علي عيد
كيف يمكن بناء الثقة بين الصحافة والجمهور في العالم العربي، طالما أن قوى نافذة تسيطر على الإعلام بكل أصنافه، لتصبح الغالبية العظمى من الإعلاميين جزءًا من الماكينة الدعائية للسلطة والمالكين.
يتعرض الجمهور العربي لظاهرة غسل دماغ، بل غسل ثقافة وتاريخ، لأن المرحلة الحالية تحكمها ضوابط دقيقة، فلا إعلام بلا مال، وعادة ما يأتي المال في الصحافة المستقلة الخاصة من الإعلانات، أما الصحافة الرسمية والموالية فهي مرتاحة على وضعها، ولها دور لا ينتهي، هو محاباة السلطة والمتنفذين بدل مواجهتهم.
من أين تأتي الصحافة الحرة في العالم العربي بالإعلانات إذا كان كل المال يصب في مصلحة “الكومبرادور” (الطبقة التي تتحالف مع رأس المال لتحقيق مصالحها والاستيلاء على السوق).
وهذا “الكومبرادور” مرتبط بـ”أوليغارشيا” (حكم الأقلية، حين تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة قليلة تحتكر المال أو تتمتع بالنسب أو السلطة العسكرية)، يمكنها أن تلغي أي صحفي أو ناشط دون قرار، فقط بمجرد أنه لا يعمل لمصلحتها.
جرى إخصاء الصحافة الحرة في العالم العربي بشكل ممنهج، وحتى ما يمكن تسميتها صحافة خاصة في بلدان مثل لبنان والكويت، كانت محكومة باتفاقيات غير مكتوبة بعقود، لكنها تظهر على ورق الجرائد والشاشات. إنها صحافة “كول وشكور” (وهو نوع من الحلويات السورية)، بمعنى خذ ما تريد وأعطنا ما نريد، أو “عيش نملة تاكل سكر” (وهو مثل مصري).
في الغرب لا يبدو الأمر مختلفًا، لكنه مكشوف، إذ تبقى هناك وسائل إعلام يمولها دافعو الضرائب، كما تفسح اللعبة الديمقراطية هوامش للصحفيين للنبش، بصرف النظر عن الأغراض، ويبقى القضاء والقانون ضامنًا معقولًا لبقاء قسم من القطاع محتفظًا بأخلاق المهنة ومسؤوليتها.
هناك علاقة “سمن على عسل” تحكم وسائل إعلام وصحفيين في الغرب، بسبب الخضوع للمالك المتنفذ، ويسأل، جورج مونبيوت (George Monbiot)، وهو كاتب عمود في صحيفة “الجارديان”، إن كانت ثمة حاجة إلى “قسم أبقراط” للصحفيين، باعتبار أن مهنة الصحافة كانت هي الأقل مساءلة في بريطانيا قبل خضوعها للتدقيق في السنوات المتأخر.
ويرى مونبيوت أن معظم الصحفيين في بريطانيا منغمسون في مجتمع ومعتقدات وثقافة الأشخاص الذين من المفترض أن يحاسبوا، منتقدًا خضوع الصحفيين وميلهم لمصلحة أولئك الذي يملكون مؤسسات إعلامية.
التدهور في نسبة جمهور المتابعين للصحافة، ربما يعكس أزمة تعيشها الصحافة المستقلة، كما يرتبط بالوضع الأمني والاقتصادي المتدهور في العالم العربي، إذ جاءت الدول العربية عام 2023، في ذيل التصنيف الذي تضعه منظمة “مراسلون بلا حدود” لحرية الصحافة، إذ تأتي سوريا في المرتبة 175، والبحرين 171، والسعودية 170، والعراق 167، ومصر 166، وحتى الكويت ولبنان “واحتا الحرية” الصحفية، إن كان صحيحًا، تقبعان في المرتبتين 154 و119.
كيف يكون بمقدور صحافة ضمن هذا الترتيب أن تعمل لمصلحة الجمهور، فتراجع حرية الصحافة جعل الصحفيين هدفًا للسلطة.
تهرب معظم الدراسات المسحية لقياس اهتمام الجمهور العربي بالصحافة، في الفترة الأخيرة، إلى قضايا جانبية تتعلق بسطوة الإعلام الرقمي واستحواذه على الجمهور، دون الغوص في أسباب ضعف الصحافة، وتراجع الثقة بما تقدمه من محتوى.
إذا كان الجمهور هو الزبون الأول للصحافة، فلماذا ينصرف الجمهور عنها، على الرغم من أنها ما زالت مجانية في قطاعها السياسي والاجتماعي والخدمي، ولماذا يهرب الجمهور من جانبه إلى إعلام الترفيه، على الرغم من أن جزءًا كبيرًا فيه بات مدفوعًا عبر منصات رقمية تفرض الاشتراكات على متابعيها، ولماذا يتابع الجمهور العربي مؤثرين (Influencers) يقدمون على المنصات مواد لا تخضع لمعايير علمية، فتجد الشائعات تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مثل النار في الهشيم، ويجتذب المحتوى المضلل ملايين المتابعين.
ربما يحتاج تفسير هذا التراجع إلى دراسات علمية، لا مجرد تكهنات، قد تلامس الحقيقة.
يتسبب تراجع الصحافة الحرة المسؤولة، يومًا بعد يوم، بتراجع الثقة بالقطاع الإعلامي كله، كما يتسبب التضييق على الصحفيين المستقلين بانتعاش صحفيي “كول وشكور”، أولئك الذين يعيشون في ظل السلطة، وتحت عباءة مالكي وسائل الإعلام.
الصحفيون المستقلون في العالم العربي اليوم هم مشاريع معتقلي رأي، أو عاطلون عن العمل، لكنها مهمة نبيلة تستحق أن يدفع ثمنها المؤمنون بحرية الكلمة، والبحث عن الحقيقة.. وللحديث بقية.