حالات الانتحار في سوريا.. أسباب اقتصادية ونفسية واجتماعية

  • 2024/02/25
  • 12:08 م
الانتحار أو محاولته، حصيلة لمجموعة عوامل داخلية، وخارجية يتجلى بعضها بوضوح في سوريا، قد يواجهها الفرد ويتلمس آثارها قبل أن يخطو بهذا الاتجاه (تعديل عنب بلدي)

الانتحار أو محاولته، حصيلة لمجموعة عوامل داخلية، وخارجية يتجلى بعضها بوضوح في سوريا، قد يواجهها الفرد ويتلمس آثارها قبل أن يخطو بهذا الاتجاه (تعديل عنب بلدي)

عنب بلدي – حسام المحمود

إذا كنت تفكر بالانتحار قاوم الفكرة أو الشعور، اعتنِ بنفسك، واطلب المساعدة من المقربين، كما يمكنك زيارة الموقع الإلكتروني التالي.

يرى مؤسس علم النفس التحليلي، سيغموند فرويد، أن الغرائز البشرية تندرج تحت غريزتي الحياة والموت، ويعتبر أن غريزة الموت نزعة غير مدركة في الإنسان للموت، لكنها نزعة صامتة طالما اقتصرت على السريرة، ولم تتجه للخارج فتتحول إلى نزعة تدميرية، وفق ما جاء في كتابه “ما فوق مبدأ اللذة”.

وفي كتابها “سيجيء الموت وستكون له عيناك“، تحصي الكاتبة اللبنانية 150 شاعرًا انتحروا في القرن الـ20، من مختلف الجنسيات، كما أن كثيرين من الكتاب والأدباء، والأعمال الدرامية والسينمائية والموسيقية والفنية بالمجمل، قدمت بشكل ما احتقارًا للحياة، أو تعبيرًا عن الرغبة بالفناء، دون أن تلغي الحياة بحد ذاتها، فالقائمون على هذه الأعمال يعبرون عن مشاعر مؤقتة، وهم أحياء بالضرورة، مع تسليم نسبي بأن الحياة لا تمنح الناس مرادهم دون ثمن أو ضرائب، وهو ما جرى التعبير عنه بأكثر من طريقة فنيًا أو واقعيًا.

في قصيدته “على هذه الأرض“، يحصي الشاعر الفلسطيني محمود درويش كثيرًا مما يراها مباهج حياة يمر أمامها الناس بحيادية دون انتباه لها أو اعتناء بها كونها سلكت طريقها إلى الروتين، وهو ما يتقاطع نسبيًا مع قصيدة “الشهوات” للشاعر مريد البرغوثي، التي تحدث فيها عن كثير مما ينشده الإنسان في حياته ليضفي عليها المعنى، وهي تفاصيل متفاوتة الحضور والغياب في حياة الناس.

كما أن الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، المؤمن بفكرة التعويض، وضرورة الوصول إلى نقائض المأساة، يقول في “موت سرير رقم 12“، “ورغم ذلك كنت أقول لذات نفسي: اصبر، يا ولد، أنت ما زالت على أعتاب عمرك، وغدًا، وبعد غد، سوف تشرق شمس جديدة، ألست تناضل الآن من أجل ذلك المستقبل؟ سوف تفخر بأنك أنت الذي صنعته بأظافرك، منذ أسه الأول إلى الآخر”.

كل هذه التفاصيل والعناوين والنصوص التحفيزية قد تنسفها لحظة يأس، فتتلاشى في عيون الإنسان مباهج الحياة ومغرياتها، وحتى مبرراتها، فيستعجل الموت بالانتحار، بحثًا عن خلاص أو راحة أو هروب من موقف ما أو حالة نفسية أو عاطفية سيطرت ذات لحظة، دون ما يثبت أصلًا استمرار الحالة للأبد.

وضوح الحالة.. تباين وتيرة

أخبار الانتحار أو محاولته في سوريا صارت حالة متكررة متباينة الوتيرة بين فترة وأخرى، فتتصاعد الأعداد في عام وتتراجع في آخر، أو ترتفع في فترة زمنية محددة من عام مقارنة بمثيلتها من عام آخر، بما يحافظ على وضوح الحالة.

تمكن بعض الأهالي في مدينة اعزاز، بريف حلب، من إنقاذ شاب حاول الانتحار برمي نفسه من سطح مركز تجاري بالمدينة، في 12 من شباط الحالي، كما تداولت غرف “تلجرام” تسجيلًا مصورًا قالت إنه لانتحار شاب في حي أبو رمانة، بالعاصمة السورية دمشق، الأسبوع الماضي.

ووثق فريق “منسقو الاستجابة” بشمال غربي سوريا، في 10 من شباط الحالي، ثلاث حالات انتحار خلال أقل من 48 ساعة، ضمن مناطق متفرقة، ما يرفع عدد حالات الانتحار في الشمال منذ بداية العام الحالي إلى 12 حالة، فشلت أربع منها، أي بزيادة قدرها 120% على عدد الحالات المسجلة خلال الفترة ذاتها من 2023.

بحسب الفريق، فإن كثيرًا من الأسباب التي دعت إلى زيادة هذه الأرقام مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي هي أسباب اقتصادية ونفسية واجتماعية، إلى جانب البطالة والفقر وزيادة حالات العنف الأسري، والاستخدام السيئ للتكنولوجيا، وانتشار المخدرات والتفكك الأسري بسبب الظرف الاقتصادي الصعب الراهن.

ويضاف إلى هذه الأسباب نظرة الشخص أيضًا إلى قدراته ومستوى تعويله على ما يمكنه إنجازه، وهو ما أفضى لأكثر من حالة انتحار جراء ضعف التحصيل العلمي لطلاب مدارس في مراحل غير متقدمة في مسارهم التعليمي، أحدثها جاء مؤخرًا، وكان انتحار طفلة بعمر 11 عامًا، في كانون الثاني الماضي، في منطقة تفتناز، كونها لم تحقق ما تصبو إليه في امتحاناتها المدرسية.

عوامل مؤثرة وأنواع محددة

انطلاقًا من الذاتي نحو العام، تتعدد الأسباب التي تضع الشخص في مواجهة مباشرة مع حالة اليأس أو القنوط التي تتملكه في وقت ما، فتقلص لديه رغبة البقاء وتعزز شعوره باللاجدوى، رغم أن هذه المشاعر مؤقتة، كون المشاعر على اختلاف أنواعها والأحاسيس التي تخلقها لا يكتب لها الديمومة أو مستوى الحضور ذاته.

ريم شابة تقيم في مدينة دمشق، أوضحت لعنب بلدي أنها لم تفكر مطلقًا بالانتحار، رغم مرورها بحالة اكتئاب سابقة، مشيرة في الوقت نفسه إلى قسوة الظروف وطبيعة الحياة حاليًا.

وقالت الشابة إنها تعارض فكرة الانتحار تحت أي ظرف أو سبب، إذ ترى أن الأيام المقبلة ستكون أفضل مما هي عليه حاليًا، كما عبرت عن حزنها عند سماع أخبار حالات انتحار تحصل في سوريا، مبينة أن هذا الحزن نابع من خسارة إنسان لحياته من جهة، ومن الظروف التي ساقت هذا الإنسان نحو فعل من هذا النوع.

الطبيب النفسي إسماعيل الزلق، أوضح لعنب بلدي أن فكرة الانتحار تتولد نتيجة تجارب صادمة، أو وجود أشخاص انتحروا في الوسط الاجتماعي أو العائلي، أو التعرض لمحتوى حول الانتحار، أو وجود ألعاب أو تطبيقات تتطرق للانتحار أو إيذاء الذات، والنزوح والعوامل والاقتصادية الصعبة، بالإضافة إلى الاضطرابات النفسية لدى الشخص، دون أن يعني الحديث عن الانتحار الوصول للتنفيذ بالضرورة أو بقاء الفكرة في عقل الشخص.

“من يفكر بالانتحار يوجه رسائل للمحيط، وعلى المحيط التقاط الرسالة وعدم إهمالها، كالحديث عن الانتحار أو كتابة وصية أو وداع المقربين، وأي تغييرات توحي بعدم راحة الشخص”، أضاف الطبيب النفسي، موضحًا ضرورة مراقبة الحالة ومراجعة مختص نفسي، ووجود خطة أمان، بمعنى عدم ترك الشخص لوحده، وإبعاده عن وسائل الإيذاء قدر الإمكان، في سبيل عدم تمكينه من تنفيذ الفكرة إن أراد.

وبحسب موقع “msdmanuals” (مزود للمعلومات الطبية)، فالسلوك الانتحاري يشتمل على “الانتحار المكتمل”، ويقصد به الفعل المتعمد لإيذاء النفس بما يؤدي إلى الموت، و”محاولة الانتحار”، وهي فعل هدفه إيذاء للنفس بدافع الانتحار دون أن يسبب الموت، وقد لا يسبب إصابة أو أذى أحيانًا، بالإضافة إلى “التفكير بالانتحار”، وهي أفكار وخطط وإجراءات مهددة للقيام به.

وقد يتجه بعض الأفراد نحو “إيذاء النفس غير الانتحاري”، وهو فعل إيذاء نفس لا يراد منه الموت، كالتسبب بجروح على الذراع مثلًا.

ومن العوامل التي قد تؤدي إلى الانتحار المعاناة من الاكتئاب، أو الاكتئاب الذي يكون اضطراب ثنائي القطب جزءًا منه، أو اضطرابات ذهانية أخرى، إلى جانب اضطرابات طبية يجري تشخصيها حديثًا للشخص وتكون مؤثرة في عمل الدماغ.

التعرض للتنمر، وتجارب الطفولة الصادمة، والفجيعة أو الخسارة، واستمرارية الحزن أو اليأس، والوحدة، والشدة المالية، والمشكلات القانونية، عوامل مؤثرة وخطرة أيضًا قد تؤدي إلى السلوك الانتحاري، وفق “msdmanuals“.

في كتابه “الانتحار” (1897)، أوضح عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، أن المندمجين بقوة في المجموعات الاجتماعية أقل ميلًا للانتحار، كما ميز بين أربعة أنواع من الانتحار استنادًا إلى مستوى التكامل الاجتماعي والتنظيم الاجتماعي، فـ”الانتحار الأناني” يتميز بانخفاض التكامل والاندماج مع المجتمع، أما “انتحار الضياع” فينتج عن شيوع عدم الاستقرار الاجتماعي، وغياب المرجعية التي يحتكم إليها المرء، ويحصل ذلك في حالات الخلل الاقتصادي.

والنوع الثالث هو “الانتحار الإيثاري”، ويعبر عن حالة تكامل استثنائية للفرد مع المجتمع، فتغلب قيمة المجتمع قيم الفرد، فيتخذ الانتحار طابع تضحية في سبيل مصلحة أو مثل عليا، واستخدم هذا النوع عناصر “المقاومة الفلسطينية” في وقت سابق.

وهناك أيضًا “الانتحار القدري”، وبحسب إميل دوركايم، فهو نتاج وضع يكون فيه المرء تحت وطأة تنظيم اجتماعي قاهر، ويؤدي قمعه إلى عجز تام أمام القدر والمجتمع، وتتميز حالات الانتحار هذه بفترات انتظام محددة مع مرور الوقت، ما فسره عالم الاجتماع الفرنسي على أنه تأثير للقوى الاجتماعية في معدلات الانتحار.

تعرّف منظمة الصحة العالمية الانتحار بأنه قتل المرء نفسه عمدًا، موضحة أن نحو مليون شخص يموتون سنويًا بسبب الانتحار، 86% منهم في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.

كما يعتبر الانتحار من الأسباب الرئيسة الثلاثة لوفاة الشباب تحت سن 25 عامًا، ويمثل من 10 إلى 20% من وفيات النساء حتى سنة واحدة بعد الولادة، مع نشاط ملحوظ للحالة في الشرق الأوسط، حيث معدل الانتحار هو 4.90 لكل 100 ألف شخص، مقارنة بـ6.55 بالنسبة لجميع دول العالم، مع التوصية بالحد من طرق الحصول على وسائل الانتحار.

تراجعت في 2023

تراجعت حالات الانتحار في سوريا خلال عام 2023، سواء في مناطق سيطرة النظام أو الشمال السوري، مقارنة بما كانت عليه في 2022.

وكشف مدير عام الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا، زاهر حجو، أنه خلال 2023 وحتى نهاية تشرين الثاني منه، سجلت الهيئة 146 حالة انتحار، غالبيتها في محافظة حلب.

وتوزعت الحالات حسب المحافظات على 16 حالة انتحار في دمشق، منها سبع حالات لذكور وتسع لإناث، وفي ريف دمشق 24 حالة انتحار 18 منها لذكور، وحالة واحدة لشاب في القنيطرة، وفي درعا أربع حالات، ثلاث منها لذكور.

وسُجلت في السويداء 17 حالة انتحار، منها ثلاث حالات لإناث، أما في حمص فهناك سبع حالات منها حالتان لإناث، وفي حماة سُجلت 11 حالة ست منها لذكور.

وذكر حجو أنه في طرطوس هناك 19 حالة كلها لذكور، وفي اللاذقية 19 حالة 16 منها لذكور وثلاث لإناث، أما في حلب فسُجلت 28 حالة انتحار، منها عشر حالات لذكور و18 لإناث، بينما لم تسجل الحسكة أي محاولات خلال الفترة ذاتها.

هذه الأرقام قابلتها 175 حالة انتحار في مناطق سيطرة النظام خلال 2022، كثير منها جرى في حلب ودمشق.

وفي الشمال السوري، وثق فريق “منسقو الاستجابة” حتى نهاية تشرين الثاني 2023، 62 حالة انتحار، 34 منها فشلت، مقابل 88 حالة في 2022، فشلت منها 33 حالة.

معاناة موثقة

كل الأرقام والإحصائيات والدراسات التي تقيس واقع حياة السوريين تثبت صراحة عمق المأساة التي يواجهونها على مستوى فردي وجماعي، ليس دون حلول مأمولة فقط، بل حتى دون وعود بالحل، ودون رفع سقف الآمال بأن القادم سيحمل انفراجًا على مستوى ما ينعكس بدوره على حياة الفرد.

أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، وأكثر من 1.5 مليون بحاجة لمساعدات إنسانية، كما يبلغ متوسط تكاليف المعيشة في مناطق سيطرة النظام أكثر من 10.3 مليون ليرة سورية، والحد الأدنى لتكلفة المعيشة 6.5 مليون ليرة، بينما لا يتجاوز الحد الأدنى للرواتب الحكومية 186 ألف ليرة.

يعيش مليونا شخص في المخيمات من إجمالي 2.9 مليون نازح، وذلك في منطقة يقطنها 4.5 مليون شخص، ويعاني فيها 3.7 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي، وفق بيانات الأمم المتحدة الأحدث.

بينما في شمال شرقي سوريا، حيث تسيطر “الإدارة الذاتية”، ارتفعت معظم أسعار السلع الغذائية كبقية مناطق سوريا، حتى المحروقات المتوفرة بالمنطقة بكثرة، وذلك بعد أن رفعت “الإدارة” الرواتب في آب 2023، وبلغ الحد الأدنى للراتب نحو مليون ليرة سورية (74 دولارًا أمريكيًا).

كل هذه الأرقام وأخرى أيضًا، تعكس حجم الاحتياجات من جهة، والضغوط التي يواجهها السوريون لتلبية احتياجاتهم، دون أن تقدم مبررًا لإنهاء الحياة بقرار شخصي، أو تحت تأثير حالة يأس، مع وجود حالات استطاعت تسخير معاناتها لغاية أسمى، وترجمت ظروفها القاسية من خلال نشاطات إنسانية إبداعية وفق المتاح.

مقالات متعلقة

مجتمع

المزيد من مجتمع