لجنة القضاء طوق نجاة لـ"الجولاني"
“تحرير الشام” تطوي ملف “العمالة” إعلاميًا.. محاولة للترميم
عنب بلدي – حسن إبراهيم
شهدت الأيام الماضية عمليات إفراج متتالية من “هيئة تحرير الشام”، صاحبة السيطرة العسكرية في إدلب، عن قياديين في صفوفها كانت اعتقلتهم على خلفية اتهامات بـ”العمالة” مع جهات داخلية وخارجية.
إفراج ترافق مع غض النظر عن عمليات إطلاق رصاص بكثافة فرحًا بخروجهم، وزيارة قائد “الهيئة”، “أبو محمد الجولاني”، لبعض القياديين البارزين، تبعتها كلمة للأخير تحدث فيها عن أن ما حصل من تجاوزات خلال التحقيق داخل السجون هو “جريمة بحق الإخوة”، حسب وصفه.
أربك ملف “الاختراق والعمالة” حسابات “الهيئة”، وزج بكبار قيادييها في السجون، تخللته محاولة لتطويق القضية إعلاميًا وأمنيًا عبر بيانات وسلسلة اعتقالات وإفراجات وتوضيحات من “تحرير الشام” وقائدها وإعلامها الرديف.
هذه المحاولات لتطويق الملف وإنهائه تصطدم اليوم بمطالب شرعيين ودعاة مستقلين عن “الهيئة” بإنشاء لجنة قضائية، تشرف على ملف “العمالة” وتحقق في خباياه، معيدين فتح باب التشكيك بما يحصل، ومحذرين من خطر أدهى وأمر.
إفراج ومبالغ مالية
منذ أسبوعين وبشكل شبه يومي، أطلقت “هيئة تحرير الشام” سراح عدد من قيادييها العسكريين، بعد اعتقالهم لفترات زمنية متفاوتة، بتهم “العمالة لجهات خارجية”، والتعاون مع الرجل الثاني في الفصيل والقيادي العراقي المعتقل حتى الآن، ميسر بن علي القحطاني، المعروف بـ”أبو ماريا القحطاني”.
أبرز المفرج عنهم من قبل “الهيئة” هم “أبو عبدو السحاري”، و”أبو مسلم آفس”، و”أبو زيد بانص”، و”وليد أبو زيد”، و”أبو خطاب الحسكاوي”، و”أبو أسامة منير”، و”خطاب الديري”، و”أبو تيم تلحديا”، و”أبو أحمد تلحديا”، و”أبو القعقاع فواز”.
وعلمت عنب بلدي من مصادر عسكرية في “الهيئة” أن قيادة “تحرير الشام” منحت مبالغ لقياديين خرجوا من سجونها، تراوحت بين 2000 و5000 دولار أمريكي، واختلفت تبعًا لمدة السجن وطبيعة منصب القيادي.
ولا تملك المصادر معلومات دقيقة فيما إذا كانت “الهيئة” منحت مبالغ لجميع المعتقلين الذين أفرجت عنهم، على خلفية التحقيق بملف “العمالة”.
ترميم العلاقة
ظهرت علامات التعب والتعذيب على معظم المفرج عنهم، تبعها اعتذار من “الجولاني” وتعهده بمحاسبة كل من ارتكب تجاوزًا بحق المعتقلين، وزيارته لبعض الخيام (المضافات) التي شُيدت لاستقبال المفرج عنهم، كما زار مسؤول الجناح العسكري في “الهيئة”، “أبو الحسن الحموي”، بعضهم.
وترافقت عمليات الإفراج بإطلاق نار كثيف باستخدام أسلحة متنوعة، وصلت في بعض الحالات إلى الإطلاق بمضاد الطيران، دون أي رد فعل من “الهيئة”، رغم أن ذلك ممنوع في مناطق سيطرتها.
الباحث في الجماعات الجهادية عرابي عرابي، قال لعنب بلدي، إن زيارة “أبو محمد الجولاني” لبعض المفرج عنهم متوقعة، وجاءت ليؤكد لهم أنه متابع لحالتهم، وأنه لن يتوانى عن محاسبة المعتدين (الذين اعتدوا على المعتقلين بالضرب والتعذيب)، وأن هناك أخطاء تجري، وسوف يحاسب المخطئين الذين يستخدمون صلاحياتهم للانتقام أو لتفضيل منطقة على أخرى.
ويرى عرابي أن للزيارة بعدًا اجتماعيًا وبعدًا قياديًا، وهي محاولة ترميم العلاقة مع هؤلاء الأشخاص، ومحاولة تهدئتهم لكيلا يأخذوا خطوات تصعيدية تجاه “الهيئة”، وهو ما آتى ثماره، وفق الباحث، لأن المفرج عنهم إلى الآن لم يأتوا بحركة، وربما هناك تهديد مبطن لهم من جهة ما، وهناك طمأنة من “الجولاني” بأنه يتابع الملف، بحسب الباحث.
“الجولاني”: ما حدث جريمة
في 1 من شباط الحالي، نشرت مؤسسة “أمجاد” الإعلامية تفاصيل عن لقاء “الجولاني” مع أعضاء “مجلس الشورى” وحكومة “الإنقاذ” المظلة السياسية لـ”الهيئة”، إذ تحدث فيه عن ملف “العمالة” قائلًا، إنها ليست المحنة الأولى من نوعها، لكن رغم قساوتها ورغم ما جرى فيها من آلام وصعاب فإنها ستمضي.
واعتبر “الجولاني” أن ما جرى خلال التحقيق هو “جريمة في حق هؤلاء الإخوة”، ويجب اتخاذ إجراءات لازمة لإعادة حقوقهم، وذكر أن “الهيئة” أوقفت بعض المتسببين في هذه التجاوزات.
وأضاف أن هناك بعض الإجراءات الخاطئة في التحقيق، وهذا الأمر أوصل المتهمين إلى الإدلاء بمعلومات كاذبة وكثيرة جدًا، معتبرًا أن قضية العمالة فيها “رسائل ربانية كثيرة جدًا” لكل من يعيش في الشمال، وفيها تنبيه للسلطة والأجهزة الأمنية، ويجب التفكير فيها وتمحيصها واستخراج العبر منها.
وتأكدت عنب بلدي من عمليات تعذيب تعرض لها معتقلون في سجون “تحرير الشام”، كما أظهرت تسجيلات مصورة صعوبة حركة للقيادي المفرج عنه “أبو عبدو السحاري، والقيادي “أبو مسلم آفس”، وظهرا غير قادرَين على الوقوف بشكل جيد خلال زيارة “الجولاني” بشكل منفصل لهما.
صراع تيارات
في بداية التحقيق بملف العمالة بعد حزيران 2023، برز صراع بين تيارات داخل الفصيل أحدها “كتلة بنّش” معادٍ للكتلة الثانية “قطاع الشرقية” المقربة من “القحطاني”، وشكلت “الهيئة” لجنة تحقيق بقيادة “أبو عبيدة منظمات”، وهو من الناقمين على “القحطاني”، وفق قياديين ومنشقين عن “تحرير الشام”.
يعتقد الباحث عرابي أن هناك صراعات داخل “هيئة تحرير الشام” أكثرها بروزًا هو بين “كتلة بنّش” (كتلة بارزة داخل “الهيئة”) التي تضغط على الكتل الأخرى، وتستخدم ملف “العمالة” ذريعة لتفكيك مراكز القوى الأخرى، لكي تصبح هي القوة الأبرز التي تتحكم بمفاصل القرار داخل “الهيئة”.
وأضاف عرابي أن هذا الأمر جر وبالًا على “كتلة بنّش”، لأنه أدى إلى انشقاق رمز كبير هو القيادي الثالث في الفصيل، جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور)، وتهديد بعض الجهات الأخرى بالاستقالة بعد أن وصل مسار “العمالة” إليهم.
وأوضح الباحث أن القياديين الذين اعتقلتهم “الهيئة” صحيح أنهم من الصف الثاني والثالث والرابع، لكن خلفهم كتلة كبيرة من عناصر ودعاة وحاضنة مرتبطة بهم، والذين بدورهم صاروا يضغطون بعلاقات واسعة على “الجولاني”، لذلك اضطر في النهاية إلى الخضوع لفكرة الإفراج عنهم، والتأكد من أن كثيرًا من الاعترافات أُخذت بالتعذيب.
“ملف العمالة لم يُغلق نهائيًا، لكن (هيئة تحرير الشام) أغلقته الآن إعلاميًا وأمام الناس وأمام الأشخاص الذين اعتقلتهم، حتى لا تصل الأمور الى مرحلة تفكيك الفصيل”.
عرابي عرابي
باحث في الجماعات الجهادية
ولفت عرابي إلى أن حجم الاختراق الذي أدى إلى اعتقال أكثر من 500 شخص، ربما يشير إلى أنه قد لا تكون هناك عمالة كبيرة، وربما هي ضمن نطاق ضيق بين قياديين يتبادلون معلومات وأدى انتشارها وتناقلها إلى كل هذه الاعتقالات.
شرعيون يطالبون بلجنة قضاء
بعد سلسلة الإفراجات، طالب شرعيون ودعاة وصل عددهم إلى 11 شخصًا، بأن يكون الحكم بقضية “العمالة” عبر لجنة قضائية يترأسها الدكتور إبراهيم شاشو، معتبرين أن ملف “الاختراق والعمالة أشد نازلة طالت الثورة”.
ودعوا في بيان مشترك إلى أن يترأس إبراهيم شاشو اللجنة لأنه محل ثقة وقبول من جميع الأطراف، وهو أحد القضاة الكبار في الشمال، ويثق به عموم الناس، وأن يكون لهذه اللجنة كامل الصلاحيات بلا أي مراجعة أو توجيه أو ضغط، ويكون حكمها قطعيًا غير قابل للاستئناف بحال، وينفذ فور صدوره، فما حكمت به اللجنة يكون محل ثقة وقبول من الجميع سواء حكمت بإدانة أو تبرئة، وفق البيان.
الباحث عرابي قال لعنب بلدي، إن لبيان الشرعيين ناحيتين، الأولى أن هؤلاء الشرعيين يذكّرون بخلفية “الهيئة” على أنها أيديولوجية، ويجب أن تستمر باستمداد شرعيتها من هذه الخلفية التي تأسست عليها، وأنه لا يمكن التضحية بمشروع من أجل “أشخاص”، لذلك لا بد من الاحتكام للمرجعية الأساسية حتى لا تتفكك “تحرير الشام”، وفق تصورهم.
الناحية الثانية للبيان، هي أنه يقدم طوق نجاة لـ”الجولاني” ولكثير من القيادات، لأن الموضوع سيستغرق أشهرًا وربما سنوات، وأن التوافق على تشكيل لجنة ومتابعة القضية يعلم المشايخ أنه يستغرق وقتًا طويلًا، وفي هذا الوقت لا أحد يدري ما الظروف التي تستجد، وبعد ذلك يُنسى الموضوع أو يُطوى بطريقة ما، أو يتم التوافق على حله، وفق عرابي.
“بيان الشرعيين بإقامة لجنة للتحقيق بملف العمالة ضمن صفوف (تحرير الشام) هو مبادرة لإعادة رأب الصدع، وإيقاف نزيف الاعتقالات ونزيف التفكك الذي تبدو عليه (الهيئة) في الظاهر”.
عرابي عرابي
باحث في الجماعات الجهادية
ولفت الباحث إلى أن “الجولاني” لم يتلقف طوق النجاة بعد، لكنه سيعمل على هذا الاقتراح، وعلى الأقل ترويجه ونشره في وسائل التواصل هو من مصلحة “الهيئة”.
ويستبعد عرابي حدوث احتكاك أو صدام بين “الهيئة” والشرعيين، لأن الشرعي سواء في “الهيئة” أو خارجها ليس بالقوة المعهودة عسكريًا (لم تعد خلفه كتلة من المهاجرين يدينون بأمره)، وليس بالمناكف الأيديولوجي (ليست لديه شعبية واسعة في الأوساط بالشمال).
حديث عن اقتراب خروج “القحطاني”
انتقد الشرعي المستقيل من “هيئة تحرير الشام” يحيى الفرغلي (أبو الفتح) طريقة التعامل مع القضية، وشكّك بالإجراءات، مطالبًا بمحاكمة القيادي المعتقل “أبو ماريا القحطاني”، خاصة بعد حديث عن إمكانية الإفراج عنه.
وقال الفرغلي (شرعي مصري يقيم شمالي سوريا)، “أشهد الله وأشهد الناس أن هذا الرجل (في إشارة إلى أبي ماريا) لا أشك لحظة في عمالته لأعداء الدين التحالف أو الأمريكيين”، مضيفًا أن لديه من الأدلة الموثقة الكثير ما لا يجعل أحدًا يشك لحظة، وطالب في حال الإفراج عن “القحطاني” بأن يعرض الأدلة على القضاء.
الفرغلي وصف “القحطاني” بأنه “من أشر وأقذر العملاء الذين اخترقوا المسلمين في السنوات الأخيرة”.
الباحث في مؤسسة “كور غلوبال” والمختص في الشأن السوري عروة عجوب، قال إن مصادر من “تحرير الشام” أرسلت “أبو ماريا القحطاني” إلى المستشفى لتلقي العلاج قبل إطلاق سراحه المحتمل، إذ لم تجد الجماعة أي دليل يدينه.
ومن المرجح، وفق عجوب، أن يكون السبب وراء ذلك الصراعات على السلطة بين الفصائل المختلفة ضمن الدوائر الداخلية لـ”هيئة تحرير الشام”، إذ تم إطلاق سراح عديد من شركائه الذين اعتقلوا مؤخرًا، وبدأت بالفعل حملة قمع ضد الكتلة الجديدة.
تواصلت عنب بلدي مع المكتب الإعلامي في “تحرير الشام” لمعرفة صحة نقل “القحطاني” إلى المستشفى، أو اقتراب الإفراج عنه (معتقل في سجن “تحرير الشام” بسبب تواصلاته مع جهات داخلية وخارجية منذ آب 2023)، لكنها لم تتلقَ ردًا حتى لحظة نشر هذا التقرير.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :