حسن إبراهيم | جنى العيسى | رهام السوادي
بين فترة وأخرى، تظهر محاولات لإنعاش الاقتصاد وخلق بيئة استثمارية في ريفي حلب الشمالي والشرقي، حيث تسيطر “الحكومة السورية المؤقتة”، وسط مساعٍ من الأخيرة لجذب المستثمرين ولفت الأنظار إلى الإمكانيات الموجودة، ووضع خارطة للاستثمار.
جهود وإمكانيات وأموال أفرزت ست مدن صناعية ومشاريع تجارية واستثمارية في ظل واقع معيشي واقتصادي متردٍ يعيشه السكان، وفي بيئة تشهد حالة فوضى أمنية من قصف واشتباكات وتعدد فصائل، وفرض إتاوات وغياب محاسبة في قضايا شائكة، وسط عقبات مالية من غياب البنوك وانخفاض قيمة الليرة التركية (العملة المتداولة)، وعقبات قانونية أمام حماية أموال ومشاريع المستثمرين.
أحدث هذه المحاولات كان مشروع الاستثمار الأول في مدينة الراعي بريف حلب، بدعم وإشراف من “الحكومة السورية المؤقتة”، بعد حديث لـ”الائتلاف المعارض” عن توجه للداخل وتنمية الاقتصاد، وعقب عام ونصف من تعهدات الحكومة التركية التي تحظى بنفوذ واسع بالمنطقة بإنشاء “منطقة آمنة” وإعادة مليون لاجئ سوري “عودة طوعية كريمة” إلى بلدهم.
تسلط عنب بلدي في هذا الملف الضوء على واقع الاستثمار في المنطقة، وتناقش مع باحثين ومتخصصين وخبراء الإمكانيات لذلك، وطبيعة المشاريع الممكنة، واحتياجات المنطقة لإنشاء بيئة استثمارية، ومدى ارتباط الأمر بمشروع “العودة الطوعية”، ومسؤولية حماية أموال المستثمرين وضمانة حقوقهم.
مؤتمر الاستثمار
بعد تحضيرات استمرت أكثر من شهرين، وترويج إعلامي وجلسات واجتماعات، افتتحت “الحكومة المؤقتة” مؤتمر الاستثمار الأول في 17 من كانون الثاني الماضي، على أرض المدينة الصناعية في الراعي، بتنظيم من وزارة المالية والاقتصاد في “المؤقتة” وجامعة “حلب في المناطق المحررة” ونقابة الاقتصاديين ومؤسسة “2020 IDEA”، على أن يقام ليومين لكنه استمر أربعة أيام.
حمل المؤتمر شعار “الاستثمار.. استقرار، تنمية وازدهار”، وتصدّر افتتاحه رئيس “الحكومة المؤقتة”، عبد الرحمن مصطفى، الذي اعتبر أن المؤتمر مؤشر إيجابي على جهود تسعى للنهوض بالواقع الاقتصادي في المنطقة، وعلى هامش المؤتمر جرى تنظيم معرض للمنتجات المحلية، مع طرح أبحاث علمية تتحدث عن الواقع الاستثماري، وتجارب مشاريع في المنطقة، كيف بدأت وأين وصلت؟
رئيس اللجنة التنظيمية للمؤتمر، علي حلاق، قال لعنب بلدي، إن المؤتمر شهد حضور 45 ألف زائر و53 قسمًا (ستاند)، 47 قسمًا سوريًا وستة أقسام تركية، وأسهم في تأمين 1500 فرصة عمل مؤقتة، لإنجاز الديكورات والخشب والطباعة وغيرها.
بحسب حلاق، شارك في المؤتمر مستثمرون من أمريكا والاتحاد الأوروبي وقطر وتركيا، إضافة إلى مستثمرين من مناطق سيطرة المعارضة، وقدم المؤتمر نقاط القوة التي يمتلكها الشمال، من مدن صناعية وغرف تجارة وصناعة وبنية تحتية.
وقال وزير الاقتصاد في “الحكومة المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، لعنب بلدي، إن المعرض شهد مشاركة من 60 إلى 70 مستثمرًا وباحثًا من خارج مناطق سيطرة المعارضة، لافتًا إلى أن الإقبال “فاق التوقعات”.
وأضاف المصري أن المعرض المقام خلال المؤتمر أعطى صورة “إيجابية” للمنتجات المحلية والاستثمار في المنطقة، ليكون دافعًا لدعم الاستثمار في الشمال والمشاريع الصغيرة التي تؤمّن فرص عمل.
ويهدف المؤتمر، وفق المصري، إلى تنمية الشمال اقتصاديًا، والإسهام بتحسين مستوى المعيشة وزيادة فرص العمل، من خلال خمسة محددات هي خلق بيئة استثمارية جاذبة، وتقييم واقع الاستثمار في الشمال السوري وتحديد متطلباته، وإنشاء حواضن الأعمال لتنمية المشاريع الصغيرة، وتحفيز الطاقات الشابة للمبادرة في ريادة الأعمال، والوصول إلى شراكات استراتيجية على المستويين الداخلي والخارجي في قطاع الاستثمار، ووضع خارطة للاستثمار من منظور التنمية المستدامة.
ست مدن صناعية
تقدم “الحكومة المؤقتة” تسهيلات للمستثمرين، منها تخفيض جميع رسوم بضائع الاستيراد والتصدير المنتجة ضمن المدن الصناعية، وتمنح لكل مستثمر ضمن المدينة إذن عبور مجانيًا إلى تركيا طيلة فترة استثماره للمنشأة، وتعتبر أرض المدينة ملكية خاصة، ويمنح المشتري سند ملكية من السجل العقاري، لكن ذلك لا يمنع المخاوف من الاستثمار في المنطقة.
وتوجد ست مدن صناعية في ريفي حلب الشمالي والشرقي، واحدة في مدينة جرابلس، وتمتد على مساحة 20 ألف متر مربع، وبدأ العمل عليها في حزيران 2021، وتضم 200 معمل.
الثانية تقع في جنوب مدينة صوران، وتبلغ مساحتها 50 ألف متر مربع، ويوجد فيها 200 معمل قيد العمل، و1500 عامل، ويبلغ سعر المتر الواحد داخل المدينة بين 30 و40 دولارًا أمريكيًا.
وفي اعزاز، توجد مدينة صناعية لا تزال طور التجهيز، مساحتها 85 ألف متر مربع، وعدد المحاضر المباعة فيها 41 محضرًا، وافتتح أول معمل بالمنطقة في أيار 2023.
وتعد المدينة الصناعية في الباب الأولى من نوعها في مناطق سيطرة المعارضة، أُسست عام 2018، وهي خاصة مملوكة لرجل الأعمال عمر واكي، وحصل على ترخيص بتنظيمها كمدينة صناعية.
وتبلغ مساحة المدينة الصناعية بالباب 564 ألفًا و900 متر مربع، وتضم 60 معملًا لصناعة الخزانات وحفارات الآبار ومواقد الغاز وغيرها، وتضم 1500 عامل.
وتمتد مساحة المنطقة الصناعة في مارع على مساحة 130 ألف متر مربع، وبدأ تنفيذها في عام 2018، وتضم المنطقة 320 معملًا و320 عاملًا.
سادسًا، تأتي المدينة الصناعية في الراعي، التي تعد الأكبر مساحة في المنطقة بمليون متر مربع تضم 1384 معملًا، و7600 عامل، وتتميز مدينة الراعي بصناعة الأحذية، وتُصدّر إلى الخارج عبر تركيا.
الواقع ومخاوف المستثمرين
نائب رئيس “الائتلاف“، عبد المجيد بركات، قال خلال المؤتمر، إن من الضروري الانتقال من مرحلة انتظار المساعدات الإنسانية إلى مرحلة الإنتاج والاعتماد على الذات، مشيرًا إلى أنه لا يمكن تأجيل العمل إلى أن يتم تحقيق بيئة مناسبة بنسبة 100% في أي منطقة من سوريا.
وأضاف بركات أن هناك معوقات بخصوص التصدير للمنتجات واستيراد المواد الأولية، لافتًا إلى ضرورة تسهيل حركة السوريين والمستثمرين الأجانب عبر الحدود، كما الخدمات المصرفية، وأوضح أنه قد تم تحديد هذه المعوقات من أجل العمل على إيجاد حلول لها، بالتعاون مع تركيا.
كمال قاسم، سوري مقيم في تركيا، كان من ضمن الحضور في مؤتمر الاستثمار، قال لعنب بلدي، إنه يرغب بالاستثمار في الشمال، لكن لديه مخاوف تتمثل بالواقع الأمني “الضعيف”، وعقبات البنى التحتية، مثل رداءة الطرقات والمواصلات، وصعوبة الدخول من وإلى تركيا، إضافة إلى الجهات المسيّرة للاستثمارات، التي اعتبرها “غير محددة ولا تملك الصلاحيات”.
عمر ملا حميد، لديه معمل لصناعة رؤوس طباخات الكاز في مدينة الباب بريف حلب الشرقي، قال لعنب بلدي، إن ما دفعه للاستثمار في المنطقة هو رغبته بزيادة الدخل وقدرته على المنافسة من خلال الجودة والأسعار المناسبة مقارنة بالقطع المستوردة.
وأضاف أن المنطقة يمكن أن تحقق أرباحًا للمستثمرين في المجال الصناعي أو العقاري أو التجاري، “لعدم وجود قيود تعوق الاستثمارات والصناعة المحلية”، مثل الضرائب وترخيص المصانع، معتبرًا أن أكبر الصعوبات هي حالة عدم الاستقرار التي تشهدها المنطقة.
وبدأ عبد الرحمن عفورة، صاحب معمل “السلام لصهر المعادن”، عمله في المنطقة الصناعية بالباب، في تشرين الثاني 2022، لإحياء المنطقة اقتصاديًا، إضافة إلى انخفاض الضرائب وأجور اليد العاملة.
وحول الصعوبات، قال عفورة لعنب بلدي، لا توجد حماية للمنتج بالنسبة للاستيراد والتصدير، إذ إن صهر المعادن يعتمد على شراء خردة الحديد وإعادة صهرها، وتكمن المشكلة ببيع الخردة للدول المجاورة، ما تسبب بقلتها في المنطقة وبالتالي ارتفاع سعرها.
وفي نفس السياق قال مصعب عمر الطيب، مدير “مجموعة عمر الطيب” للصناعة والتجارة، التي أسسها والده في 1989، ويوجد فرع لها في المدينة الصناعية بالباب، إن المعامل تواجه صعوبة في التصدير.
وذكر الطيب أنه في الماضي كانت “مجموعة عمر الطيب” تصدّر منتجاتها لما يقارب 25 دولة عربية وأجنبية، إلا أن ارتفاع تكلفة التصدير، التي وصلت مرة إلى خمسة آلاف دولار أمريكي، تمنعه من التصدير خارج سوريا حاليًا.
الارتباط بـ”العودة الطوعية”
يعود مشروع “العودة الطوعية” للاجئين السوريين، الذي تسعى إليه تركيا منذ أيار 2022، إلى الواجهة مع أي حديث عن إنشاء بيئة استثمارية في الشمال السوري، وأطلق الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حينها تصريحات تضمنت حديثًا عن إقامة منازل وتأمين مأوى وسبل حياة في المناطق التي يعود إليها اللاجئون شمال غربي سوريا.
وفي كانون الأول 2023، أعلن وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، عن عودة 604 آلاف و277 شخصًا “طوعًا” من السوريين خلال الأشهر الـ11 من عام 2023 إلى بلدهم، دون تحديد الوضع القانوني للعائدين.
ورغم توثيق منظمات حقوقية وإنسانية ومعابر حدودية ووسائل إعلام عمليات ترحيل لسوريين وتوقيعهم على أوراق “العودة الطوعية”، ذكر الوزير أن الدولة التركية تعمل على ضمان عودة السوريين بطريقة “طوعية وآمنة وكريمة”، عبر إرادتهم بإجرائها على أساس عقلاني موجه نحو حقوق الإنسان من خلال مراعاة كل جانب من جوانب الحياة.
يبلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا ثلاثة ملايين و194 ألفًا و185 لاجئًا تحت نظام “الحماية المؤقتة”، وفق أحدث إحصائية صادرة عن رئاسة الهجرة التركية في 18 من كانون الثاني الماضي.
ويسكن شمال غربي سوريا 4.5 مليون شخص، منهم 4.1 مليون بحاجة إلى مساعدة، و3.3 مليون منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي، 2.9 مليون منهم نازحون داخليًا، ومليونان يعيشون في المخيمات، وفق الأمم المتحدة، في حين تتحدث إحصائيات محلية عن 5.5 إلى 6 ملايين شخص.
بعد تسلّمه رئاسة “الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة” في أيلول 2023، أطلق هادي البحرة خطة عمل للنهوض بالشمال السوري على الصعيد الاقتصادي، وقال لعنب بلدي، إن النهوض الاقتصادي والخدمي هو “توجه عام بالنسبة للائتلاف”، مبديًا دعمه لمفهوم “العودة الطوعية والكريمة” للاجئين السوريين في كل بلدان اللجوء.
واعتبر البحرة أن توجه “الائتلاف” و”الحكومة المؤقتة” (ذراع “الائتلاف” التنفيذية) في الوقت الراهن، هو جلب المزيد من السوريين من رجال الأعمال والمستثمرين نحو الداخل السوري، لتوسيع هذا النوع من العمل الاقتصادي، وتوجيه البرامج الإغاثية الدولية لتعزيز القدرات الإنتاجية، وتأمين منح وقروض صغيرة لمناطق شمال غربي سوريا، عوضًا عن الاعتماد على المعونات الإغاثية.
وذكر أن “الائتلاف” يدعم حق اللاجئ باللجوء أيضًا، وحقه بطلب الحماية، والتعامل معه بكرامة وإنسانية، وفق القوانين الدولية، إلى جانب رفض حالة “الإعادة القسرية” لأي لاجئ سوري، إذ يجب أن تبنى عودتهم على قرار اتخذوه بأنفسهم بناء على الظروف المتاحة في الداخل السوري.
واعتبر أن الخطة الاقتصادية في الشمال السوري هي “توجه” بالنسبة لـ”الائتلاف”، وليست مشروعًا متزامنًا مع مشروع تركيا في “العودة الطوعية” بالنسبة للاجئين السوريين، مضيفًا أن “الائتلاف” يطمح أن يبدأ رجال الأعمال السوريون، والخبرات السورية، بالتفكير بالعودة إلى سوريا، والمشاركة في مشروع “النهوض بالشمال السوري”.
في كانون الأول 2023، عقدت ورشة تحضيرية خامسة للمؤتمر عبر تطبيق “زوم”، شارك فيها رجال أعمال وأكاديميون مقيمون في دول مختلفة، مثل أمريكا وفرنسا وهولندا وتركيا، واتفقوا على أهمية المؤتمر خاصة في المرحلة الحالية المتوجهة نحو “العودة الطوعية”، في حين اعتبر المصري أن لا عودة دون توفر فرص عمل.
هل المنطقة آمنة للاستثمار؟
فتحت إقامة المؤتمر والضخ الإعلامي المرافق له باب التساؤلات حول مدى جاهزية الشمال السوري عمومًا وريف حلب خاصة ليكون منطقة آمنة للاستثمار.
يجب على المستثمرين الأجانب قبل اتخاذ قرارهم بالاستثمار في بلد معيّن، دراسة وتحديد مدى خطورة “مناخ الاستثمار” في هذه الدولة، وفق تقرير نُشر عبر موقع “Investopedia” المتخصص بالمال والاستثمار.
“مناخ الاستثمار” هو الظروف الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية في بلد ما، التي تؤثر على مدى استعداد الأفراد والبنوك والمؤسسات لإقراض الشركات العاملة الخاصة فيها.
ويتأثر “مناخ الاستثمار” بعدة عوامل غير مباشرة، منها مستوى الفقر، ومعدل الجريمة، والبنية التحتية، ومشاركة القوى العاملة، واعتبارات الأمن القومي، والاستقرار السياسي، والضرائب، والسيولة، واستقرار الأسواق المالية، وسيادة القانون، وحقوق الملكية، والبيئة التنظيمية، وشفافية الحكومة، ومساءلة الحكومة.
نظرة إلى ريف حلب
تسيطر “الحكومة المؤقتة” المظلة السياسية لـ”الجيش الوطني السوري” على ريفي حلب الشمالي والشرقي ومدينتي تل أبيض ورأس العين، وتنشط خدماتها وإشرافها على ريفي حلب، في حين تطولها انتقادات بتهميش تل أبيض ورأس العين، وتخليها عن محاصيل استراتيجية، وعدم تقديم الدعم اللازم لتهيئة بيئة خدمية واقتصادية ومعيشية أفضل.
واعتمدت “المؤقتة” وحتى “الإنقاذ” في إدلب الليرة التركية كعملة للتداول في حزيران 2020، كونها أكثر استقرارًا من الليرة السورية، إلى جانب تداول الدولار الأمريكي في التعاملات التجارية الخارجية.
وجاء استبدال العملة التركية بالسورية في الشمال السوري بعد وصول سعر الصرف إلى حدود 3500 ليرة سورية للدولار الواحد في حزيران 2020، وسط مطالبات من سوريين بأن يكون الاستبدال حلًا مؤقتًا لحين الوصول إلى حل سياسي، وتعادل حاليًا كل 30 ليرة تركية دولارًا أمريكيًا.
ويبلغ أدنى أجر للموظفين في القطاع العام بريفي حلب الشمالي والشرقي 1140 ليرة تركية، ويُمنح للمؤذنين العزاب وعمال النظافة العزاب، بينما يتلقى المتزوجون منهم راتبًا بقيمة 1235 ليرة تركية، في حين وصل راتب المعلمين إلى 1750 ليرة تركية للعزاب و1925 ليرة للمتزوجين.
ووصل حد الفقر المعترف به في الشمال السوري إلى 9314 ليرة تركية، وحد الفقر المدقع إلى 6981 ليرة تركية، ووصلت نسبة البطالة إلى 88.74% بشكل وسطي (مع اعتبار أعمال المياومة ضمن الفئات المذكورة)، بحسب فريق “منسقو استجابة سوريا” العامل في المنطقة.
وتتراوح أجور المياومة في مناطق ريف حلب بين 60 و100 ليرة تركية (ثلاثة دولارات وسطيًا)، وتختلف باختلاف عدد ساعات العمل وطبيعة المهنة من زراعة أو أعمال يدوية أو أعمال بناء.
ثلاثة محددات
يشكل الاستثمار أحد أهم المؤشرات الاقتصادية، كما يعد العامل الاقتصادي الوحيد القادر على تحسين واقع المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في الشمال السوري، وفق ما يراه الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر.
وأضاف السيد عمر لعنب بلدي، أن الاستثمار لا يمكن أن يتم دون توفر عدة ركائز، على رأسها الاستقرار الاقتصادي والسياسي والأمني، وتوفر المتطلبات التشريعية والبيئة التحتية وحوامل الطاقة وأسواق التصريف وبيئة مالية متطورة، وجزء كبير من هذه المتطلبات غير متوفر حاليًا، أو متوفر بالحدود الدنيا.
واعتبر الباحث أن مؤتمر الاستثمار في الشمال السوري يعد خطوة مهمة لتطوير وتشجيع الاستثمار في المنطقة، لكنها خطوة غير كافية، إذ لا بد أن يتزامن بخطوات تنفيذية أخرى.
من جانبه، الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” مناف قومان، أوضح أن محددات الاستثمار في أي منطقة في العالم ثلاثة، أولها البيئة الآمنة وثانيها الحوكمة الرشيدة وثالثًا الوصول بمعناه الكبير أو الفضفاض، وهو الوصول للأسواق الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى الوصول للأدوات المالية للحصول على القروض والأموال والتحويلات وما شابه ذلك.
واعتبر قومان في حديث إلى عنب بلدي أن المحددات الثلاثة السابقة غير موجودة في منطقة ريف حلب أو مناطق شمال غربي سوريا عمومًا، ولا تنطبق عليها معايير الاستثمار الدولية أو المنافسة في الأسواق العالمية، إذ لا تزال المنطقة تعاني من اضطرابات أمنية بين الحين والآخر، فضلًا عن غياب الأمان في عدة نواحٍ منها سياسية واقتصادية واجتماعية.
ومثال على غياب الأمان لا يستطيع المستثمرون تسجيل علاماتهم التجارية، أو في حال وجود نزاع تجاري بين مؤسستين أو كيانين لا يمكن البت فيه، وأشار قومان إلى أن هذا ما يجري العمل عليه وما يهدف إليه مؤتمر الاستثمار بشكل رئيس، موضحًا أن المنطقة في طور التعافي وبالتالي بناء بيئة امنة للاستثمار، وبناء حوكمة رشيدة تهدف بالنهاية لإنشاء استثمارات.
ويرى الباحث أنه من غير الممكن النظر إلى معايير الاستثمار في دبي أو الدوحة أو مدينة غازي عينتاب التركية مثلًا وتطبيقها على منطقة كريف حلب، فالبيئتان مختلفتان، إذ تعد البيئة في تلك المدن أكثر من آمنة أو مستقرة، توجد فيها استثمارات كبيرة وتتميز بحوكمة متطورة، بالمقابل تعد البيئة في ريف حلب مبتدئة جدًا في هذا الجانب، حيث المجالس المحلية وغرف الصناعة والتجارة والمصانع والمعامل تعتبر ناشئة حديثًا.
ووفقًا لهذه المعطيات، يعتبر قومان أن الشمال السوري يعد منطقة آمنة نسبيًا للاستثمار، بالنظر إلى تعريف الأمان النسبي بحسب الظرف والوضع السوري، وبحسب الأوضاع التي كانت سائدة قبل سنوات حيث نشطت مؤخرًا بيئة تتيح حركة تشغيل المصانع والمعامل والمنشآت مهما كان نوعها.
منها اليد العاملة.. ميزات للاستثمار
المشاريع التي قد تنجح وتساعد على تعافي المنطقة، هي المصانع والمعامل والورشات في جميع القطاعات الإنتاجية بالدرجة الأولى، بالاعتماد على موردين أساسيين في المنطقة أولهما طبيعي والثاني بشري، وفق ما يراه الباحث مناف قومان.
ويتميز المورد البشري في المنطقة بوجود كفاءات عالية ومتنوعة فرضها واقع النزوح، فضلًا عن انخفاض أجور اليد العاملة ما يتيح فرصة التنافس ويقلل من تكاليف الإنتاج، فيما تعد الموارد الطبيعية بمعظمها موارد زراعية متنوعة وبعض الصناعات المعدنية التي تتميز بها مدينة الباب خصوصًا.
الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، اعتبر أن للاستثمار في الشمال السوري عدة مزايا ومغريات، منها توفر اليد العاملة، والقرب من مصادر الطاقة، والقرب من أسواق التصدير المستهدفة، وعدم وجود استثمارات في المنطقة، لكنها لا تعتبر منطقة جاذبة للاستثمار في ظل الظروف الحالية السائدة، وسط وجود هشاشة استقرار سياسي وأمني، كما أن البيئة الاقتصادية العامة غير مستقرة، إذ لا توجد مؤسسات اقتصادية تدير المؤشرات المالية والنقدية.
التحديات كثيرة.. من يحمي المستثمر؟
من أبرز معوقات الاستثمار في المنطقة هي المحددات نفسها المتمثلة بالبيئة الآمنة والحوكمة الرشيدة والوصول، وفق ما يراه الباحث مناف قومان، مشيرًا إلى أن كل تطور ملموس في أمان المنطقة من جهة وفي حوكمتها وفي وصول منتجها للأسواق الدولية والإقليمية، ووصول المنتج للأدوات المالية المتوفرة سيسهم بتطوير البيئة الاستثمارية.
ويضاف إلى ذلك، معوقات أخرى مرتبطة بالغموض السياسي للمنطقة، والقصف المتواتر والاقتتالات البينية، فضلًا عن نقص التمويل الدولي إلى جانب الاعتماد على السلة الغذائية دون الاعتماد على الذات، وفق قومان.
ويتفق الباحث يحيى السيد عمر في وجهة النظر مع قومان في أنه بغياب الاستقرار، من غير الممكن الحديث عن تشجيع الاستثمار، معتبرًا أن المنطقة رغم الاستقرار النسبي فيها، فإنها مهيأة في أي لحظة لتصعيد أمني، فضلًا عن وجود عقبات إضافية، أبرزها غياب سياسة اقتصادية مستقرة، وصعوبات تصدير الإنتاج، دون وجود شهادات منشأ.
ويرى السيد عمر أن كل العقبات السابقة يمكن تجاوزها، ولكن لا بد من دعم إقليمي ودولي من تركيا والدول الكبرى والمؤسسات الدولية، كما لا بد من وجود خطة طريق عامة لحل القضية السورية، فالوضع الحالي السياسي والعسكري لا يدعم الاستثمار، كون المنطقة حتى وإن طال الاستقرار ستكون مرشحة في أي لحظة لتصعيد عسكري.
مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، والدكتور في الاقتصاد، كرم شعار، قال لعنب بلدي، إن أبرز التحديات الأمنية التي قد تواجه المستثمرين في المنطقة ترتبط بشكل كبير بـ”الجيش الوطني” الذي يسيطر على المنطقة دون قدرته على ضبط بعض عناصره ممن يتهمون بالفساد والضلوع بانتهاكات مختلفة.
وتسجل حالة عدم الاستقرار الأمني وكثرة الانتهاكات والاقتتال حضورها شمال غربي سوريا، مع اشتباكات قرب خطوط التماس المختلفة، وتتعرض أرياف حلب ورأس العين وتل أبيض لعمليات قصف مصدرها مناطق سيطرة النظام و”قوات سوريا الديمقراطية “(قسد)، وتجري عمليات تسلل متبادلة، بينما تشهد إدلب وأريافها قصفًا شبه يومي من النظام تتخلله غارات روسية بوتيرة متقطعة.
ويوجد تنافس بين فصائل “الجيش الوطني” تنشب عنه حالات اقتتال بشكل متكرر، ويبلغ عدد عناصره 80 ألف مقاتل وفق ما قاله “الائتلاف” في 2019، في حين ذكر تقرير لمعهد “الشرق الأوسط”، أن التشكيل يضم من 50 ألفًا إلى 70 ألف مقاتل.
وتُتهم بعض الفصائل بارتكاب انتهاكات تغيب عنها المحاسبة، كقضية اغتيال ناشط إعلامي في مدينة الباب بريف حلب، ومحاكمة القيادي “أبو عمشة” التي لم تطبّق، كما أن قياديين فيه طالتهم عقوبات أمريكية لتورطهم بانتهاكات ضد حقوق الإنسان، وفرض إتاوات ومسؤوليتهم عن عمليات خطف وقتل.
وترتبط المعوقات الأخرى بعدم وجود إطار ناظم للاستثمار بشكل واضح، إذ تم إطلاق العديد من الوعود عبر هذا المؤتمر دون وجود سبل قانونية واضحة في هذا الإطار، وفق شعار، مشيرًا أيضًا إلى أن عدم المشاركة النسوية في المؤتمر يعد مشكلة كبيرة.
بدوره، وزير الاقتصاد في “الحكومة المؤقتة” عبد الحكيم المصري، أوضح لعنب بلدي أن الاستثمار في المنطقة ليس أمرًا سهلًا، وأن هناك تحديات كبيرة، ومنها الوضع الأمني، مشيرًا إلى أن المدن الصناعية لم تشهد أي حادثة اعتداء على أملاك المستثمرين إطلاقًا، لذلك تنصح “الحكومة” بأن يتم الاستثمار في تلك المدن الصناعية، فهي “محمية”.
وأضاف الوزير أنه في حال نشطت الاستثمارات يمكن أن يتم فتح مؤسسات تأمين، وهي تحمي أملاك المستثمرين، دون إغفال وجود أنظمة وقضاء وقوة تنفيذية في المنطقة، في حال وجود أي إشكالات، لافتًا إلى أن “المؤقتة” اتخذت تدابير أمنية وشددت الإجراءات لعدم حصول أي تجاوزات.
ولفت المصري إلى وجود حالات خارجة عن الإرادة، مثل قصف قوات النظام أو “قسد” للمنطقة.
الباحث المساعد في مركز “جسور للدراسات”، عبد العظيم المغربل، قال لعنب بلدي، إن البيئة والبنى التحتية والواقع الأمني تعتبر عائقًا أمام الاستثمار في المنطقة منذ سنوات، لكن في حال نفذت وزارة الدفاع التابعة لـ”الحكومة المؤقتة” التزاماتها في عملية ضبط الأمن، وقيام وزارة المالية والاقتصاد في تقديم التسهيلات مثل تفعيل شركات التأمين وتسهيل التصدير وتأمين المواد الأولية والبنية التحتية اللازمة وتأمين شهادات منشأ، والتنسيق مع الجانب التركي، يمكن تجنب قسم كبير من العوائق، وجذب الاستثمار للمنطقة والمساعدة في تسريع حركة العجلة الاقتصادية وتحسين واقع مناطق سيطرة المعارضة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :