نشرت “رابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا”، صورًا ألتقطت بواسطة الأقمار الصناعية، كشف فيها عن عمليات تجريف وتسوية في موقع لمقبرة جماعية بالقرب من مدينة القطيفة في محافظة ريف دمشق، في 30 كانون الثاني 2024.
وتقع المقبرة على بعد حوالي 45 كيلومترًا شمال العاصمة، بالقرب من قيادة الفرقة الثالثة في جيش النظام السوري.
وأظهرت الصور التي يعود تاريخها إلى أوائل عام 2023، أعمال حفر واسعة النطاق وتسوية للأرض مع انقلاب التربة في الموقع، ويتبين أن عمليات التجريف بدأت نهاية صيف عام 2022، وانتهت في كانون الثاني 2023.
يرجح أن آلاف المعتقلين السياسيين الذي أعدموا أو ماتوا تحت التعذيب في مراكز الاحتجاز موجودة جثثهم تحت المنطقة التي جرى تجريفها.
إفلات من العقاب
ويعتقد محامون وناشطون حقوقيون أن السبب وراء عمليات التجريف هو محاولة من النظام السوري لطمس الأدلة، حول ارتكابه مجازر بحق المعتقلين والمختفين قسرًا، خلال القعد الماضي، حيث إن الموقع لم يعد مرئيًا أو ظاهرًا في صور الأقمار الصناعية، بعد عملية التجريف الأخيرة.
تحدثت عنب بلدي مع المحامي والمختص بالقانون الدولي، محمد قانصو، لمعرفة الأسباب التي تدفع النظام السوري لتجريف المقبرة الجماعية، وقال، إن تدمير المقابر يساعد النظام على نفي وجودها أو وجود مجازر جماعية، في حال صدر قرار من أي محكمة أوروبية، أو محكمة العدل الدولية، أو قرار من الأمم المتحدة بإدخال لجنة تقصي حقائق.
وأضاف قانصو، أن النظام لا يمكنه طمس الأدلة، وعمليات التجريف والحفر لن تفيده، لأن الأقمار الصناعية حددت مكان المقابر الجماعية، ومن المسؤول عنها.
ومنذ بداية اطلاق الرصاص على المتظاهرين، اعتبر الأسد، مرتكب جرائم ضد الإنسانية، كما يوصف بالقانون الدولي، لاستخدامه السلاح وقصف المدن وقتل الأطفال.
والدول مثل أمريكا، وروسيا، وإسرائيل، لديها كافة المعلومات حول هذا، ومحكمة العدل الدولية كذلك الأمر، تملك وثائق المقابر الجماعية والمعتقلين، لكن لا يعلن عنها والدليل على ذلك مجزرة “التضامن”.
لذا يمكن التكتم عنها في حال حصلت صفقة دولية لإخراج بشار الأسد دون محاسبة، فطمس الأدلة المادية لأي فعل جنائي تساعد المجرم أو المتهم بنفي الجريمة ذاتها وبالتالي الإفلات من العقاب.
المقابر الجماعية
منذ بداية الثورة السورية في منتصف آذار 2011، بدأ النظام السوري بحملات اعتقال تعسفية لرجال ونساء وحتى أطفال، تحت تهم مرتبطة بالإرهاب، لمشاركتهم بالحراك السلمي.
وتتفاوت أعداد المعتقلين داخل سجون النظام، إذ لا يوجد عدد حقيقي تمامًا، وجميع الأرقام الصادرة عن جهات حقوقية، تعود لأشخاص استطاعت الجهة الحصول على معلومات عنهم.
وبحسب أحدث إحصائية لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، يوجد ما لا يقل عن 112 ألف مختف قسريًا، بينهم 6698 امرأة و3105 أطفال في مختلف سجون أطراف النزاع والقوى المسيطرة داخل سوريا، 85% منهم مغيبون داخل سجون النظام.
وفي تحقيق نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، بالتعاون مع “رابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا”، استطاعت من خلال شهود، تحديد موقع مقبرتين جماعيتين، يتوقع أنهما تحويان آلاف الجثث لسوريين تعرضوا للاعتقال.
وكشف أحد الشهود الذي كان يعمل قبل الثورة بدفن المدنيين، ولاحقًا جنده ضباط المخابرات للتخلص من الجثث القادمة من مراكز الاحتجاز، واستمر بهذا العمل لمدة ست سنوات، أن أول مقبرة عمل فيها منذ منتصف 2011 حتى أوائل 2013، كانت متواجدة في بلدة نجها جنوب دمشق.
وفي أوائل عام 2013، أنشأت الحكومة مقبرة جماعية جديدة بالقرب من قاعدة للجيش السوري في بلدة القطيفة شمال دمشق، حسب أقواله.
وأضاف أنه في بعض الأوقات خلال السنوات الست التي عمل فيها في المقابر الجماعية، كان فريقه يفرغ شاحنتين حوالي مرتين في الأسبوع، تحمل كل منهما ما بين 150 إلى 600 جثة.
وقال مؤسس “رابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا”، دياب سرية، في حديث سابق لعنب بلدي، إن الرابطة لديها معلومات حول خمس مقابر جماعية لم يذكر منها التقرير سوى اثنتين، لعدم كفاية المعلومات والأدلة حول المقابر الثلاثة الأخرى.
وأوضح أن الكشف عن المقابر دون توفر الأدلة الكافية، يمكن أن يدفع النظام السوري لنقل المقابر من مواقعها قبل توثيقها بشكل كامل.
شهود عيان
بدأت تظهر في السنوات الأخيرة شهادات لأشخاص جندهم النظام السوري بغرض توثيق الوفيات داخل سجونه، أو شاركوا بعملية دفنهم.
واستطاع “قيصر”، وهو اسم مستعار لأحد عناصر الأمن العسكري، تسريب صور لجثث معتقلين قتلوا تحت التعذيب في المشفى العسكري، بعد أن انشق عن النظام سنة 2013، إذ كان مكلفًا بتصوير الجثث لحفظ الصور في ملفاتهم.
ونشرت أكثر من 50 ألف صورة على العلن عام 2014، تمكن من خلالها أهالي الضحايا من معرفة مصير ذويهم ممن كانوا مغيبين، والبعض الأخر لم يتمكن من تمييزها لتشوهها بفعل التعذيب.
رد الأسد على الصور التي عرضت أمامه خلال مقابلة مع موقع “ياهو نيوز” الأمريكي، نشرتها “رئاسة الجمهورية”، في 2 شباط 2017، كان بالإنكار والسؤال عن “من تحقق من تلك الصور وتأكد أنها ليست معدلة على الفوتوشوب أو برامج أخرى”.
“حفار القبور“، هو اسم رمزي يستخدمه شاهد عمل في المقابر الجماعية التابعة للنظام السوري، بسبب التهديدات المستمرة ضده وعائلته.
وظهر الشاهد خلال مقابلة لأول مرة على شبكة “CBS NEW” الأمريكية، في 29 من آذار الماضي، ليتحدث حول الغزو الروسي لأوكرانيا ومخاوفه من تكرار ما حدث في سوريا.
وخلال الشهر نفسه، تحدث الشاهد إلى اللجان في “الكونجرس” الأمريكي عن الجرائم البشعة في سوريا، بما في ذلك إلقاء آلاف الجثث في مقابر جماعية.
وأدلى “حفار القبور” بشهادته أمام مجلس الشيوخ الأمريكي حول استمرار حفر المقابر الجماعية في سوريا على يد النظام السوري، في 8 حزيران 2022.
شدد مؤسس الرابطة في نفس التقرير، الذي تضمن عمليات تجريف المقبرة، على ضرورة اتخاذ المجتمع الدولي إجراءات ملموسة لمعالجة الأزمة المستمرة التي تواجهها العائلات، التي تفتقر إلى أي معلومات حول مصير أحبائها، والمساءلة في بلد يعاني من واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.
وأضاف، وحتى الآن، لم يتم تقديم أي مسؤول سوري رفيع المستوى إلى العدالة لتورطه في جرائم سابقة ومستمرة ضد الإنسانية.
واستهدفت المحاكمات التي أجريت بموجب مبادئ الولاية القضائية العالمية بشكل رئيسي مسؤولي المخابرات السابقين، وعناصر الشبيحة، وأفراد الدفاع الوطني، وفي الوقت نفسه، لا يزال العديد من مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية يشغلون مناصب رفيعة في سوريا، ويتلقون الترقيات.