إبراهيم العلوش
مع اندلاع حرب غزة تفوقت أقوال الصحافة العالمية والإسرائيلية، وتصدرت شاشات البث التلفزيونية العربية، وصارت بعض القنوات تبث حلقتين في اليوم عن أقوال الصحف الدولية، متجاهلة أقوال الصحف العربية وتحليلاتها.
يميل المستهلكون في العالم العربي عمومًا إلى السلع المستوردة لجودتها، أو لامتلاكها قوة تسويق، أو بسبب ضعف المنتج المحلي. وفي حرب المعلومات التي اندلعت مع الحرب المتوحشة ضد شعب غزة، فإن الصحف العالمية وتحليلاتها تصدرت البرامج، وصار المحللون يستهلكون الأخبار والتحليلات الصحفية المترجمة استجداء للمعلومة، أو بحثًا عن بصيص أمل بوقف الحرب، أو بدافع التعاطف من هذه الصحيفة الشهيرة أو تلك.
وفي المقابل، فإن التجاهل يلف تحليلات الصحافة العربية، ولا تعتني القنوات التلفزيونية العربية ولا مواقع “الميديا” بأخبارها ولا بمقالاتها بشكل دائم، إلا إذا استشهدت بها المواقع الأجنبية، مثل صحيفة “الأيام” الفلسطينية التي تورد تحليلاتها أحيانًا قناة “بي بي سي” وموقعها الإلكتروني، إلى جانب أقوال الصحف البريطانية.
ورغم أن الصحافة الغربية عمومًا تميل إلى التحيز الواضح لإسرائيل، ووقعت تحت نقد وسائل “الميديا” الغربية والحركات الشبابية، فإن الصحافة الغربية لا تزال متفوقة في برامج التلفزة العربية عن أقوال الصحف وفي البرامج التحليلية، التي نادرًا ما تورد مقالات عربية، ربما لعدم وجود تسويق لها، أو انعدام ثقة القراء بها، مع عدم استبعاد شبهة إعادة الصياغة لبعض المقالات الأجنبية بما يتناسب مع رغبات الجمهور، وهذا لا يمكن تنفيذه مع المقالات المكتوبة باللغة العربية.
واللافت في هذه الاندفاعة المعلوماتية هو تفوق صحيفة إسرائيلية مثل “هآرتس” على الصحف العربية في كثرة الاستشهاد بها أو التمعن في تحليلاتها عبر الإعلام العربي، وبرز اسم مثل جدعون ليفي وصار أشهر من محمد حسنين هيكل في أيام عزه. في حين أن التلفزة الإسرائيلية فشلت في نقل موضوعي للأخبار، كما يقول المحلل الفلسطيني وائل عواد في برنامجه اليومي عن الصحافة الإسرائيلية في قناة “الغد”، ويكرر دائمًا أنها تنساق خلف مشاعر الانتقام، وتمنح المزيد من الوقت لليمين المتطرف الذي يدفع إلى استمرار المحرقة ومهما كانت النتائج.
ويوميًا تورد صحيفة “القدس العربي” مثلًا مساحات كبيرة لأقوال الصحف الإسرائيلية والغربية، يديرها الصحفي إبراهيم درويش، وصارت تحتل مساحة مهمة بالنسبة إلى مقالات الرأي في الصحيفة، رغم أن الصحيفة تورد ملخصًا للصحف المصرية على شكل كومة متناثرة من الأخبار والقليل من الرأي الجريء والجديد.
لم تتورط الصحافة العربية حتى الآن بتكرار أسلوب المذيع المصري أحمد سعيد في حرب 1967، ومحمد سعيد الصحاف في حرب العراق 2003، ولكن فشل الصحافة العربية في تحليل حدث كبير مثل حرب غزة، وعدم قدرتها على الإحاطة بالأحداث إلا بالاستعانة بالصحف الأجنبية، يجعل الفشل الصحفي رديفًا للفشل السياسي العربي في معالجة حرب نوعية ستترك أثرها على المنطقة كما تركت آثارها حرب 1948 وحرب 1967، اللتان ألحقتا العار بالزعامات العربية وتسببتا بتغييرات سياسية في العالم العربي.
وبالرغم من “لوبيات” الضغط، يمتاز الصحفي الغربي على الصحفي العربي بوجود قوانين وطنية تحميه، وتحترم حرية الإعلام، وتعتبر الاعتداء على الرأي الصحفي جريمة تؤدي إلى الغش في لعبة الصراع السياسي بين قوى المجتمع، ويمتاز أيضًا بتعاون بعض مراكز البحوث وأجهزة الدولة معه عبر التسريبات التي تعطي الخبر قدرة على التأثير، وعلى التنبؤ بالأحداث والوصول إلى مسبباتها بعمق، وليس عبر التوقعات الفردية التي يضعها الصحفي العربي، المحروم من قانون يحميه، والمحروم من المعلومات المكدّسة في أدراج أجهزة المخابرات.
وقبل وصول ملالي طهران إلى بيروت، كانت صحف من أمثال “الحياة” و”السفير” و”النهار” اللبنانية تعطي نكهة للصحافة العربية، وتمرر الكثير من الأخبار والتحليلات البعيدة عن صحافة الطبل والزمر العربية، وكذلك كانت الصحافة اليسارية تمرر الكثير من الأخبار السرّية عن حكومات الملوك والأمراء العرب باعتبارهم زمرة رجعية يجب فضحها، رغم أنها كانت تتستر على جرائم الدول اليسارية والشيوعية.
أما اليوم فتبرز وسائل التواصل الاجتماعي مثل ثقب أسود لا تستطيع الأنظمة العربية إغلاقه، وتتسرب عبره الأخبار، ومقاطع الفيديو الحية، والتعليقات المباشرة للناس، مع نكهة الاستهزاء من الادعاءات الرسمية الموشحة بالأوسمة!
كما تبرز صحافة الربيع العربي التي ظلت قادرة على كشف المستور في الأنظمة التي ثارت عليها، وبفضل صحافة المهجر صارت أخبار النظام في سوريا لا يمكن السيطرة عليها، لا من قبل المخابرات ولا من قبل إيران ولا روسيا، وإن كانت الجهات الداعمة لتلك الصحافة تتحكم أحيانًا بمسار التغطيات فيها، كأن تنتقد إيران وتتجنب تركيا، أو تخفف من انتقاد قوى الأمر الواقع في الشمال وفي الشرق التي تحلم بسيطرة مطلقة.
تستمر المحرقة في غزة، ويستمر معها مختلف أنواع الفشل العربي، بما فيه الفشل الصحفي، وتستمر أقوال الصحف الغربية والإسرائيلية باحتلال السوق الإخباري والتحليلي، ويتحول الصحفي العربي إلى وظيفة هامشية هي تفسير أقوال الصحف الغربية والتعليق عليها، ما يذكرنا بانتشار تأليف كتب الهوامش، وكتب هوامش الهوامش، في مرحلة انهيار الدولة العباسية وما تلاها من دول فاشلة.