لمى قنوت
على الرغم من أهمية السلام كمنافٍ للحرب، فإن هذه المفردة من أكثر الكلمات استغلالًا من قبل هياكل الهيمنة لتأبيد الاحتلال والاستبداد وترسيخ الأنظمة السلطوية والحفاظ على مصالح “الأوليغارشيا” والشركات الضخمة في الحقبة “النيوليبرالية”. ويصبح توصيف الواقع القمعي المتخم بالانتهاكات والجرائم واللامساواة البنيوية استقرارًا، وكل مقاومة واشتباك مع تلك البنى والهياكل يعد تهديدًا للأمن والسلام.
ويمكن استعادة مصطلح “السلام المسلح” الذي أطلق قبيل الحرب العالمية الأولى في سياق تكثيف الاستثمار في تعزيز قدرة الجيوش لخوض الحروب وصناعة موارد الحرب، وبضمنها، بالتأكيد، صناعة المناخ العدواني، ليتوسع ويشمل إبادة الجسد الفلسطيني بوصف وجوده تهديدًا لسلطة الاحتلال الصهيوني ومشروعه، والتجارة بأعضاء جثامين الضحايا منذ عام 1948، فيما يعرف بـ”مقابر الأرقام”، وسرقة جلود من جثامينهم لدعم ازدهار النشاط الصناعي لجيش الاحتلال الذي يمتلك بنكًا كبيرًا للجلود البشرية منذ عام 1986.
ولا يجد الخطاب الصهيوني غضاضة من استدعاء سردية “العماليق” من العهد القديم، وتشبيه العرب، وضمنهم الفلسطينيون والفلسطينيات، على أنهم “عماليق” اليوم، وشر مطلق للوجود اليهودي، ويجب عليهم، أي على اليهود، قتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم وطفلاتهم وماشيتهم، فلم يكتفوا، رجالًا ونساء، بقتل وتدمير جميع أشكال الحياة، بل وصل تطرفهم إلى التلذذ بالقتل والتدمير وتصوير جرائمهم وبثها بمفاخرة على وسائل التواصل الاجتماعي، بما فيها قنص خراف شاردة واستهداف أحصنة بمدفعية دبابة.
مع تصاعد جرائم الاحتلال، يتكثف ظهور مفهوم “السلام المسلح”، في زج مفردة السلام بالتوازي، مثلًا مع استخدام “الفيتو” الأمريكي في مجلس الأمن لرفض مشروع الوقف الإنساني لإطلاق النار بقطاع غزة في 8 من كانون الأول 2023، كدعم لاستكمال الإبادة الجماعية، فيدعي روبرت وود نائب السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة أمام المجلس، أن “القرار غير متوازن (…) وأن الولايات المتحدة تدعم بشدة السلام الدائم الذي يمكن للإسرائيليين والفلسطينيين العيش فيه بسلام وأمن”. ومع ترديد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، “ضرورة ضمان السلام الدائم والمستدام لإسرائيل في المنطقة”، بلغت تكلفة العمليات العسكرية الأمريكية في المنطقة 1.6 مليار دولار، منذ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى يناير/كانون الثاني الماضي، وتوقع “البنتاجون” ارتفاع التكلفة إلى 2.2 مليار إذا استمر الحشد العسكري لمدة عام.
“هسبر” كصهيوني عن السلام
“الهاسبارا”، التي تعني “الشرح والتفسير” في اللغة العبرية، هي جزء من أدوات متعددة يلجأ إليها الاحتلال الصهيوني لتسويق سرديته وتبيض وتجميل صورته، وينشر كتيبات توصف على أنها قاموس لغوي يرشد المدافعين والمدافعات في مواجهة الرأي العام في دول الشمال العالمي، ويشارك في كتابتها رؤساء وزراء و”ممثلون ومتحدثون” عنه.
وفي أحد تلك الكتيبات المنشور في عام 2009 مثلًا، وردت فيه مفردة السلام 227 مرة، وذكر 25 قاعدة للتواصل الفعال مع الجمهور، بهدف “كسب قلوب وعقول جديدة لإسرائيل”، وفهم الإطار الذي ينظر فيه معظم الأمريكيين إليهم كـ”دورة عنف منذ آلاف السنين”، وبالتالي عليهم، أي على المدافعين والمدافعات عن الاحتلال، نزع هذه الشكوك وتعلم حقائق جديدة عنه.
وأول قاعدة “لكسب الثقة والأصدقاء لإسرائيل هي إظهار أنك تهتم بالسلام لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين”.
ويمتلئ الكتيب بعبارات على شاكلة: “تذكير الناس، مرارًا وتكرارًا، أن إسرائيل تريد السلام”، وأن “المتحدث الذي يُنظر إليه على أنه الأكثر تأييدًا للسلام سيفوز بالنقاش”.
تسليح السلام لعرقلة العدالة العرقية
امتد مصطلح “السلام المسلح” ليشمل مثلًا معارضي العدالة العرقية في أمريكا، فاستخدموا الرغبة في السلام والاستقرار والوئام كسلاح لعرقلة العدالة العرقية، ولتكبيل حركة احتجاجات “حياة السود مهمة”، وتقييد تدريس مناهضة العنصرية، خاصة في التعليم العالي خلال الأعوام السابقة، وتم إصدار تشريعات تحظر نظرية العرق النقدية في 8 ولايات أمريكية، وهي إطار أكاديمي ومنهج لدراسة دور العرق في العدالة الاجتماعية، الأمر الذي عاق ومنع تحليل ومناقشة العنصرية واللامساواة في تاريخها، فمثلًا، وخلال مشاركة السود في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية (حوالي مليون جندي)، تم فصل قواتهم المسلحة عنصريًا، وفصل الصليب الأحمر التبرعات بالدم، وبعد أن عاد المحاربون السود إلى بلدهم حرموا من الوظائف والسكن، وانخرط العديد منهم في النضال من أجل الحقوق المدنية.
وحتى الآن، ومع انتشار السجون الخاصة في أمريكا، واعتمادها كتجارة يتربح منها أصحابها كلما زاد عدد السجناء فيها، فإن معدل سجن الأمريكيين السود واللاتينيين أكبر بخمس مرات من معدل الأمريكيين البيض، علمًا أنه حسب إحصاءات التعداد السكاني، يشكل السود 13.6%، واللاتينيون 19.1%، أما البيض فيشكلون نسبة 58.9%.
إن تخليص السلام من الاستعلاء الأبيض، والتمحيص في خطابات مدعي السلام، وخطابات “السلام المسلح” يجب وضعها في إطارها الصحيح دون رمسنة وتجميل لأنها تحمل في طياتها حماية الاحتلال والاستبداد وتنامي العسكرة، وتعمل على استدامة هياكل العنف وتعزيز قدرتها، وتخنق السعي للعدالة وتحرير الأرض.