عنب بلدي – يامن المغربي
“أمام المعبر وقفت أرتجف، أعالج شعور الخوف داخلي من العودة إلى وطن اعتقدت أنه لي وغادرته مجبرًا، أوراقي كاملة، وورقة الإعفاء من التجنيد في جيبي، وكل ما علي هو المرور من معبر (كسب)، عين تراقب الجنود والثانية تنظر إلى يد الموظف بانتظار ختم الدخول”.
ليس من الضروري أن يشعر كل إنسان يقف أمام حدود بلاده، طالما كان ليس سوريًا، بالخوف والقلق، أو أن تتبادر إلى ذهنه الأفكار السابقة، كما حصل مع محمد، أحد سكان داريا في محافظة ريف دمشق، بعد تسع سنوات قضاها في تركيا، حتى فاض به الكيل وقرر العودة إلى مدينته عبر معبر “كسب” الحدودي.
في 2013، انتهى حصار طويل نفذته قوات النظام السوري على المدينة، بتهجير الكثير من سكانها، منهم إلى الشمال الخارج عن سيطرة النظام السوري، ومنهم إلى لبنان، وآخرون عبروا إلى تركيا، وكان محمد أحدهم ولم يتجاوز عمره 15 عامًا حينها.
خرج محمد من داريا ووصل إلى تركيا، وقرر العودة مجددًا في 2021.
ما بين العامين، عاش محمد حياة صعبة، تشبه حياة مئات آلاف اللاجئين السوريين في تركيا ودول جوار سوريا، قبل أن يتخذ قراره، كسوريين آخرين التقتهم عنب بلدي، وتحدثوا عن أسباب وظروف عودتهم إلى بلادهم مجبرين، ولكل واحد منهم أسبابه وقلقه، وندمه أيضًا، ووجهة قدومه ووصوله المختلفة.
ما بين الصعوبات المادية والعنصرية و”الخوف على مستقبل البنات”، اختلفت الأسباب والدوافع لعودة سوريين إلى مدنهم، سواء تلك التي يسيطر عليها النظام أم غيرها ضمن مناطق السيطرة المختلفة والممتدة على الجغرافيا السورية اليوم.
من تركيا إلى إدلب وداريا.. طريقان عبر المعابر
“عشت في سكن شبابي، كل ما كنت أفعله هو العمل والنوم، لم أرَ من جمال تركيا شيئًا، لم أملك حرية الحركة والتنقل، ولم أستطع تجديد الكملك (بطاقة الحماية المؤقتة التي تمنحها السلطات التركية للاجئين السوريين)، وراتبي الشهري مقسم بين مصروف أهلي في ريف دمشق ومعيشتي في اسطنبول”.
محمد هو واحد من اللاجئين السوريين ممن واجهوا خطاب كراهية غذته أحزاب تركية مناهضة لوجودهم.
بلغ عدد السوريين المقيمين في تركيا، بحسب أحدث إحصائية أصدرتها رئاسة الهجرة التركية عبر موقعها الرسمي، ثلاثة ملايين و174 ألفًا و851 لاجئًا، ممن يحملون بطاقة “الحماية المؤقتة”.
وتستمر أعداد اللاجئين السوريين في تركيا بالانخفاض، إذ كان عدد الخاضعين لنظام “الحماية المؤقتة” ثلاثة ملايين و222 ألفًا و898 لاجئًا.
وتراجع عدد اللاجئين السوريين في تركيا خلال عام 2023 أكثر من 313 ألفًا، وفقًا للإحصائيات الرسمية التي تنشرها رئاسة الهجرة التركية بشكل مستمر.
وهناك خمسة معابر بين تركيا وسوريا، هي معبر “كسب” الحدودي الذي يسيطر عليه النظام السوري، ويدخل عبره من يريد الوصول إلى مناطق النظام دون المرور بالمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، ومعبر “باب الهوى” بين إدلب وتركيا، بالإضافة إلى معابر “باب السلامة” و”تل أبيض” و”جرابلس”، وكلها تسيطر عليها المعارضة السورية.
عاد محمد إلى داريا خشية من عمليات الترحيل، وعدم وجود أفق لحياته وبعده عن أهله، تردد كثيرًا لخوفه من الاعتقال وإجباره على الالتحاق بقوات النظام السوري، قال لعنب بلدي.
قبل عودته إلى سوريا، جمع محمد مبلغ ثمانية آلاف دولار أمريكي، بدل التجنيد الإجباري العسكري في مناطق النظام، وحصل على ورقة تخوله الدخول إلى بلده قادمًا من تركيا عبر معبر “كسب” الحدودي، وكان يتنقل وفي جيبه ورقة الإعفاء التي يظهرها لدى مروره بكل حاجز عسكري.
وتستمر المنظمات الحقوقية والإنسانية بتوثيق حالات الاعتقال لعائدين إلى سوريا عبر معبر “كسب”، الذي يعتبر نقطة لاستهداف واعتقال العائدين إلى سوريا.
ومع كل تقرير شهري أو سنوي تصدره المنظمات الحقوقية، تحذر فيه من العودة إلى مناطق سيطرة النظام ككل، على اعتبارها “غير آمنة”، كما تحذر من العبور من خلال معبر “كسب“.
ويترافق أي حديث عن فتح المعبر أمام حركة مرور الأشخاص، بنشاط لمجموعات عبر “فيس بوك” من أجل “السمسرة” ونقل الأشخاص، مع تقديم تطمينات بعدم تعرض العائدين لأي خطر خلال الطريق.
وفي حين كان قرار محمد شخصيًا بالعودة إلى مدينته والبقاء بجانب أهله، والتخلص من القلق من الترحيل، لم يكن كذلك بالنسبة لبلال، الذي وجد نفسه مجبرًا على العودة.
قبل أشهر من لقائه مع عنب بلدي، كان متجهًا إلى عمله في مصنع للتطريز على أطراف مدينة بورصة، أوقفته دورية شرطة وطلبت بطاقة “الحماية المؤقتة” الخاصة به، وفي غضون دقائق وجد نفسه داخل سيارة الشرطة، لأنه عجز عن تجديد بطاقته بسبب عوائق تتعلق بتثبيت مكان الإقامة.
من المخفر اقتيد بلال مُقيّدًا نحو مركز الهجرة في المدينة، وهناك تعرض لشيء من التعنيف لإجباره على توقيع وثيقة تُسمى “العودة الطوعية”.
اتصل بشقيقه طالبًا المال وبعض الملابس، وأخبره باحتمال ترحيله في أي وقت، ثم صودر هاتفه المحمول، وانقطع اتصاله بالعالم الخارجي تمامًا، إلى أن رُحّل إلى إدلب عبر معبر “باب الهوى” الحدودي، بعد أسبوع من توقيفه.
يعيش اليوم بلال وسط ظروف صعبة في إدلب بعد ترحيله كما مئات السوريين الذين وصلوا إلى الشمال السوري، سواء طوعًا أم قسرًا، ويعانون صعوبة تأمين الاحتياجات اليومية، خاصة المتزوجين منهم.
ويعيش في الشمال السوري، حيث تسيطر المعارضة، مليونا شخص في المخيمات من إجمالي 2.9 مليون نازح، وذلك في منطقة يقطنها 4.5 مليون شخص، ويعاني فيها 3.7 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي، وفق بيانات الأمم المتحدة الأحدث.
ووصل حد الفقر المعترف به إلى 9314 ليرة تركية، وحد الفقر المدقع إلى 6981 ليرة تركية، ووصلت نسبة البطالة إلى 88.74% بشكل وسطي (مع اعتبار أعمال المياومة ضمن الفئات المذكورة)، بينما يبلغ الحد الأدنى للرواتب في إدلب حيث تسيطر “الإنقاذ” وأرياف حلب حيث تسيطر “الحكومة المؤقتة” بين 1140 و1500 ليرة تركية (الدولار 30.2 ليرة تركية).
أوروبا.. الاستقرار يخضع لمخاوف المستقبل
الحديث عن مغادرة تركيا من قبل السوريين المقيمين فيها يبدو روتينًا يوميًا في ظل الظروف الحالية، خاصة لمن لا يمتلك عملًا خاصًا أو لم يحصل على الجنسية التركية، مع محاولات يومية للهجرة إلى أوروبا أو بلاد أخرى.
إلا أن حكاية عمار، من سكان دمشق، مختلفة عن الحكايات الأخرى لسوريين قرروا أو أجبروا على العودة إلى وطنهم، بعد أن قرر مغادرة السويد بشكل نهائي والعودة إلى العاصمة السورية، “خوفًا على بناته من تأثير عادات المجتمع الغربي على أفكارهن”، قال لعنب بلدي.
“لا أريد أن أخسر بناتي، وليس لي ولأمهن قدرة على تعليمهن عاداتنا وتقاليدنا وارتداء الحجاب”.
لعمار ثلاث بنات أعمارهن 15 و12 و10 سنوات على التوالي، وأقام في السويد لثلاث سنوات.
وفق ما قاله لعنب بلدي، يعيش عمار في حال صعبة بسبب الظروف الاقتصادية وارتفاع الأسعار، لكنه غير نادم، معتبرًا الحفاظ على بناته أفضل من رفاهيات السويد، بحسب قوله.
وقال مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن العديد من السوريين الذين فروا من الحرب، يواجهون انتهاكات وتجاوزات جسيمة لحقوق الإنسان عند عودتهم إلى سوريا.
وذكر تقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في 13 من شباط الماضي، أن الانتهاكات والتجاوزات الموثقة ارتكبتها الحكومة وسلطات الأمر الواقع والجماعات المسلحة الأخرى في جميع أنحاء سوريا.
ومن الانتهاكات التي ذكرها التقرير، الاحتجاز التعسفي، والتعذيب، وسوء المعاملة، والعنف الجنسي والمبنى على النوع الاجتماعي، والإخفاء القسري، والاختطاف.
واستند التقرير إلى شهادات عائدين إلى سوريا، روى أحدهم أن قوات الأمن التابعة للسلطات المحلية اعتقلته بمجرد عودته إلى سوريا، واقتادته إلى مكان مجهول، حيث بقي معصوب العينين ليومين، وتعرض لضرب مبرح.
كما تحدثت إحدى العائدات عن اعتقالها مع ابنتيها من قبل قوات الأمن التابعة للنظام السوري، لأسبوع، خلال محاولتها مغادرة سوريا للمرة الثانية.
وقالت إنها اضطرت لدفع رشوة قدرها 300 دولار أمريكي لتسريع إطلاق سراحها.
ووثقت اللجنة الأممية حالات للاجئين سوريين عائدين من دول الجوار، تعرضوا لسوء المعاملة من أجهزة الأمن التابعة للنظام السوري، وتعرض بعضهم للابتزاز مقابل إطلاق سراحهم، بينما تعرض بعضهم الآخر للاعتقال، وما زال عديد منهم، بينهم أطفال، في عداد المفقودين حتى الآن.
“بطلت بدي لجوء”
وكما عاد عمار إلى مدينته، دمشق، قرر طلال كذلك العودة إلى مدينته القامشلي في شمال شرقي سوريا.
كحال آلاف السوريين، اتخذ طلال قراره بمغادرة البلاد، وباع محله الصغير وانتقل إلى بيلاروسيا ووصل إلى ألمانيا متفائلًا بحياة أفضل، ومع مرور الوقت وبدء دروس اللغة شاهد كيف يعيش الشباب والمراهقون هناك، وكيف تختلف عاداتهم وتقاليدهم عن تلك التي نشأ عليها في سوريا سواء من الناحية الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية.
أصبح من الصعب بالنسبة لطلال التكيف مع هذه التحولات، وأدرك أنه قد يواجه صعوبات بتربية أطفاله في بيئة ذات عادات وتقاليد مختلفة، لذا قرر العودة رغم التحديات الاقتصادية والظروف الحياتية الصعبة في سوريا.
قرارات السوريين بالعودة، تقابلها محاولات الآلاف منهم، على اختلاف وجودهم في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة مختلفة، المغادرة إلى بلاد أخرى، خاصة في ظل الظروف الأمنية والاقتصادية والسياسية الصعبة.
وتعد سوريا من الدول غير الآمنة وفق التصنيفات الدولية.
واعتقل النظام السوري 1063 شخصًا من أصل 2317 شخصًا في مختلف مناطق السيطرة، وفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“، بينهم عائدون إلى بلدهم من اللاجئين، ويبلغ عددهم إلى 156 شخصًا.
وفق “الشبكة”، فإن معظم الاعتقالات كانت في دمشق ثم حلب ثم ريف دمشق، فيما يبلغ العدد الكلي لمن ما زالوا مفقودين ومختفين قسرًا 155 ألفًا و604 أشخاص، منذ 2011.
كما تبلغ نسبة الفقر 90% بين السوريين، و70% من السكان، أي نحو 15 مليون سوري، بحاجة لمساعدات إنسانية، وفق أرقام الأمم المتحدة.
وتبلغ تكلفة النداء الإنساني 11.1 مليار دولار، وهو الأكبر على مستوى العالم، كما أن الأمن المائي غائب عن البلاد، إذ تعد سوريا من أكثر البلاد عرضة للجفاف.