تسعى إيران لضبط الهجمات التي تشنها فصائل مدعومة من قبلها تحت مسمى “المقاومة الإسلامية”، خشية تلقي رد فعل أمريكي “عنيف”، وتوسع الصراع في المنطقة.
ومنذ اندلاع العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، في 7 من تشرين الأول 2023، تحركت فصائل عسكرية تتلقى تمويلًا إيرانيًا، منها “حزب الله” في لبنان، لاستهداف قواعد عسكرية أمريكية وإسرائيلية.
الخشية الإيرانية تأتي بعد وصول الاستهدافات لذروتها، مع قصف استهدف برجًا قبالة قاعدة “التنف” الأمريكية على الحدود السورية- الأردنية، أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكيين، وما تلاه من تنفيذ القوات الأمريكية لهجمات طالت أكثر من 85 هدفًا في سوريا والعراق.
ويبدو أن الخشية الإيرانية من توسع الصراع، دفعت طهران للضغط على الميليشيات التابعة لها، لتخفيف هجماتها، خاصةً مع تصوير ما يحدث في غزة على أنه “انتصار لمحور الممانعة”، وهو ما تروج إليه وسائل إعلام إيرانية، أو عربية مدعومة من إيران أو مقربة منها.
وفي المقابل، وبرغم السيطرة الإيرانية على “حزب الله” وقراراته، ورغم الدعم المقدم من قبلها للميليشيات في العراق، يوجد اختلاف في المواقف والرؤى بين طهران وهذه الميليشيات.
هل لإيران القدرة على ضبط الميليشيات؟
التحركات الإيرانية للضغط على الميليشيات، ترتبط تحديدًا بتلك الموجودة في العراق ولبنان، ولكل من تلك الأطراف ردود فعل مختلفة تجاه طلب طهران.
وفي حين يتفق “حزب الله”، أحد أبرز وكلاء إيران في المنطقة مع رؤية الأخيرة، وأسبابها السياسية والعسكرية لعدم توسيع الصراع، لدى الميليشيات في العراق رؤى مختلفة.
ولهذا السبب، طلبت طهران من قادة هذه الميليشيات، عبر قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني”، اسماعيل قآني، خلال اجتماع بعدد من مسؤولي الميليشيات في مطار بغداد التوقف عن شن الهجمات وفق ما ذكرت وكالة “رويترز“، في 29 من كانون الثاني.
وتعود آخر الضربات التي شنتها “المقاومة الإسلامية” إلى 12 من شباط الحالي.
وأوضحت الوكالة، أن قآني كان واضحًا، بأن توسيع الهجمات يعني ردًا أمريكيًا عنيفًا، وقد يصل لانتقام مباشر من طهران، ونقلت عن قائد كبير في إحدى الميليشيات، أن تدخل قآني بشكل مباشر هو ما أقنع “كتائب حزب الله” العراقي بوقف عملياته.
ووفق الوكالة، تحاول الحكومة العراقية، ألا يعود العراق ساحةً للصراع الأمريكي- الإيراني، وفق ما نقلت عن مصادر لم تسمها.
وقالت صحيفة “واشنطن بوست“، الأحد، إن إيران تحاول عدم إثارة الجانب الأمريكي ودفعه لخوض مواجهة مباشرة، مشيرة لانخفاض أعداد الهجمات على القواعد الأمريكية.
وأضافت أنه حتى مقتل قائد في “كتائب حزب الله” العراقية، وسط بغداد، لم يدفع الميليشيات للرد، كما أرسلت طهران قادة عسكريين ودبلوماسيين للقاء المسؤولين عن الميليشيات لمنع توسع الحرب والتصعيد.
الصحيفة نقلت عن مسؤول عراقي لم تذكر اسمه، قوله إن قادة الميليشيات لا يشعرون بالرضى من قرار طهران، لكنهم استجابوا له، رغم عملهم بشكل مستقل.
وسيضعف توسيع الصراع، من السعي الإيراني والعراقي، لإخراج القوات الأمريكية من العراق، وفي حال النجاح بهذا الأمر، سيبدو وكأن إيران انتصرت بالفعل.
ويرتبط الأمر كذلك بالخوف مما تراه طهران “مكاسب الحرب” سياسيًا وعسكريًا، وتحديدًا بما يرتبط برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.
وقال عضو في “حزب الله” اللبناني، إن نتنياهو في الزاوية الآن، وتوسيع الحرب يعني منحه فرصة للخروج من مآزقه وتصويره كمنتصر، وفق الوكالة.
هذه الخلافات وتباين الرؤى، وعدم رضا الميليشيات العراقية بشكل كامل عن قرار طهران، لا يعني أن الأخيرة لا تملك سيطرةً عليها.
ويرى الباحث في الشؤون الإيرانية، مروان فرزات، أن هذه السيطرة تأتي من خلال “الولاء”، إذ تدين الميليشيات المنضوية تحت اسم “المقاومة الإسلامية” بالولاء المطلق لطهران، وتشكلت بالأساس بقرار ودعم وتمويل إيراني، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
وأضاف أنه حتى لو ظهرت ميليشيات جديدة في العراق بتسميات جديدة، فهذا لا يعني أنها لا توالي إيران، فهي بعدم موالاتها لطهران أخطر من موالاتها، لإن الادعاء بأنها ميليشيات متفلتة يعني أنها ستقوم بتنفيذ عمليات نوعية وخطيرة ضد الأمريكان دون أن يكون لطهران أي يد بهذا الفعل.
من جهته، يرى الباحث بالشؤون الإيرانية، مصطفى النعيمي أن هناك توجهًا عامًا لدى إيران لتخفيض المواجهة مع الولايات المتحدة، ويمكن ملاحظة هذا الأمر من خلال نتائج زيارة قآني لبغداد والطلب عدم تصعيد العمليات.
وفق النعيمي، تخشى طهران أن التصعيد من شأنه أن يؤدي لارتدادات على المحور برمّته، لذا تعمل طهران وحلفاؤها ضمن السياسة نفسها، بتوجيه من “المرشد الأعلى للثورة الإيرانية”، علي خامنئي، خاصةً أن مواجهة مباشرة تعني خسارتهم للكثير من المكاسب التي حققها المحور خلال الفترة الأخيرة.
وتوجد عملية توازن بين المكتسبات والمخاطر الناجمة عن المواجهة، لذا تعمل إيران ألا يشمل رد فعل الميليشيات تجاوزًا لقواعد الاشتباك السابقه بل تخفيضًا لتلك القواعد، خشية أن يسقط ضحايا ويتم الرد على تلك العمليات بشكل قاس من قبل الولايات المتحده والتحالف الدولي، وفق النعيمي.
رسائل الضغط وتصوير الانتصار
مذ انطلقت العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وما قابلها من عمليات نفذتها حركات وميليشيات مدعومة إيرانيًا، ضمن قواعد اشتباك محددة، ظهر السؤال حول أسباب “التصعيد المنضبط”، وعدم الدخول بحرب أوسع.
ويأتي هذا السؤال، مع تصوير وسائل الإعلام المقربة أو الممولة من إيران في المنطقة، وكذلك تصريحات المسؤولين الإيرانيين، بأن “محور المقاومة انتصر” في الحرب الحالية ضد إسرائيل.
وباستثناء مرات نادرة، لم يتجاوز “حزب الله” في لبنان، قواعد الاشتباك بينه وبين إسرائيل المرسومة منذ حرب “تموز 2006″، كما أن الهجمات على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، اتخذت شكلًا محددًا ولم تؤد لأضرار كبيرة إلا باستثناء الهجوم على “البرج 22” قبالة قاعدة “التنف”.
وأدى الهجوم إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكيين، وفق التصريحات الرسمية الأمريكية.
تتعامل طهران مع هجمات حلفائها في العراق ولبنان واليمن، باعتبارها أدوات يمكن الاستفادة منها لتحقيق أمرين اثنين، الأول هو الضغط على أمريكا وتحقيق مكاسب سياسية.
أما النقطة الثانية، فتتعلق بعملية تصوير ما يحصل على أنه انتصار لـ”محور المقاومة”، ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
وفيما يخص النقطة الأولى، يرى فرزات، أن الهجمات تهدف لإيصال رسالة واضحة لواشنطن، بالقدرة على إزعاجها في أي وقت في حال اتخذت الأخيرة قرارًا بالتصعيد، ضد إيران وحلفائها.
وكذلك تضغط طهران على واشنطن للانسحاب من العراق قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة نهاية العام الحالي 2024، لذا فإن إيقاف الضربات هو أمر آني ومرحلي، وفق رأي فرزات.
ويتجه العراق لسن قانون عبر مجلس النواب، لإخراج القوات الأمريكية من أراضيه، وفق تصريحات لرئيس المجلس، محسن المندلاوي.
وقال المندلاوي في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء العراقية الرسمية (واع)، في 14 من شباط الحالي، إن الأسابيع المقبلة ستشهد تشريع قانون لخروج القوات.
ولم يضع حينها موعدًا محددًا لخروج القانون إلى النور.
كما طالب العراق، في 8 من شباط الحالي، على لسان الناطق الإعلامي للقوات المسلحة العراقية، يحيى رسول، بمغادرة الولايات المتحدة الأمريكية البلاد، محذرًا من صراع مقبل، على خلفية ضربة أمريكية وسط بغداد.
وقال رسول في بيان، إن القوات الأمريكية تكرر بصورة غير مسؤولة كل ما من شأنه تقويض التفاهمات والبدء بحوار ثنائي.
لماذا تشعر إيران بالانتصار؟
يصوّر “محور المقاومة” نفسه منتصرًا عبر عشرات التقارير الإعلامية التي تتخذ الأسلوب نفسه وتركز خلاله على تخبط القيادة الإسرائيلية و”عجز واشنطن” عن التعامل مع الملف، ويضاف إليه تصريحات المسؤولين كذلك.
حالة النصر التي تسعى إيران لتصويرها، يراها الباحث بالشأن الإيراني مروان فرزات، بحالة طبيعية، إذ استطاعت طهران خلال السنوات الماضية، السيطرة على أربع عواصم عربية، هي بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء، بالإضافة للملف الفلسطيني.
وأضاف أنه منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 من تشرين الأول 2023، والتي شنتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، نجحت إيران بتوجيه ضربة كبيرة لإسرائيل في المنطقة.
وكذلك عبر الميليشيات في العراق ضد القواعد الأمريكية، وجماعة “الحوثي” في اليمن التي تستهدف سفنًا حربية وتجارية في البحر الأحمر، وهو ما غيّر من خطوط الشحن والتجارة الدولية، وأثر على الاقتصاد العالمي.
وكل هذا حصل عبر الأذرع الإيرانية فقط، دون تدخل مباشر من طهران، لذا من الطبيعي أن تشعر إيران بأنها الأقوى في الإقليم وأن محورها هو المنتصر، خصوصًا في ظل اللجوء لردود ضعيفة وغير المؤثرة من قبل الخصوم.
فيما يرى الباحث بالشأن الإيراني مصطفى النعيمي، أن المحور لا يرى نفسه منتصرًا بشكل عام، خاصةً مع التصريحات المتزامنة حول خفض التصعيد مع واشنطن، لذا يمكن قراءة المشهد باعتباره “حالة انكسار”.
وأوضح أن الحديث هنا حول “الانكسار”، يدور حول العناصر لا القيادات التي تدير الفصائل، لذا هناك غياب لحالة الانسجام بين الطرفين، خاصةً مع التهديد المستمر بـ”سحق إسرائيل وأمريكا”، فيما تتجه طهران للتفاوض، ويُلاحق قاداتها في سوريا والعراق عبر حملة اغتيالات.