تشهد مدينة إدلب شمالي سوريا حالة توتر على خلفية مقتل عنصر من فصيل “جيش الأحرار” في سجون “هيئة تحرير الشام”، إثر تعذيب تعرض له على خلفية ملف “العمالة” الذي يعصف في صفوف “الهيئة” منذ عام.
تأتي حادثة مقتل عبد القادر الحكيم، المعروف بـ”أبو عبيدة تل حديا”، في الوقت الذي تتحدث فيه قيادة “تحرير الشام” عن انتهاء التحقيقات، وتحاول تطويق ملف “العمالة” إعلاميًا، عقب سلسلة إفراجات لقياديين وعناصر في سجونها.
تصفية قبل خمسة أشهر
علمت عنب بلدي من أقرباء القتيل ومصادر في الفصيل الذي ينضوي فيه، أنهم علموا بتصفيته في سجون “الهيئة” منذ نحو خمسة أشهر، وتأكدوا من ذلك في 24 من شباط الحالي، بعد ضغوط على “تحرير الشام” لمعرفة مصيره، عقب اعتقاله منذ قرابة عشرة أشهر.
قريب لـ”أبو عبيدة تل حديا” (طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية) قال لعنب بلدي إن القتيل لم يعرف عنه سوى حضوره الدائم على جبهات القتال وله سمعة جيدة، ولم ينجر لقتال فصائلي أبدًا، وانضم إلى أول تشكيل عسكري في منطقته ضد قوات النظام، ويتميز بالأخلاق العالية ومحبوب من الناس.
كما أنه عاش يتيمًا، فقد وُلد بعد وفاة أبيه بأيام، وشقيقه الأكبر من ذوي الإعاقة، ثم رزق بثلاثة أولاد، اثنان منهم من ذوي الإعاقة.
وذكر قريبه أن معظم أبناء ريف حلب الجنوبي وخاصة من بلدة تل حديا الذين اعتقلتهم “تحرير الشام” تعرضوا لتعذيب شديد في السجون، وبدت آثار التعذيب بعد الإفراج عنهم، وكانت أوضاع بعضهم الصحية سيئة.
خلاف قديم واتهام
مصادر عسكرية في “جيش الأحرار” كشفت لعنب بلدي أن “أبو عبيدة” على خلاف مع قاطع البادية في “هيئة تحرير الشام” والذي كان يسيطر على منطقة ريف حلب الجنوبي، وحصلت عدة خلافات بسبب منعه لعناصر أمنيين تابعين لـ”الهيئة” من دخول قريته واعتقال أشخاص منها سابقًا (قبل أن تسيطر عليها قوات النظام).
وفي أيار 2023، طالب أمنيون في “تحرير الشام” قيادة “جيش الأحرار” بتسليم “أبو عبيدة” للتحقيق معه عدة أيام ولم يخبروهم بتهمته.
وأضافت المصادر أنه بعد اعتقال “أبو عبيدة”، علم قادة الفصيل كما الناس أن تهمته “العمالة”، وأنه يخضع لعمليات تعذيب وحشية في السجن، وتهمته أنه استلم حوالة نقدية من جهة استخباراتية خارجية، وأنه اعترف بذلك.
وبعد خروج قيادات وعناصر “تحرير الشام” في حملة الإفراج الجماعي نهاية كانون الثاني الماضي، طالب أهله بمعرفة مصيره ليتم إخبارهم، أنه مات ودفن في مقبرة بمنطقة الشيخ بحر بريف إدلب الغربي، منذ خمسة أشهر.
حق القتيل
بعد معرفة مقتل “أبو عبيدة” ودفنه، رفض أهله إقامة عزاء قبل أن يستلموا جثته، لتقوم “تحرير الشام” بإرشادهم إلى قبره، فتوجه رتل عسكري لـ”جيش الأحرار” إلى منطقة الشيخ بحر، ونقلو الجثة وشيعوه في عدة مناطق من ريف إدلب، وتم دفنه في بلدة تفتناز شرقي إدلب.
رافقت الرتل هتافات تتهم “الهيئة” وقائدها “أبو محمد الجولاني” بـ”العمالة والظلم”، وسط حالة من الغضب الشعبي سادت بين أوساط أهالي تل حديا وريف حلب الجنوبي عمومًا، خاصة بعد أن تبيّن أن “الهيئة” جهّزت قبرًا وشاهدة باسم الشاب وتاريخ وفاته بوقت حديث، أي بعد فضح مصيره.
وطالب أبناء بلدة تل حديا من عسكريين ومدنيين قيادة “تحرير الشام” تحصيل حق القتيل “أبو عبيدة” ممن كان مشرفًا على تعذيبه، وأصابع الاتهام تشير إلى المحققين “أبو عبيدة منظمات” و”أبو الجماجم”.
“جيش الأحرار” يعلق
بدا واضحًا من الأرتال الكبيرة لـ”جيش الأحرار”، وسط هتافات التكبير والعبارات الغاضبة من “تحرير الشام”، مدى غضب قيادة وعناصر الفصيل من مصير “أبو عبيدة”، خاصة أن الفصيل هو من سلّم القتيل لـ”تحرير الشام”.
ونعى القتيل عناصر “جيش الأحرار” والقائد العام للفصيل، “أبو صالح طحان“، وقال عبر تطبيق “إكس”، “إن ما يعصف بالمحرر من أحداث تدعو كل عاقل لمراجعة حساباته مع ربه أولًا ثم مع نفسه والآخرين، فمهما بلغ إعدادنا العسكري مبلغه، فلا نصر يرتجى وقد شاعت بيننا المظالم”.
وكان فصيل “جيش الأحرار” أحد أكبر الفصائل في “الهيئة” لكنه انشق عنها منذ 2017، ويعتبر نفسه فصيلًا مستقلًا عن “تحرير الشام” دون أي عداء ملموس، ويقوده “أبو صالح طحان”، ويملك نقاط رباط عدة، أبرزها في مطار “تفتناز” العسكري.
من “أبو عبيدة تل حديا”
بحسب مصادر عنب بلدي، ينحدر “أبو عبيدة” من قرية البوابية في ريف حلب الجنوبي وهو من مواليد 1997، ولكنه عاش مع أمه عند أخواله في قرية تل حديا بريف حلب الجنوبي.
شارك الشاب بالمظاهرات والحراك الشعبي بقريته رغم صغر سنه، وفي 2015 انضم لـ”حركة أحرار الشام” مع “لواء الهجرة” وخاض معه عدة معارك، وفي 2017 عمل مع “جيش الأحرار”، وكان إداري سرية تل حديا ثم أمير مجموعة بالقوات الخاصة في “جيش الأحرار”.
اعتراف بالتعذيب
منذ شهر وبشكل شبه يومي، أطلقت “تحرير الشام” سراح عدد من قيادييها العسكريين، بعد اعتقالهم لفترات زمنية متفاوتة، بتهم “العمالة لجهات خارجية”، والتعاون مع الرجل الثاني في الفصيل والقيادي العراقي المعتقل حتى الآن، ميسر بن علي القحطاني، المعروف بـ”أبو ماريا القحطاني”.
وعلمت عنب بلدي من مصادر عسكرية في “الهيئة” أن قيادة “تحرير الشام” منحت مبالغ لقياديين خرجوا من سجونها، تراوحت بين 2000 و5000 دولار أمريكي، واختلفت تبعًا لمدة السجن وطبيعة منصب القيادي.
وظهرت علامات التعب والتعذيب على معظم المفرج عنهم، تبعها اعتذار من “الجولاني” وتعهده بمحاسبة كل من ارتكب تجاوزًا بحق المعتقلين، وزيارته لبعض الخيام (المضافات) التي شُيدت لاستقبال المفرج عنهم، كما زار مسؤول الجناح العسكري في “الهيئة”، “أبو الحسن الحموي”، بعضهم.
وترافقت عمليات الإفراج بإطلاق نار كثيف باستخدام أسلحة متنوعة، وصلت في بعض الحالات إلى الإطلاق بمضاد الطيران، دون أي رد فعل من “الهيئة”، رغم أن ذلك ممنوع في مناطق سيطرتها.
واعتبر “الجولاني” أن ما جرى خلال التحقيق هو “جريمة في حق هؤلاء الإخوة”، ويجب اتخاذ إجراءات لازمة لإعادة حقوقهم، وذكر أن “الهيئة” أوقفت بعض المتسببين في هذه التجاوزات.
وأوضح باحثون في الجماعات الجهادية لعنب بلدي، أن زيارة “الجولاني” لبعض القياديين، واعتذاره عن عمليات التعذيب في السجون، هي محاولة ترميم العلاقة مع هؤلاء الأشخاص، ومحاولة تهدئتهم لكيلا يأخذوا خطوات تصعيدية تجاه “الهيئة”.
تعذيب وسياسة “ماكرة”
وكانت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” وثّقت انتهاكات “تحرير الشام” منذ الإعلان عن تأسيس “جبهة النصرة” في سوريا في كانون الثاني 2012 حتى نهاية عام 2021، وأحصت مقتل ما لا يقل عن 505 مدنيين على يد “الهيئة”، بينهم 71 طفلًا و77 سيدة، و28 قُتلوا تحت التعذيب، إضافة إلى ما لا يقل عن 2327 شخصًا لا يزالون قيد “الاحتجاز التعسفي” أو الاختفاء القسري في سجونها.
وذكر تقرير “الشبكة” أن “الهيئة” ارتكبت انتهاكات واسعة للقانون الدولي لحقوق الإنسان بحق الأهالي في المناطق الخاضعة لسيطرتها عبر عمليات الخطف والاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب، وعبر الأحكام الجائرة الصادرة عن محاكم لا ترقى بأي حال من الأحوال إلى القواعد الأساسية للمحاكمات العادلة.
وذكرت أن “الهيئة” تتبع سياسة “ماكرة”، قائمة على استدعاء الناشطين المعارضين والمتظاهرين، والمنتقدين لسياسة حكومة “الإنقاذ”، المظلة السياسية لـ”الهيئة”، والأخطاء التي ترتكبها.
مطالب بلجنة قضائية
في الأشهر الأولى من 2023، تصدرت قضية وجود اختراقات في صفوف “تحرير الشام”، ومتعاملين لمصلحة التحالف الدولي وروسيا والنظام السوري، الواجهة الإعلامية، وأثارت جدلًا واسعًا في المنطقة.
زجّت “الهيئة” بكبار قيادييها في السجون، وسط حالة تخبط عاشها الفصيل، الذي شهد أيضًا انشقاق الرجل الثالث جهاد عيسى الشيخ “أبو أحمد زكور” عنه.
بعد سلسلة الإفراجات، طالب شرعيون ودعاة وصل عددهم إلى 11 شخصًا، بأن يكون الحكم بقضية “العمالة” عبر لجنة قضائية يترأسها الدكتور إبراهيم شاشو، معتبرين أن ملف “الاختراق والعمالة أشد نازلة طالت الثورة”.
ودعوا في بيان مشترك إلى أن يترأس إبراهيم شاشو اللجنة لأنه محل ثقة وقبول من جميع الأطراف، وهو أحد القضاة الكبار في الشمال، ويثق به عموم الناس، وأن يكون لهذه اللجنة كامل الصلاحيات بلا أي مراجعة أو توجيه أو ضغط، ويكون حكمها قطعيًا غير قابل للاستئناف بحال، وينفذ فور صدوره، فما حكمت به اللجنة يكون محل ثقة وقبول من الجميع سواء حكمت بإدانة أو تبرئة، وفق البيان.
اقرأ أيضًا: “تحرير الشام” تطوي ملف “العمالة” إعلاميًا.. محاولة للترميم