للقضاء العشائري والقبلي مركز مرموق في تاريخ البادية السورية، ويتمتع القاضي العشائري بمنزلة رفيعة، ليس بين أبناء عشيرته وحسب بل في المنطقة الشرقية ككل.
وكان القضاء العشائري معترفًا به رسميًا في سوريا، حتى ألغاه الرئيس جمال عبد الناصر، في أثناء الوحدة بين سوريا ومصر.
وتتشابه عادات الصلح بين عشائر المنطقة الشرقية، سواء كانت عشائر عربية أو كردية أو حتى سريانية مسيحية، والاختلاف يقتصر على زيادة أو نقصان دية الصلح.
ويرجع أبناء المنطقة للصلح العشائري، حتى بعد ظهور القوانين والمحاكم، لكونه أسهل وأسرع من القضاء المدني، لكنه بنفس الوقت يملك جوانب “ضعف”.
الصلح العشائري
علي العامود، شيخ عشيرة المراسمة ببلدة الباغوز شرقي دير الزور، قال لعنب بلدي، إن عادات الصلح العشائري وجدت منذ وجود البشرية وتختلف الطرق مع اختلاف الزمن.
وتحل الخلافات بين العشائر أو داخل العشيرة نفسها، عبر وجهاء ورجال دين، الذين يجمعون المتخاصمين والشهود في أحد المجالس أو الدواوين أو النظافات، بحسب العامود.
ويوجد في كل منطقة “أهل الصلح”، الذين يعملون دون مقابل، لحل النزاعات الصغيرة والكبيرة، بحسب أحمد الحسن، المعروف بأبو محمد الشعيطي.
وقال الشعيطي، وهو أحد وجهاء عشيرة الشعيطات في دير الزور، لعنب بلدي، إن القضاء العشائري يحكم وفقًا للشرع والعادات التي أصبح التعامل معها أكثر وعيًا من الماضي.
إبراهيم السلمان، أحد شيوخ عشيرة البكارة ببلدة حوايج البومصعة غربي دير الزور، قال لعنب بلدي، إن على “أهل الصلح” أن يكونوا معروفين في المنطقة بعدم انحيازهم لأي طرف من أطراف الخصام.
قواعد
رئيس المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية في تركيا، مضر حماد الأسعد، وهو شيخ عشيرة الجبير في الحسكة، ووالده كان أحد القضاة العشائريين سابقًا، قال لعنب بلدي، إن في القضاء العشائري قواعد متبعة ينظر فيها دائمًا.
وأولها: “هواة اليد ما منها سلامة”، أي أن القضاء العشائري يحمّل الفرد مسؤولية أفعاله، وثانيًا: اتباع مقولة “الدم ما عليه ورود، والعيب ما عليه شهود”، ويعني أن هناك أفعال داخل دائرة المحظورات ولا يمكن تخفيف عقوبتها، مثل قضايا الدم والعرض والناموس و”تقطيع الوجه”.
وأخيرًا تحدد العقوبة والديّة حسب الجرم، فجريمة القتل العمد تختلف عن القتل الخطأ ولكل منها عقوبة، تختلف بين كل قبيلتين، بحسب الأسعد.
وفي 12 من شباط، أصدرت قبيلة البكارة وثيقة عشائرية لحل الخلافات، بعد اجتماعها في قرية حوايج ذياب بدير الزور.
أعراف الحكم
يعتمد القضاء العشائري على نقاط معينة في حل الخلافات والمشاكل، وهي معتمدة في أغلب العشائر، إن كان في سوريا أو العراق أو الأردن، بحسب الأسعد.
وتتمثل أولى النقاط بحلف اليمين، وثانيًا “دفن الحصى وقرطها”، أي أن تناقش كل قضية على حدة ولا يسأل الشاهد إلا عما شاهده.
وفي بعض الخلافات يحكم على الجاني بالـ”عطوة”، وهي أن يحكم شيخ العشيرة أو شخص مؤثر على أحد أطراف الخلاف بتقديم مال أو غنم أو إبل لطرف الخلاف الثاني، وفي حال كانت الأطراف لا تملك ما تقدمه، فيكفلها أحد وجهاء العشيرة أو شيخها.
وفي بعض الخلافات بين العشائر يستجير أحد الأطراف بشيخ العشيرة لحمايته من عشيرة أخرى، وتسمى بـ”الجيرة”.
وعندما لا يتفق المتخاصمون، ولا يوجد شهود على التهمة، ولا يرضى القاضي بحلف اليمين في إحدى القضايا الكبيرة، تنقل القضية إلى الـ”مبشع”.
و”المبشع” هو رجل “رصين وذو خلق ودين، وأهل للثقة”، يطبق ما يعرف بـ”البشعة”، وهي جلب قطعة حديدية ووضعها في النار، لكيّ لسان الجاني بها، وبحسب الأسعد، أن العديد من المجرمين يعترفون قبل كيّ لسانهم.
والأخذ بالثأر هو أحد الأساليب المتبعة في الصلح، أي أن يقتل أقرباء المقتول، القاتل وكل من اشترك معه، وتهدر عائلته دمه دون ملاحقة قاتله، لإنهاء الخلاف.
ويطبق الأخذ بالثأر في جرائم مثل القتل القصد وجرائم العرض واخفاء المقتول والتمثيل بجثته والغدر، التي تدفع الأهل للتبرؤ من ابنهم.
وقد تنفذ عوضًا عنها “الجلوة”، بإجلاء المتهم وعائلته، بعد دفع الدية المترتبة عليهم، خارج المنطقة بمسافة مسير معينة (قد تكون خارج سوريا)، ومدة زمنية معينة، تصل إلى سنوات.
والدية، هي دفع الجاني مبلغ معين بموافقة الطرف الآخر في القضية، بعد اعترافه بتهمته، بحضور شيخ العشيرة أو القبيلة.
القضاء العشائري والمدني
محامٍ من الحسكة، تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية، قال لعنب بلدي، إن القضاء المدني يعتمد على مجموعة من النصوص والقوانين الثابتة، بينما القضاء العشائري فيعتمد على العرف والقياس.
والقياس في القضاء العشائري، هو أن ينظر إلى خلافات متشابهة سابقة حدثت مع نفس العشيرتين المتخاصمتين، ويوضع الحكم قياسًا لشروط حل الخلاف الماضية.
ومن جهة أخرى، فإن القانون المدني يتعامل مع القضايا وفقًا لأدلة وبراهين وأصول جزائية، وتعتبر وسائل إثبات الجرم أو البراءة محدودة، والعكس في القضاء العشائري.
وأضاف المحامي، أن الدعوة الجزائية في القضاء العام تعقل الدعوة المدنية، والمدنية تلغي الجزائية، بينما في القضاء العشائري فلا فصل بينهما.
والدعوة الجزائية هي اتهام شخص بجرم معين، بينما المدنية فهي مطالبة أحد بحقه بحضور الحاكم ويقال للطالب المدعي وللمطلوب المدعى عليه.
إيجابيات وسلبيات
يرى المحامي أن تنفيذ الحكم العشائري يعتمد على انتماء الفرد للعشيرة، ولا يوجد ما يجبره على تنفيذ الحكم الصادر بحقه، وهو نوع من “القصور” في القضاء العشائري.
بينما أشار شيخ عشيرة المراسمة ببلدة الباغوز، علي العامود، إلى تفاقم المشكلة واتساع رقعتها أحيانًا لعدم وجود رادع سلطوي قوي.
وقد يدخل في الحكم العاطفة والانتماء العشائري، أي أن العارفة، وهو شخص “يتمتع بالذكاء وحفظ الأعراف والحوادث” ويعطي الحكم بعد سماع الشهود والأقوال، يطلق حكمًا منحازًا، وفقًا للمحامي.
ويعتمد القضاء العشائري على حلف اليمين أحيانًا، وتحل المشكلة بعد أن يقسم المتهم بأنه بريء، في حين لا يوجد ما يثبت براءته.
ومن ناحية أخرى فإن الحكم العشائري ينجز بأسبوع أو عشرة أيام، بينما يستغرق حكم الدولة سنوات وأكثر، مع وجود استئناف ونقض، حسب المحامي.
القضاء العشائري والقانون
يعمل القضاء العشائري بشكل موازٍ مع القضاء المدني في المنطقة الشرقية بشكل خاص وسوريا بشكل عام، ويرحب القضاء المدني بالحل العشائري وإنهاء الخلافات دون اللجوء للمحكمة.
وقال مضر حماد الأسعد، إن هناك عملية تجانس بين القضاءين العشائري والمدني، ويرسل القضاة لشيوخ العشائر والعارفين فيها للجلوس معًا والاتفاق على طريقة “لا تجلب ضررًا” لطرفي الخلاف، خاصة المجني عليه.
وللقضاء العشائري “أهمية كبيرة”، عندما تضعف الدول وتغيب القوانين، كما يحصل في سوريا اليوم، بحسب الأسعد.
وقال الشعيطي، إن الصلح عادة يتم دون اللجوء للقضاء، وخاصة في ظل الأوضاع الحالية، إذ لا يوجد محاسبة ويبقى القاتل “حرًا في منطقته”.
من جهة أخرى يرى علي العامود، أن للعشيرة نظم وعادات لا تتطابق مع “الكثير من مواد القانون”، إلا أنه في حالة امتناع أحد أطراف الخصومة عن الحل العشائري فيحال إلى القضاء.
شارك في إعداد هذه المادة مراسل عنب بلدي في دير الزور عبادة الشيخ.