عندما يشيطن الإعلام متهمًا ويجعله جاسوسًا

  • 2024/02/25
  • 1:20 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

ليست النزاهة كسبًا مشروعًا وطهر يد فحسب، طهارة العقل والوجدان واللسان والقلم أيضًا جزء من النزاهة التي يفترض أن يتشبع بها الصحفي أو الإعلامي عندما يتعاطى مع الخبر ويصوغه قبل أن يقدمه للجمهور.

النزاهة والحياد من أبسط المفاهيم والقيم التي يتعين على الصحفيين أو المشتغلين في الحقل الإعلامي أن يتحلوا بها، عندما يقدمون أخبارهم وما يكتبون للجمهور المتلقي، ولا يجوز بحال من الأحوال تدبيج الخبر بطريقة منحازة، توكيدًا أو نفيًا لمضمونه، أو تبنيًا لرواية المصدر كما بثه أو كما أراد بثه إن كان ظاهرًا لناقله تحيز هذا المصدر أو عدم موضوعيته، وإشاعته بين الناس، ففي ذلك انتهاك فاضح لقيم ومواثيق شرف العمل الإعلامي.

هذا المدخل بدا لي ضروريًا في زمن صار فيه كل من هبّ ودبّ يسمي نفسه صحفيًا، وكل من أنشأ صفحة على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي واقتنى كاميرا وعمود إضاءة، وصدع رؤوسنا بالهراء والضحالة، يسمي نفسه إعلاميًا، ولو راجعنا منشورات هؤلاء لوجدنا العجب العجاب من كثرة الأخطاء النحوية والإملائية وهو ما يؤشر على الأقل على قطيعة هؤلاء مع كل ما هو مكتوب، لأن القراءة وحدها لا تمنح القارئ بعض معرفة وقليل من ثقافة فحسب، بل تصقل له لسانه وقلمه، فلا يقع في مطبات الكوارث الإملائية التي نراها.

وبالعودة إلى المحور الأساس لموضوعنا اليوم، فقد نشرت صفحة “TR99” على منصة “فيس بوك” تحت عنوان مثير خبرًا يقول: “تفاصيل تفكيك تركيا شبكة تجسس لصالح الاستخبارات الفرنسية: تمكنت الاستخبارات التركية من تفكيك خلية تجسس لصالح فرنسا مكونة من ثلاثة سوريين”، ثم استطردت بما قالت إنه نقلًا عن صحيفة “صباح” التركية، أن الصحيفة المذكورة و”المقربة من دوائر القرار التركية”، ذكرت في تقرير لها أن الخلية التي يقودها “أ. ق” “قامت بأنشطة تجسس لصالح استخبارات فرنسا (DGSE) مقابل وعود بالحصول على حق اللجوء في الأراضي الفرنسية”، وأن “التحقيقات توصلت إلى أن أنشطة العملاء السوريين الثلاثة كانت تتم بالتعاون مع جمعية مقرها في باريس”.

من الواضح تمامًا أن طريقة صياغة الخبر وترويسه بعنوان مثير، سواء في المنصة أو الصحيفة التركية، لا تشي بأي موضوعية أو حياد، بل هي تتبنى بشكل واضح مضمون الرواية (المسربة) في انحياز كامل لها، وهو إصدار لحكم إدانة من جهة لا تملك الصلاحية والسلطة والحق في إصداره، فالمؤسسات الإعلامية مهما علا شأنها ليست مؤسسة قضائية، بل منبر لنشر الأخبار والآراء بنزاهة وموضوعية، وكان يتعين على تلك المنابر الإعلامية عند صياغتها لهذا الخبر أن تقول مثلًا: تفاصيل تفكيك تركيا لشبكة “متهمة” بالتجسس. وفي موطن آخر من الخبر كان يتعين عليها القول: إن الخلية “متهمة” بالقيام بأنشطة… إلى آخر الخبر، كما أن القول إن أنشطة “العملاء” السوريين، بدلًا من القول إن أنشطة “المتهمين” السوريين، هو إصدار لحكم إدانة مسبق وترويج ذلك إعلاميًا قبل أن يُعرض المتهمون على القضاء، وفي ذلك افتئات على حقوقهم الدستورية في محاكمة عادلة، وتحشيد مسبق للرأي العام ضد المتهمين ربما يكون له بعض أثر، غالبًا على الوضع النفسي للقضاة الذين سيناط بهم النظر بالدعوى.

كما أن تسريب جزء من خلاصات التحقيقات الأمنية للصحافة يمثل انتهاكًا فاضحًا لحق المتهمين في الدفاع عن أنفسهم، في بيئة خالية من الضغط والتحشيد الإعلامي، الذي ربما يؤثر على حياد المحكمة واستقلاليتها من جهة، وينطوي أيضًا على مخالفة قانونية توجب أن تكون التحقيقات وخلاصاتها سرية حتى لحظة المحاكمة العلنية.

وعلى الوجه الآخر، فقد جاءت تلك التسريبات وطريقة نشرها في ظروف صعبة على اللاجئين السوريين في تركيا عمومًا، في حمأة الحملات للانتخابات البلدية، المقررة أواخر شهر آذار 2024، إذ يبرع الكثير من المرشحين في توظيف ملف اللاجئين واستثماره في دعايته الانتخابية لحشد مزيد من الأنصار، خصوصًا في ظل موقف مجتمعي رافض لاستمرار بقائهم في تركيا، وهو ما سيصب مزيدًا من الزيت على النار لجهة اتخاذ هذه القضية التي يعتبرها المجتمع التركي تمس أمنه القومي، كواحدة من الذرائع لتصعيد المواقف ضد اللاجئين التي يخشى أن تكون أكثر من كونها مواقف لفظية، ويتحول بعضها لاعتداءات بدنية عليهم، لذلك يمكننا القول إن طريقة نشر الخبر لم تكن نزيهة، ولم تكن حيادية ولا موضوعية، ويتعين على ذوي المتهمين ووكلائهم القانونيين إثارة تلك النقاط في مرافعاتهم، بل وحتى ملاحقة المؤسسات الإعلامية التي نشرت وتداولت الخبر بتلك الطريقة.

الصحافة والعمل الإعلامي عمومًا من أهم أدوات تنوير وارتقاء المجتمعات، ووسيلة لتسليط الضوء على المثالب والأخطاء لتصويبها، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تكون صليبًا يصلب على خشبته الناس للنيل من كراماتهم وجلدهم بالكلمات قبل أن يثبت قضائيًا، وعلى نحو قاطع، الفعل المجرّم أو المذموم المنسوب إليهم، فالكلمة أولًا وآخرًا مسؤولية، ليس كل من وصّف نفسه إعلاميًا بقادر على حملها وتحمّل تبعاتها.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي