غزوان قرنفل
ظاهرة الأسواق الإلكترونية وشراء السلع عبر تطبيقات مخصصة لذلك، وإمكانية الاستبدال أو الإعادة واسترداد الثمن، شكلت بلا شك قفزة مهمة وإيجابية لمفهوم التسوق، واستجابة لحاجات وتطورات العصر ومفاهيم السوق والتسويق معًا.
كذلك شكلت منصات التواصل الاجتماعي المختلفة بيئة مختلفة للتواصل بين البشر، جعلت حقًا من العالم قرية صغيرة مكّنت الناس من خلق حالة تواصل بين بشر ربما لا يعرفون بعضهم أصلًا، ولم يسبق أن التقوا وربما لا تسنح الفرصة أصلًا لالتقائهم الفيزيائي.
وعلى الوجه الآخر، شكل الإفراط في استخدام تلك المنصات ومتابعة كل شيء فيها حالة قطيعة مع البيئة المحيطة، وخلق مساحة واسعة لملء تلك المنصات بكثير من الأكاذيب والأخبار المضللة والمنشورات المسيئة، فالمسألة تتعلق أولًا وآخرًا في كيفية استخدام تلك الوسائل وملء محتواها.
في هذا السياق، اجتاحت جائحة “البث المباشر” على تطبيق “تيك توك” هذا الفضاء، حتى إنه يمكنك خلال عشر دقائق فقط من التصفح أن تجد المئات متسمّرين أمام الكاميرا بهيئات مختلفة، يطلقون العنان لكثير من الهراء وبعضها لكثير من الكلام والحركات الإيحائية التي تحاول استنهاض الغرائز سعيًا وراء مزيد من المتابعين والمشاركين.
نساء متزوجات يجلسن ساعات طوال على البث المباشر حتى ساعات متأخرة من الليل، بينما تسمع خلال البث أصوات أولادهن يدخلون ويخرجون للمطبخ أو الغرفة التي يباشرن منها البث! ويتساءلن لماذا هؤلاء الأطفال ساهرون حتى هذا الوقت؟ ومن الذي يتابع لهم دروسهم وأمور معيشتهم وطعامهم؟ وأين هو الأب أصلًا وكيف يسمح لزوجته بالجلوس طوال تلك الساعات للتشدق وتوزيع الابتسامات وإطلاق الضحكات الرخيصة على الهواء مباشرة، بل ربما يشاركها هو نفسه البث أيضًا في بعض الحالات!
عشرات من الصفحات يحتل واجهتها شبان وشابات لا يتورعون عن إسباغ صفة المحامي أو الإعلامي أو الخبير القانوني على أنفسهم، رغم أن نمط حديثهم والعبارات التي يتحدثون بها تنبىء بأن هذا الإعلامي أو الخبير القانوني المفترض لا يعرف شيئًا عن الإعلام ولم يقرأ كتاب قانون قطّ، يبثون لساعات وساعات نصائح “قانونية” لمتابعيهم وسائليهم، ومعظم ما يتفوهون به لا يمت للقانون بصلة، وبعض ردودهم قد تفضي إلى نتائج كارثية فيما لو أخذ بها السائل أو المتابع.
مئات من ساعات البث المباشر ليست أكثر من هراء وأحاديث ونقاشات سطحية وتافهة، تشي بحجم الضحالة التي هوى إليها المجتمع بفعل الجهل والتجهيل والقطيعة مع الكتاب وكل ما هو مكتوب، والاكتفاء بتشرب الرائج من “ثقافة” وسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت بكل أسف إلى منابر للإسفاف والرخص والميوعة بشكل مفجع غالبًا لا تجده إلا بشكل محدود جدًا في المجتمعات التي تنفق وقتها في العمل والإنتاج واكتساب المهارات والخبرات وتطوير مستويات المعرفة.
قد يبدو هذا الكلام مغرقًا في مثاليته أو لا واقعيته بالنظر إلى القاع الذي انحدرنا إليه وحجم الانهيار والتفسخ البنيوي للمجتمع السوري، بسبب مفاعيل الحرب والتشرد والانسحاق الاقتصادي… لكن لا بد أن ندرك أن الخروج من مستنقع ارتدادات الحرب وما بعدها يقتضي تمامًا الالتزام أكثر بالحدود الدنيا لمنظومة القيم العامة التي يفترض أنها تشكل محددًا عامًا وضابطًا لسلوكنا، ويقتضي تمامًا أن نربأ بأنفسنا قدر ما نستطيع عن الإسفاف والرخص، وأن نبحث بديلًا عن ذلك في كيف نملأ وقتنا وبماذا نملؤه وكيف نكتسب مهارة ما أو شيئًا جديدًا يضيف إلى حياتنا المريرة بعضًا من الأمل وبعضًا من الفرص.
إن التلوي أمام الكاميرات وإرسال الإيماءات وعرض الصدور والشفاه المغمسة بأحمر شفاه، يشبه ذلك الذي تضعه الغانيات في علب الليل ومواخيره، من أجل مردود مالي مهما بلغ فهو تافه لأنه يرخّص الساعين إليه بتلك الوسائل، وهو بالقطع لا يؤشر بحال من الأحوال إلى تحرر وتحضر بقدر ما يؤشر إلى انهيار مريع في كل شيء بدءًا من عفة الجسد والعقل، وليس انتهاء بعفة الوجدان وتهاوي قيم العائلة وأخلاقها.
ما نراه ليس أكثر من سوق نخاسة حقيقية يتيح فيه النخّاس هذه المرة لبضاعته البشرية أن تعرض مفاتنها أو هراءها وسخفها على الهواء مباشرة، فالزوّار كثر والشبقون للمتعة البصرية أكثر، خصوصًا أن زيارة تلك السوق مجانية كمجانية المجون والفجور فيه، وكلما زاد عدد زوار هذا السوق كثرت عائداته عليه، ولا بأس حينها من أن ينفق نذرًا يسيرًا منها على تلك البضاعة.
هذه المنصات بالتأكيد ليست شرًا مطلقًا كما يفترض البعض، بل هي نعمة وخير إن أردناها كذلك، وكل ما حققه الانسان من مكتسبات وتطور وما أنتج من أدوات للارتقاء بمستوى عيشه، يمكن توظيفه واستثماره إما بما يخدم مزيدًا من البشر ويرتقي بحياتهم، وإما بما يعيد استعبادهم والمتاجرة بمحتوى عقولهم ووقتهم، وللإنسان وحده حرية الاختيار بين ضفة الفجور ومرفأ التقوى.