عنب بلدي – رهام السوادي
“طيارة طارت بالليل، فيها عسكر فيها خيل، فيها إبراهيم هنانو، راكب ابنو قدامو…”، هي إحدى الأناشيد التي رددها السوريون منذ نعومة أظفارهم، تمجيدًا للمناضل إبراهيم هنانو، أحد أهم قادة الثورة السورية ضد فرنسا، ذي الأصول الكردية، الذي قاتل لأجل أرض سوريا، رافضًا أي وصاية أو حكم أجنبي.
ومثله عديد من الرموز السورية التي يفخر بها الشعب السوري، مثل سلطان باشا الأطرش ويوسف العظمة ورمضان شلاش.
حالة الانقسام على الأرض وعلى المستوى السياسي، فسحت المجال أمام انتشار أيديولوجيات من خارج الحدود، كما هي الحال في شمال شرقي سوريا، حيث ظهرت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، الذراع العسكرية لـ”الإدارة الذاتية”، والتي تُتهم بأنها تُدار من شخصيات أجنبية، ولا تحمل أجندة وطنية سورية.
مع خضوع المنطقة لسيطرة مجموعات كردية لها امتدادات خارجية، بدأت تظهر رموز أجنبية لشخصيات لا تنتمي لتاريخ وهوية سوريا، وانتشرت في الشوارع والمدارس وضمن مناهج المدارس التابعة لها، في دلالة على وجود محاولات لسلخ شمال شرقي سوريا عن الهوية الوطنية.
“العمال الكردستاني” حاضر
تعقد الدوائر التابعة لـ”الإدارة الذاتية” ندوات ومؤتمرات تعرّف فيها عن قياديين بحزب “العمال الكردستاني” (PKK)، وتُحيي ذكرى وفاة رموزه، في مختلف مناطق سيطرتها.
وجاء أحدثها بالتزامن مع الذكرى السنوية الـ12 لـ”اغتيال” سكينة جانسيز برفقة اثنتين من كوادر “الحركة النسائية” هما فيدان دوغان وليلى سويليمز في باريس، بحضور لجان وهيئات محلية وتربوية ومؤسسات مجتمع مدني، باعتبارها رمزًا لـ”المقاومة”.
وتعد جانسيز أو “سارة” (اسم حركي) عضوًا مؤسسًا وقياديًا في حزب “العمال الكردستاني”، بينما سويليمز أو كما تعرف بـ”روناهي”، كانت مديرة منطقة في منظمة “شباب حزب العمال الكردستاني”، ودوغان كانت ناشطة كردية وعضوًا في “الحزب”.
وتحدثت عنب بلدي في تقرير أعدته سابقًا عن فرض “الإدارة الذاتية” على موظفيها المشاركة في مسيرات تدعو عبرها لإطلاق سراح زعيم حزب “العمال الكردستاني” تركي الجنسية، عبد الله أوجلان، تحت التهديد بالفصل للممتنعين.
وتجبر “الإدارة” منذ سيطرتها على المنطقة أصحاب المحال والتجار على إغلاق محالهم كل عام في ذكرى اعتقال أوجلان لدى تركيا، وتلمح إلى محاسبة الممتنعين، أو توجيه اتهامات لهم بأنهم “خونة أو عملاء”.
في المدرسة
خرج في أكثر من مرة أهالي مناطق القامشلي ودير الزور الواقعة تحت نفوذ “الإدارة الذاتية” في مظاهرات يطالبون فيها بإلغاء مناهج “الإدارة الذاتية”، ويعتبرون أنها “مؤدلجة”، ولا تراعي ثقافة المنطقة، كما أن مادتها العلمية “رديئة” وغير معترف بها محليًا أو دوليًا.
ويتضمن المنهاج الذي أعلنت عنه “الإدارة” محتوى دينيًا، اعتبره أبناء محافظتي دير الزور والرقة متعارضًا مع معتقدات وثقافة المنطقة، كمقارنة الرسول محمد بـ”بوذا” (رمز الديانة البوذية)، أو مقارنته بـ”زرداشت” (مؤسس الديانة الزرداشتية)، واستخراج الصفات المشتركة بينهم.
كما أدرج المنهاج أقوالًا نُسبت لمؤسس حزب “العمال الكردستاني” (PKK)، عبد الله أوجلان، وضُمّنت بين حكم وأقوال أخرى لفلاسفة وكتّاب معروفين، مثل الفيلسوف والروائي الفرنسي جان بول سارتر وسبينوزا وغيرهما.
المنهاج تحدث مرارًا عن الحرية ومفهومها، إلا أن هذه المفاهيم مستنبَطة بمعظمها من أقوال نُسبت لـ”المفكر” أوجلان.
ووثقت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، في 12 من نسيان 2021، احتجاز سبعة معلمين في مدينة الدرباسية، بتهمة تدريس مناهج النظام السوري دون “موافقة رسمية”، تلاه اعتقال معلمين آخرين على خلفية مشاركتهم في مظاهرة مطالبة بالإفراج عن زملائهم، من قبل “جهاز الأمن العام” التابع لـ”قوى الأمن الداخلي” (أسايش).
وفي نفس التقرير، وثقت المنظمة اعتقال قوات “أسايش” ثمانية معلمين آخرين في مدينة عامودا، و15 معلمًا في بلدتي رميلان ومعبدة، في شباط 2021، على خلفية تدريسهم المناهج الرسمية السورية، عبر دورات خاصة لطلبة الشهادتين الإعدادية والثانوية، وأفرجت عنهم لاحقًا.
وتعتمد “هيئة التربية والتعليم” التابعة لـ”الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا ثلاثة مناهج تعليمية في مناطق نفوذها، منهاج “الإدارة الذاتية”، ومنهاج النظام مع تعديلات على بعض مواده، ومنهاج “يونيسف”.
ونشرت “هيئة التربية والتعليم في إقليم الفرات” مقطعًا مصورًا لطلاب في مدرسة “الشهيد سيدو” بمدينة عين العرب/كوباني ينشدون “Ey Reqîb”، مع رفع أحد أعلام “الإدارة الذاتية” التابع لـ”حركة المجتمع الديمقراطي”.
ويعد نشيد “Ey Reqîb” أو “أيها الرقيب” قصيدة كتبها الشاعر الكردي دلدار في أثناء وجوده بأحد المعتقلات الإيرانية في 1938، واتخذ نشيدًا وطنيًا لجمهورية “مهاباد” التي نشأت في شمال غربي إيران واستمرت 11 شهرًا، والآن هو النشيد الوطني في إقليم كردستان العراق.
كما لا يخفى انتشار صور عبد الله أوجلان في المدارس التابعة لـ”الإدارة الذاتية”.
إعلام موجه
تنشط عدة وكالات وقنوات وصحف إخبارية في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، وتعد مقربة من “قسد” ومظلتها المدنية (الإدارة الذاتية)، مثل وكالة “هاوار” وقناة “روناهي“.
تضع وسائل الإعلام هذه أخبار حزب “العمال الكردستاني”، إضافة إلى الحملات المطالبة بالإفراج عن رئيسه عبد الله أوجلان، والطلبات المقدمة للقائه على رأس أجندتها.
من جهة أخرى، تتكرر حالات اعتقال إعلاميين وصحفيين من قبل “قسد” في شمال شرقي سوريا، وكان أحدثها اعتقال “أسايش” كادر وكالة “باز” الإخبارية من محافظة الحسكة، وإغلاق مكتبها هناك، بتهمة التبعية لـ”مجلس دير الزور العسكري” بشكل كامل، وهو ما ينفيه القائمون عليها، إذ يعتبرون أن دعم “المجلس” هو جزئي، ولا يعني التبعية.
واعتقل “أسايش” الإعلامي الكردي برزان حسين بريف محافظة الحسكة، في 18 من تموز 2021.
وأدانت آنذاك منظمة “فرونت لاين ديفندرز” الحقوقية اعتقال برزان، واعتبرته “انتقامًا من نشاطه الإعلامي المشروع والسلمي، ودفاعه عن حقوق الشعب الكردي”، بحسب تعبير المنظمة.
وفي مطلع حزيران 2023، قالت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“، إن ملثمين يتبعون لـ”قسد” اعتقلوا الناشط الإعلامي حسام القس، بعد أن اعتدوا عليه بالضرب في منطقة السوق وسط مدينة المالكية، على خلفية انتقاده لعمليات التجنيد الإجباري لدى “قسد” عبر صفحته في “فيس بوك”.
وفي تموز 2021، أصدرت “الإدارة الذاتية” بيانًا استنكرت فيه اتهامات منظمات حقوق الإنسان ومنظمات صحفية عالمية لـ”قسد” بانتهاك حقوق الصحفيين في مناطق نفوذها، ووصفتها بأنها “حملات تحاول استهداف (الإدارة الذاتية) وتشويه الحقائق”.
الأيديولوجيا و”الإدارة الذاتية”
الأيديولوجيا هي علم الأفكار، وأصبحت تطلق على علم الاجتماع السياسي تحديدًا، ويشير المفهوم إلى المعتقدات التي تؤمن بها جماعة معينة أو مجتمع ما وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية، وتبريرها في نفس الوقت.
وتسهم عدة عوامل بتعزيز أيديولوجيا ما في المجتمع، منها انتشار أفكار وفلسفات وحركات اجتماعية جديدة على معتقدات الناس وقيمهم، والتحول الديموغرافي (عدد السكان وعمرهم وجنسهم)، اللذان يسهمان في تغيير طريقة تفكير الناس حول الهوية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
ويتبنى اتحاد “ستار” تنظيم مثل هذا النوع من الحركات في شمال شرقي سوريا المطالبة بحرية أوجلان، والندوات التي تناقش “فلسفة أوجلان” ودور المرأة في فكره.
أُسس اتحاد “ستار” في 2005 من قبل اتحادات وهيئات نسوية، ويهدف إلى “بناء مجتمع ديمقراطي أيكولوجي تحرري جنسوي في غربي كردستان وسوريا”.
ويلعب نظام التعليم دورًا في التأثير على طريقة تفكير الناس والقيم والمعتقدات ونقلها إلى الجيل القادم، إضافة إلى تأثير وسائل الإعلام في انتشار الأفكار والأيديولوجيات وتكوينها في المجتمع.
الباحث في التاريخ الاجتماعي والسياسي وابن مدينة القامشلي مهند الكاطع، قال لعنب بلدي، إن ظاهرة انتشار أعلام ورايات ورموز “غريبة” منتشرة في جميع مناطق سوريا، سواء مناطق “الإدارة الذاتية” أو مناطق النظام والنفوذ الإيراني أو حتى مناطق المعارضة والنفوذ التركي.
ويعتقد الكاطع أن “الإدارة” تحاول فرض واقع على المنطقة، من خلال نشر مثل هذه الصور والأعلام، وتغيير أسماء الشوارع والمرافق العامة والقطاعات الإدارية.
ولم تشهد أفكار حزب “العمال الكردستاني” قبولًا من قبل سكان شمال شرقي سوريا، بدليل اشتعال المواجهات بين الفينة والأخرى بين “قسد” وأهالي المنطقة، الذين ما زالوا ينظرون إلى “الحزب” كمنظمة “أجنبية غريبة”، حسب الكاطع.
وأوضح قائد “قسد“، مظلوم عبدي، سابقًا، في حديث له مع موقع “المونيتور”، حول انتشار صور قائد “PKK”، أن أوجلان رمز للكرد في الشمال السوري وأماكن أخرى، لكن ليس لـ”قسد” أي مخططات لأجزاء أخرى من “كردستان”، سواء كان ذلك في تركيا أو العراق أو إيران، مضيفًا أنهم “معنيون بسوريا ومستقبل كل شعوبها”.