ما يجري في سوريا والثورة السورية، وذلك عبر صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضًا على منصات مختلفة.
وكان يتولى مصروفه في الجامعة من خلال عمله مترجمًا محلفًا في مدينة “تشاناكالي”، إلى جانب بدئه ترجمة قصص قصيرة من اللغة التركية إلى العربية لدور النشر.
أبواب تفتحها اللغات
الآفاق التي فتحتها اللغة لعبد الملك جعلته متحمسًا لتعلم اللغة الإنجليزية، وخلفيته القواعدية عنها سهلت عليه بداية الطريق، فإلى جانب دراسته الجامعية بدأ بأخذ دورات تدريبية بالإنجليزية، وتبديل لغة أجهزته الإلكترونية والأفلام التي يتابعها والأغاني والمسلسلات والمشاهير من مستخدمي “يوتيوب” والمدونين، جميعها إلى اللغة الإنجليزية، وحاول تعويض عدم وجود متحدثين باللغة في محيطه بالانضمام المكثف لجلسات المحادثة التي ينظمها المعهد الذي انضم إليه، بحسب قوله.
التعرف إلى ثقافات متنوعة ومجتمعات مختلفة، جعل رغبته في الترجمة تزيد بعد إدراكه لأهميتها في نقل الرسائل والتعريف بالحضارات، وذلك دفعه إلى ضم اللغة الإنجليزية إلى ترجماته للكتب، إلى جانب عمله في ترجمة الرسائل والإيميلات الرسمية لإرسالها للسفارات والمنظمات وغيرها.
العودة إلى نقطة الصفر
انتقل عبد الملك إلى ألمانيا في عام 2023، وقوانين ألمانيا الملزمة بتعليم اللغة الألمانية للاجئين جعلته أمام تحدٍّ جديد في تعلم اللغات، وبدأ منذ بداية عام 2023 بحضور الدورات التدريبية لتعلمها.
ويرى أن إلزام ألمانيا للاجئين بتعلم لغة البلد المضيف إلى مستوى معين إجراء سهّل على اللاجئين حياتهم ومكنهم من التحدث دون الاستعانة بمترجم في الدوائر الحكومية والمستشفيات وغيرها، وأيضًا خفف عمليات الاحتيال على اللاجئين.
وذكر أن عدم الاختلاط بالألمان صعّب عليه تعلم اللغة، ولكن بوجهة نظره فإن تعلمه عدة لغات أسهم بتعزيز منطقه اللغوي وفهم القواعد لأي لغة وبناء جملها، وجعله يتعلم بشكل أسرع من بقية الأشخاص الذين لا يتحدثون سوى لغة واحدة، ومع كل لغة إضافية تعلمها كانت اللغة التي تليها أسهل عليه.
وتتصدر سوريا قائمة الدول المصدّرة للاجئين، إذ يبلغ عدد اللاجئين السوريين في أنحاء العالم نحو ستة ملايين ونصف المليون، حسب أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ولا يشمل هذا الرقم طالبي اللجوء.