علي عيد
أثارت مقابلة الصحفي تاكر كارلسون (Tucker Carlson)، مذيع قناة “فوكس نيوز” (Fox News) الأمريكية، مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اللغط في الأوساط السياسية وبين المراقبين والمحللين، إذ اعتبر تحليل لموقع قناة “CNN” أن بوتين حقق انتصارًا دعائيًا، وأن كارلسون “سمح للمستبد بالتلاعب بالجمهور” الأمريكي.
يدرك السياسيون وصناع القرار والمتحكمون بـ”الميديا” أثر هذه المقابلة المحتمل في الرأي العام الأمريكي، واعتبر تحليل على موقع “شيكاغو سن تايمز” (Chicago Sun-Times)، أن كارلسون ليس غبيًا، في إشارة إلى أن المقابلة جاءت هدية لـ”الجمهوريين” في وقت حرج، قبيل الانتخابات الأمريكية، إذ كان الهدف إحراج “الديمقراطيين” وإثبات فشل الرئيس، جو بايدن، فيما يخص استراتيجية الحرب في أوكرانيا، وغيرها من المواضع الحساسة والمؤثرة في الصراع السياسي بين الحزبين.
لا يبدو أن المسألة متعلقة فقط بالحرب في أوكرانيا والانتخابات الأمريكية، فهناك قصة أخرى للمذيع كارلسون نفسه، إذ إنه منخرط في صراعات سياسية، وأخرى متعلقة بأخلاقيات المهنة عبر التحيز الجنسي، وتم فصله سابقًا من “فوكس نيوز”، على الرغم من أن برامجه هي الأكثر مشاهدة وقت الذروة.
لن أغوص في تحليل ملكية “فوكس نيوز” وتاريخ تاكر كارلسون أكثر، فالمسألة هي أن أحد الزملاء سألني عن الأجندة التي يتبعها الإعلام في إجراء المقابلات الصحفية مع الرؤساء والزعماء، وكيف يقرر الأخيرون مقابلاتهم، ومع أي وسيلة إعلامية.
قد يكون درس كارلسون- “فوكس نيوز”- بوتين مفيدًا لفهم آلية إدارة اللعبة الإعلامية من قبل الزعماء ومعهم، والمؤكد أن المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ومخطط دعاية بوتين، ديمتري بيسكوف، درس المسألة قبل اتخاذ قرار إجراء المقابلة، ولكن كيف تدار شروط مثل هذا النشاط الإعلامي.
تعتبر المقابلات مع الزعماء والرؤساء أحد حقول العمل الصحفي المعقد، إذ تختلط المصالح السياسية مع المصالح الاقتصادية، كما تخضع هذه المقابلات لضوابط دقيقة، وتكون قرارات إجراء المقابلات مدروسة على أعلى مستوى سياسي.
عادة ما تكون المكاتب الصحفية أو مكاتب الإعلام الخاص بالزعماء والرؤساء مسؤولة عن تنسيق مثل هذه المقابلات، ومن المفترض أن يجري التواصل عبرها لطلب المقابلات، وفي حالات أخرى، تلعب العلاقة الشخصية بين صانع القناة أو الصحفي نفسه مع الرئيس أو الملك أو الزعيم دورًا في قبول إجراء المقابلة.
يجري التحضير كثيرًا لمثل هذه المقابلات، فمن جهة وسائل الإعلام، يتخذ القرار على أعلى مستوى، وقد يتجاوز رئيس التحرير نحو المالكين أو مجلس الإدارة في دول الغرب، وفي مثال “فوكس نيوز”، علينا أن ندرك أن مالكها الأساسي هو روبرت ميردوخ (Rupert Murdoch)، اللاعب الأهم المتهم بالتلاعب والانحياز الإعلامي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية منذ عشرات السنين، وحتى في صناعة السياسات والعلاقات مع الدول الأوروبية.
على مستوى إدارات الدول، تكون أمام الرئيس أو الزعيم قائمة من الطلبات المعلقة لوسائل إعلام مختلفة، تطلب إجراء مقابلات صحفية، وقد تسعى هذه الإدارات نفسها لإجراء مقابلة مع وسيلة مؤثرة ليست على القائمة، فيجري الترتيب عبر إدارة العلاقات العامة والدعاية، أيًا كانت تسميتها، للبحث عن طريقة لدفع تلك الوسيلة لطلب المقابلة، باعتبارها تخدم الأجندة السياسية والاقتصادية للبلاد.
لوجستيًا، يجري طلب المحاور التي سيتم التطرق إليها في المقابلة، وبعض الإدارات تطلب قائمة دقيقة للأسئلة، في مرحلة ما بعد الموافقة على طلب المقابلة، وقد تشترط بعض المحاور.
وغالبًا ما ينتقل فريق المقابلة (مذيع، مصورون، تقنيون) إلى موقع مكتب الرئيس أو الزعيم، أو المكان الذي يختاره، وهناك من الإدارات من تطلب الاطلاع على المقابلة قبل البث أو النشر إذا كانت مسجلة، أو تشترط مشاركة كادر فني من قبلها للتصوير أو المونتاج، وهو دارج في الدول العربية ومنها سوريا، حرصًا على صورة الرئيس وشكل ظهوره، ومنعًا لأي مفاجآت.
وأختم بقصة عن المقابلات مع بشار الأسد، ففي عام 2003، كنت مطّلعًا على تفاصيل التحضير لمقابلة طلبتها صحيفة “الأنباء” الكويتية ورئيسة تحريرها، بيبي المرزوقي، مع بشار الأسد.
كانت فترة عصيبة على سوريا، عقب غزو العراق الذي بدأ في 19 من آذار 2003، وأعلن بعدها الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش، في 1 من أيار، نهاية “العمليات القتالية الكبرى”، لكن دمشق كانت تتعرض لضغط شديد ترافقه مخاوف من أن يكمل الجيش الأمريكي المهمة بعبور الحدود وإسقاط النظام في دمشق، خصوصًا مع قائمة مطالب حملها كولن باول، وزير الخارجية آنذاك، إلى الأسد خلال زيارته العاصمة السورية مطلع أيار من نفس السنة.
كانت الكويت تغرد منفردة بدعم دمشق، إذ قدم إلى دمشق، في 26 من نيسان، وزير الخارجية، الشيخ صباح الأحمد الصباح، في زيارة دعم، وما فهم من الأوساط الدبلوماسية الكويتية وقتها، أنه ردّ دَين لموقف سوريا في حرب تحرير الكويت عام 1991، والمشاركة بقوات برية وصل عديدها إلى 21 ألفًا، مجهزين بـ300 دبابة.
نشرت المقابلة يوم 25 من أيار، في إطار ردّ الدَّين، وبما يتماشى مع الموقف السياسي الكويتي.
في الكواليس، جرى ترتيب المقابلة عبر دوائر الاستخبارات ومكتب الرئيس الأسد معًا، ولأن البطانة فاسدة، اضطرت إدارة صحيفة “الأنباء” لدفع مبلغ يصل لنحو 150 ألف دولار لسلسلة من الوسطاء في أجهزة الأمن والمخابرات السورية، وصولًا لإجراء مقابلة كان الأسد بأمس الحاجة إليها.. وللحديث بقية.