بين 15 و18 من آذار 2011، وبين تاريخين مختلف عليهما، اندلعت مظاهرات في دمشق للتاريخ الأول وفي درعا للثاني، هتفت بكلمة غابت عن سوريا لعقود “حرية”، واستخدمت مصطلحات نادى بها المتظاهرون في دول أخرى “الشعب يريد إسقاط النظام”.
هذه الكلمات، وبعد 13 عامًا على الهتاف بها، تبقى مغرية للباحثين السوريين والعرب والمهتمين من الدول الغربية لفهم أسباب اندلاع المظاهرات في سوريا، ومعرفة خلفياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأسباب الرد العنيف للنظام السوري عليها، بما في ذلك استهداف المتظاهرين ونزول الجيش إلى الشوارع ومقتل الآلاف.
تقع سوريا ضمن بيئة جيوسياسية معقدة، على حدودها الجنوبية عدو فرضه وعد بلفور في 1917، والتقسيم الناتج عن اتفاقية “سايكس- بيكو” السرية عام 1916، وفي شمالها تركيا التي تراوحت العلاقة معها من التهديد بالحرب بشكل شبه دائم، وصولًا إلى سلام مؤقت مطلع الألفية، قبل دخول الجيش التركي إلى الشمال السوري بعد 2011، وعلى حدودها الشرقية هناك العراق، الذي تبادل العداوة معها خلال حكم “البعث” في بغداد، وحتى سقوط نظام صدام حسين في 2003، بعد الغزو الأمريكي.
ولفهم الطبيعة المعقدة لسوريا، على الأقل سياسيًا، يجب التبحر بالتاريخ الحديث لها، منذ إعلان الدولة على يد الآباء المؤسسين في عام 1946 (تاريخ جلاء فرنسا)، ووصولًا لعام 2011، سواء من خلال مذكرات السياسيين في تلك المرحلة، أو تلك التي صدرها النظام السوري طيلة سنوات، كجزء من آلته الإعلامية باعتباره “باني سوريا الحديثة”.
وفي 2015، أصدر الباحث والمؤرخ نشوان الأتاسي كتابه “تطور المجتمع السوري 1831-2011″، وعبر ما يقارب 180 عامًا، يحكي الأتاسي حكاية سورية معقدة، لكنها تشرح بين سطورها الكثير.
الكتاب الصادر عن دار “أطلس” في العاصمة اللبنانية بيروت، يعود للبحث في المجتمع السوري وظروفه السياسية والاقتصادية ما قبل سقوط الدولة العثمانية، التي كانت تتبع لها سوريا الكبرى في تلك الفترة، ومن ثم مرحلة المملكة السورية، التي لم تدم أكثر من عام تقريبًا (1919-1920)، ومرحلة الانتداب الفرنسي (1920-1946)، ثم مرحلة الاستقلال والوحدة مع مصر (1958-1961)، ثم مرحلة حزب “البعث” المستمرة منذ 1963 وحتى اليوم.
اعتمد الأتاسي في كتابه على كثير من المراجع لمحاولة تسليط الضوء على شكل المجتمع السوري في كل تلك المراحل، وكيفية تأثره بكل الأحداث السياسية، بما في ذلك كتب ومذكرات السياسيين السوريين في واحدة من أهم مراحل سوريا، كبشير العظمة وخالد العظم وغيرهما.
في ظاهره يبدو الكتاب مثل غيره من الكتب، كسرد تاريخي لأحداث يعرفها من يهوى التاريخ وقرأ عن سوريا، إلا أن أهميته تكمن في مكان آخر، فهو وثيقة مضادة للآلة الدعائية للأنظمة، وبأسلوب لغوي بسيط وممتع كذلك.
لم يكتفِ الأتاسي بالحديث عن السياسة لشرح التأثير على السوريين على مدى ما يقارب 180 عامًا، بل أفرد أبوابًا للاقتصاد وشكله وعناصره كذلك، دون تهويل ومبالغة ككتب أخرى، تصور سوريا كمركز تطور العالم في الخمسينيات، وكذلك الأمر بالنسبة للتعليم والجامعات.
من المهم أن يرصد كتاب ما كل هذه التغييرات التي حصلت على مدى نحو قرنين من الزمان، يقال إن من لا ماضي له لا مستقبل له كذلك، وفي ظروف صعبة تعيشها سوريا اليوم تهدد بقاءها بصورتها المعروفة حتى عام 2011، فإن الكتاب وما يرصده من أحداث وتفاصيل، يشكل مرجعًا تاريخيًا لفهم ما حصل لهذه البلاد، منذ تقسيمها الأول خلال “سايكس- بيكو” وتقسيمها الثاني بعد 2011.