“يا إخوة العرب، هذا يوم مشهود من أيام العمر”، بصوت أجش يملؤه الفخر أعلن الرئيس السوري الأسبق، شكري القوتلي، قيام الوحدة بين سوريا ومصر في 22 من شباط 1958.
شكلت الوحدة آنذاك، تطبيقًا عمليًا أولًا لأفكار القومية العربية المنتشرة حينها، عبر اتحاد البلدين بجيش واحد وإزالة الحدود بينهما، وإعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة.
وحدة بدأها العسكر وأنهاها العسكر، البداية عبر زيارة سرية لوفد عسكري إلى القاهرة ولقاء الرئيس المصري، جمال عبد الناصر وعرض الوحدة بشكل فوري ودون شروط، وأنهاها انقلاب عبد الكريم النحلاوي في 1961.
ما بين العامين، انتقلت سوريا بشكل مفاجئ دون مباحثات ولا تخطيط، من بلد يحظى بتعددية سياسية واقتصاد حرّ، إلى حكم الرجل الواحد والاقتصاد الاشتراكي، ولم يفكر الوفد العسكري الذي التقى عبد الناصر، أن العاطفة والأفكار العقائدية لا تصنع دولًا أو تحقق أحلامًا دون تخطيط ومباحثات واجتماعات وخطوات واضحة.
ما قبل الوحدة
أعلنت سوريا قيامها في 1946، بعد حصولها على الاستقلال من فرنسا، ودخلت فيما عرف بـ”فترة الحكم الوطني”، الذي شهد حراكًا سياسيًا وانتشارًا للأحزاب السياسية، أبرزها “الحزب الوطني” و”حزب الشعب”، يضاف إليهما أحزاب ذات طابع قومي أو ديني، كالـ”بعث” و”القومي السوري”.
خسارة حرب التحرير في 1948، ودخول البلاد بدوامة انقلابات متتالية وما ترتب عليها من اضطراب سياسي، والتي أثرت بدورها على الاستقرار في سوريا، إلى جانب الظروف السياسية الداخلية والخارجية الإقليمية، لعبت دورًا مهمًا في تحركات القادة العسكريين السوريين.
في 1955، أعلن عن “حلف بغداد”، الذي ضم العراق (كان تحت الحكم الهاشمي حينها)، وتركيا وإيران وباكستان، وكل هذه الدول تميزت بعلاقات جيدة مع الدول الغربية، وعلى رأسها بريطانيا، أحد أعضاء الحلف أيضًا.
كان في سوريا حينها تياران سياسيان متضادان في الرؤى المستقبلية لها، يتبنى الأول القومية العربية ويميل إلى مصر ومحورها بقيادة عبد الناصر، فيما يميل الثاني للعراق والعائلة الهاشمية الحاكمة، وينادي بالوحدة معه.
وبعد عام واحد من إعلان الحلف، شنّت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل هجومًا عسكريًا على مصر، فيما عُرف بـ”العدوان الثلاثي”، الذي هدف بأساسه لإنهاء حكم عبد الناصر، بعد إعلان الأخير تأميم قناة السويس 1956، وهو العدوان الذي أعلنت خلاله سوريا بشكل مباشر دعم مصر، ونسفت خط أنابيب النفط الواصل بين العراق وأوروبا عبر أراضيها.
ويعرف هذا الخط بـ”خط التابلاين”، وجاء الموقف السوري تطبيقًا لميثاق الدفاع السوري- المصري الموقع في 1955، كرد على اتفاق مشابه بين العراق وتركيا.
كما لم تكن العلاقات السورية- التركية حينها بأفضل أحوالها، خاصةً مع الاتجاهات السياسية المتناقضة لكلا البلدين، وبعد عام واحد من “العدوان الثلاثي”، نشأت أزمة 1957 بين أنقرة ودمشق.
نشرت أنقرة آلاف الجنود على حدودها الجنوبية مع سوريا، وبدا أن الحرب بين البلدين على الأبواب، وفي ظل الظروف الإقليمية حينها، فمن السهولة توقع أن يتحول الأمر لأزمة دولية، في ظلّ الحرب الباردة، وانقسام العالم لمعسكر شرقي، وآخر غربي.
كل هذه التعقيدات السياسية والعسكرية في البلاد، وتزايد الحديث عن إمكانية الوحدة بين البلدين منذ 1955، دفعت 14 ضابطًا سوريًا، للتوجه إلى القاهرة وطلب لقاء عبد الناصر.
بين العامين.. قصة انتهاء الوحدة
ترأس الوفد حينها، رئيس الأركان، اللواء عفيف البزري، ووفق المؤرخ السوري سامي مروان مبيض، لم تعلم القيادات السياسية السورية حينها بسفر الضباط، وهبطت طائرتهم في مطار “ألماظة” العسكري، بمرافقة الملحق العسكري المصري في سوريا، محسن أبو النور.
التقى الوفد بعبد الناصر في 15 من كانون الثاني 1958، وطالبوا بوحدة فورية، ورغم عدم معرفة شكري القوتلي بسفرهم، وبعد طلب عبد الناصر إعلامه، أرسل الأول وزير الخارجية السوري، صلاح البيطار، للإسراع بتحقيق الوحدة.
لم يكن لدى الضباط السوريين شروط محددة للوحدة، ولو كان هناك ميل لتكون بشكل فيدرالي، فيما فضل المصريون وحدة اندماجية كاملة، تحت شروط عدة، أبرزها حل الأحزاب السياسية، وتوحيد السياسة الخارجية والاقتصادية.
ورغم الرغبة السياسية السورية بالوحدة، لم يشمل ذلك الجميع بطبيعة الحال، إذ رفض قائد الحزب الشيوعي السوري، خالد بكداش، الوحدة وتغيب عن جلسة التصويت عليها في مجلس الشعب.
كما عارض صيغتها السياسي خالد العظم، الذي قال في مذكراته إن “حزب البعث” تجاهل مقترحاته بدراسة الوحدة بعمق قبل الموافقة عليها.
أعلنت الوحدة في 22 من شباط 1958 من شرفة قصر “القبة” في مصر، بوجود القوتلي وعبد الناصر، واندفعت الجماهير إلى الشوارع، وفق سامي مروان مبيض، وحملت سيارة عبد الناصر في دمشق من قبل الناس ورفعت صوره في الميادين.
أسباب سياسية واقتصادية
الأفراح التي بدأها العسكر بزيارتهم السرية إلى القاهرة، لم تدم طويلًا، وأنهاها العسكر أنفسهم بعد ثلاثة سنوات، بانقلاب عسكري نفذه عبد الكريم النحلاوي.
ولعبت عدة عوامل دورًا بإنهاء الوحدة بين الطرفين، وبرغبة سورية لا مصرية، أولها القرارات العسكرية وحركة نقل الضباط السوريين إلى مصر، ومنح امتيازات للضباط المصريين على حساب أقرانهم السوريين.
ويتضح هذا الأمر بشكل أكبر عبر نقل الكفاءات العسكرية السورية إلى مصر، ومنح الموظفين المصريين مناصب عليا، وفق دراسة نشرتها جامعة محمد بوضياف الجزائرية في 2017.
ووفق موقع التاريخ السوري المعاصر، وصل عدد الصحف السورية قبل الوحدة إلى 50 صحيفة، تعطل معظمها غداة إعلان الوحدة، وتحولت السياسة في سوريا إلى رافد للسياسة المصرية.
وبالإضافة للأسباب السياسية والعسكرية، لعب الاقتصاد وقرارات حكومة عبد الناصر دورًا كبيرًا في إنهاء الوحدة، وتجلّى ذلك بمجموعة قرارات امتدت على ثلاث سنوات، أشار إليها سامي مروان مبيض في كتابه “عبد الناصر والتأميم”، الصادر في 2019.
ولخص المبيض الأسباب في مقال نشره في مجلة “المجلة” في شباط الحالي، أشار فيه إلى تراجع معدل القبول في المدارس السورية بنسبة 50%، بمتوسط رواتب 125 ليرة للمعلمين السوريين، مقابل 600 ليرة للمعلم المصري، كما ألغيت احتفالات “عيد الجلاء”.
وتحملت الخزينة السورية تعويضات “الخبراء المصريين” ورواتبهم التي وصلت لـ50 مليون ليرة سورية، بالإضافة لـ53% من نفقات الدفاع الوطني، مقابل 17% فقط لمصر.
وفي حين افتتحت مكاتب للمصارف المصرية وخطوط الطيران المصرية في دمشق، منعت نظيراتها السورية من افتتاح مكاتبها في القاهرة، مع فرض ضريبة 7% على المنتجات السورية المتجهة لمصر، ويُضاف لما سبق “قانون الإصلاح الزراعي”.
صادر القانون الذي أصدره عبد الناصر في 1958، الأراضي، وقاد أكرم الحوراني، نائب عبد الناصر، حملة تشهير ضد الملّاك، ومنعوا من تملّك أكثر من 80 هكتارًا من الأراضي المزروعة، في وقت شكلت فيه الزراعة 50% من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، ومصدر رزق أساسي لـ75% من سكانها.
تبع القانون الذي أثار استياءً واسعًا لدى ملاك الأراضي والإقطاعيين وسياسيين سوريين، صدور قانون التأميم في 1961، الذي طال المصارف والمصانع الخاصة، ووصل عدد المؤسسات المصادرة لـ23 مؤسسة بقيمة إجمالية 200 مليون ليرة سورية (90 مليون دولار حينها).
فيما بلغت قيمة البنوك 27 مليون دولار، واعترض عليه وزير الاقتصاد السوري، حسني الصواف، وأدت هذه القرارات، وفق المبيض، لعزل سوريا عن محيطها وتعثر وصول المنتجات للدول المحيطة بها.
كما احتكرت الدولة تصدير المحاصيل الصادرة من سوريا، كالحبوب والقطن وفرضت حظرًا لاستيراد بعض المواد الأساسية من الخارج إلا عبر القاهرة، ما أدى لنفاد المواد الأولية وتناقص القطع الأجنبي، وعدم قدرة دمشق على سداد الديوان.
الاستياء الواسع والتراكمات التي أدت إليها القرارات السياسية والاقتصادية، وتهميش الضباط السوريين، دفعت عبد الكريم النحلاوي، لتنفيذ انقلاب عسكري في 28 من أيلول 1961، أعلن فيه الانفصال.