لمى قنوت
على وقع الحرب والاعتداءات الصهيونية على لبنان والأزمات البنيوية التي يعاني منها، من انهيار اقتصادي، وشغور رئاسي منذ نهاية ولاية الرئيس السابق، ميشال عون، في 31 من تشرين الأول 2022، وفشل مجلس النواب في 12 جلسة بانتخاب رئيس جديد، وتقويض مسار العدالة لضحايا ومتضرري تفجير مرفأ بيروت في 4 من آب 2020، الموصوف كواحد من أكبر الانفجارات غير النووية في العالم، على وقع كل ذلك، تتصاعد حملات العنصرية ضد اللاجئين السوريين، نساء ورجالًا، التي يشنها إعلام محرض وسياسيون وأوليغارشيون ضد أضعف فئة بالمجتمع، فتهاجمها وتحاصرها وتعاقبها.
تنافست وسائل الإعلام على نشر خطاب الكراهية والمعلومات المضللة للتحريض على اللاجئين واللاجئات وتثوير المجتمعات المضيفة ضدهم، وقد وصل السُعار إلى قبول أي تخاريف افتراضية على أنها واقع وتهديد أمني يتطلب معالجة إسعافية، إنقاذية فورية، مثل الادعاء بأن الاحتلال الصهيوني “لن يضرب مخيمات النازحين”، وفي حال تمكن من القضاء على “حزب الله” فإنه سيساعد “في تحويل المخيمات المؤقتة إلى مخيمات دائمة على شكل أبينة”، وأن هذا الخبر قد لاقى استحسانًا في هذه المخيمات! وتَخيُّل سيناريو حول قدرة تلك “المخيمات على قطع الطريق البقاع– بيروت والجنوب في دقائق”، ورُبطت هذه الافتراضات بعبارات مثل “الإرهاب النائم” و”عمليات إرهابية وخلايا نائمة”، و”سلب وقتل وإطلاق نار وتضارب بالعصي” و”استخدام السكاكين والبنادق والمسدسات”، ووصف المخيمات في البقاع بـ”القنبلة الموقوتة التي فات أوان تفكيكها”.
بين التعتيم والتغطية الإعلامية الميدانية المحدودة على الحرب في لبنان من بعض القنوات التلفزيونية اللبنانية، ثمة خبر ثابت واحد في تلك القنوات يتعلق بالتحريض ضد اللاجئين واللاجئات في لبنان. وفي بداية العام الحالي، وفي ظل الخشية من توسيع الاحتلال الصهيوني رقعة اعتداءاته، بدأت وزارة الإعلام اللبنانية بتصوير “فيديو كليب” عن “مخاطر النزوح” السوري إلى لبنان، وفي 1 من شباط الحالي، عرضت جمعية “بيت لبنان والعالم” أربعة فيديوهات عنصرية وتحريضية ضمن برنامج “صار الوقت” على قناة “MTV” اللبنانية. وبالتوازي مع تتالي التصريحات التحريضية، تصاعدت الإجراءات العنصرية والتمييزية، فعلقت بلدية سن الفيل على مدخل حديقة الحرج لوحة تشير إلى أن الدخول مخصص “للبنانيين فقط، وممنوع دخول الأجانب”، وهو أمر يتنافى مع غرض المساحات العامة، وكانت البلدية قد أصدرت في أيار 2023 قرارًا بمنع تجول “الأجانب” في شوارع البلدة بعد الساعة الثامنة ليلًا.
يتطور أي إشكال أمني ليعمم العنف والتمييز ضد جميع اللاجئين واللاجئات، فبعد إشكال فردي وقع في برج حمود، صدر بيان باسم أهالي المنطقة في 11 من شباط الحالي، يحذرون فيه البلدية والمخاتير، إذا لم ينظموا الوجود السوري فيها فإنهم سيتخذون إجراءات بحسب ما يناسبهم، وذلك من أجل حماية أنفسهم ودرء الخطر عنهم، كما جاء في البيان، وختموه بعبارة “وقد أُعذِر من أنذَر”. وبعد بيانين صدرا خلال شهر واحد من أهالي برج حمود، سارعت قناة “MTV” إلى تخصيص تقريرين، لا يفصل بينهما سوى أسبوع واحد، عن ارتفاع “مخاطر النزوح السوري“، ركز أحدهما على عادات وتقاليد تتبدل، لنكتشف من جواب أحد الباعة في محل تجاري بأنها تتعلق بطول التنورة، وأن محالهم كانت تحتوي على تنانير أقصر، والآن يجلبون التنانير الأطول.
وعلى شاكلة هذا الخطاب يقول إبراهيم الصقر عن اللاجئ السوري: “إذا بتمرق بنتنا أو أختنا لابسة قصير على الطريق، بيصر بتحلله، شعب مش شايف العالم، ما أنا عم شوفهم بجونية وساحل علما، روحوا شيلوهم حطوهم على الحدود بشي مطرح (…) بس يشوف شي بنت لابسة قصير، وخصوصًا إذا مسيحية، نتفة لابسة قصير، ياخي هيدي ثقافتنا، إنتَ مينك إنتَ (من أنتَ) لتنهيلي ثقافتي، لأنه هيدا شعب مهووس بهيديك الشغلة، ما عنده ثقافة إلا هيديك الشغلة، هيدا هو النازح السوري”.
إن هذه السردية المتجذرة في تصوير الرجل السوري اللاجئ على أنه وحش مفترس ومغتصب هو شيطنة له وتجريد من إنسانيته من أجل فبركة موافقة جمعية تُشرع قمعه وظلمه وذله وحرمانه من حقوقه الإنسانية، وهو تكتيك مستوحى من خطاب رهاب الإسلام ورهاب الأجانب والتعصب الإثني والعنصرية التي تستخدمها دول الشمال العالمي كذرائع ومبررات للترحيل القسري للاجئين واللاجئات، وللغزو والهيمنة على أراضي شعوب الجنوب العالمي ومقدرات دولهم.
كما أن اختزال ثقافة ما بطول أو قصر التنورة، وذلك الهوس في لباس النساء، ينم عن العقلية الذكورية المتأصلة وعن الوصاية الأبوية على أجساد النساء، التي تحرمهن من حرية الاختيار والقرار، وتعزز من ثقافة الاغتصاب التي تلقي اللوم على الضحية أو الناجية لا الجناة، حتى وإن كان الصقر وغيره يستخدمون هذا الخطاب لشيطنة كل اللاجئين الرجال كجناة مُفتَرَضين، فالغاية هنا ليست حرية النساء بل تهديدهن بشبح التحرش والاغتصاب، وحث المجتمع على لعب دور الوصاية والحراسة لمواجهة هذا “الخطر”.
إن المنطق الذي ينطلق منه هذا الخطاب ينبع من تشييء النساء ليبرر استغلالهن والهيمنة عليهن، وينهش كرامتهن وأجسادهن ويؤسس لما يُعرف بـ “فِيتش السلعة” التي تحدث عنها ماركس في كتاب “رأس المال” لشرح “تقديس السلعة” في المجتمعات الرأسمالية للعيش في تجربة استهلاكية صافية، وأن القيمة الاقتصادية لـ”جسد بتنورة قصيرة” هو القيمة الجوهرية.
هذه الصورة الذهنية والمخيال عن “النساء اللبنانيات” في عقل مهووس بمركزية وفحولة القضيب هو عقل لا يرى، وربما لا يريد أن يرى، نضالات اللبنانيات بتنوعاتهن من أجل محاربة التحرش الممأسس وإفلات مرتكبيه من المحاسبة سواء في المؤسسة التعليمية وفي المؤسسات الدينية المحمية من هياكل السلطة مثل الكاهن منصور لبكي، الذي حكمت عليه محكمة “كاين” في فرنسا بالسجن لمدة 15 عامًا بعد إدانته باغتصاب طفلات، وهي نهاية لعدة قضايا بحقه، كان يعرقلها القضاء اللبناني بعدم إدانته وتسليمه، ودافع عنه العديد من الصحفيين والصحفيات.
تُوِجَ التحريض وشيطنة اللاجئين رجالًا ونساء في إطلاق نائب بيروت غسان حاصباني مبادرة تحمل عنوان “كل مواطن خفير”، أعلن خلالها عن تطبيق منصة تحمل عنوان “تبليغ”، تستهدف، كما قال في مؤتمره الصحفي، “الوجود غير الشرعي في بيروت”، وتُمكن أي شخص لبناني، ومن خلال هاتفه الذكي، تصوير أي مخالفة واختيار نوعها من قائمة التطبيق، فتصل هذه المعلومة إلى الجهات المختصة بإنفاذ القانون. يُحول هذا التطبيق عموم الشعب إلى أداة استخباراتية، وينصِبهم قوات شُرطية أمنية في كل مكان، ويُطلق العنان لمستغلين وعنصريين ومحرضين ضد اللاجئين السوريين والسوريات، للقصاص من فئة تعد واحدة من أكثر الفئات المهمشة بالمجتمع في لبنان.
للأسف، ومع ضعف التصدي لتطور الخطابات والسلوكيات العنصرية وتحولها إلى خطاب وسلوكيات فاشية، والتي لا يمكن حصرها في هذا المقال، يُخشى من انتهاكات فردية وجمعية مخيفة كالتي حصلت لشابين سوريين كانا يستقلان دراجة نارية في 7 من شباط الحالي، مرا من عين الرمانة، فتم توقيف أحدهما من قبل شباب من المنطقة، وهرب الثاني من قبضتهم، فأهانوه وضربوه، وصوروا ما قاموا به ونشروه، وساقوا جملة افتراضات للقيام بهذا الاعتداء، فاتهموا جميع السوريين بأنهم لصوص، وادعوا بأنهما سرقا الدراجة النارية، وبأنهما يراقبان المنطقة، ثم احتجزوا الدراجة وطلبوا من صاحبها أن يأتي لاستردادها من عين الرمانة، أي بالمحصلة سَوقْ جملة افتراضات لارتكاب انتهاكات علنية. والأمر المخيف هو الإيمان بالعنف وتفشي انتشار الاعتداءات الفردية والجماعية كنتيجة لهذا التحريض المتصاعد ضد اللاجئين واللاجئات.
ختامًا، يبدو التحريض الحثيث لصناعة عدو متوهم، من اللاجئين واللاجئات، هو محاولات لصرف النظر عن العدو الصهيوني الذي يهدد لبنان باعتداءاته المتواصلة، ولتجاهل دور “حزب الله” في تقتيل الشعب السوري بعد أن ثار على الاستبداد في عام 2011 وبضرورة إخراجه من سوريا، ولعدم مكافحة الفساد المتغول، وتقويض العدالة لمحاسبة المجرمين والفاسدين والمتحرشين، والقضاء على بنيوية العنف ضد النساء بتنوعاتهن وحظر التمييز المباشر وغير المباشر ضدهن، وإعادة أموال المودعين لعمال وعاملات اشتغلوا وكدوا كي يوفروا لشيخوختهم ما يحميهم من العوز والفاقة.