علي عيد
تثير مسألة دفع بدلات للظهور على الشاشات أو تقديم الشهادة أو المشورة أو الرأي المتخصص في الإعلام جدلًا واسعًا في الوسط الصحفي، كما ثارت في السنوات القليلة الماضية بعض المشكلات بين ضيوف ووسائل إعلام على مسألة التعويض، وأخص الوسط الإعلامي الناطق بالعربية ومنه السوري خصوصًا.
هناك شهود وضيوف برامج أو نشرات أخبار وتقارير وتحقيقات، باتوا يتطلعون إلى عوائد مشاركاتهم مع وسائل الإعلام، وهناك من يسأل الصحفيين سلفًا ما إذا كان سيحصل على تعويض مالي، وأبعد من ذلك يصرح بعضهم بأنهم غير مهتمين بمن لا يدفع.
ما يثير اللغط في قضية الدفع للشهود والضيوف، هو عدم وجود قواعد عامة موحدة، رغم شبه إجماع على خطر تضارب المصالح أو تشويه الحقائق من وراء الدفع للشهود أو الضيوف.
وتتبنى بعض المؤسسات قواعد صرف خاصة، وغالبًا ما تخضع مسألة الدفع للشهود والضيوف في الإعلام العربي لسياسات غير مدروسة، أو غير متوائمة مع القواعد الأخلاقية للإعلام المستقل والمسؤول، وهو ما قد يتسبب في إفساد المصداقية، أو إضعافها، إذا ما تعلق الأمر بالكشف عن قضايا تهمّ الشأن العام، أو مسائل جرمية أخلاقية أو مالية، أو غيرها من المواضيع التي تتسابق وسائل الإعلام للكشف عن تفاصيلها، وقد يغريها هذا السبق إلى شراء الشهود أو ما يملكون من وثائق أو أوراق.
تشير ورقة استشارية نُشرت عام 2002 صادرة عن مؤسسة “PressWise”، وهي منظمة بريطانية غير ربحية، حول “مدفوعات وسائل الإعلام للشهود” (Media payments to witnesses)، أنه إذا كانت المعلومات في المصلحة العامة، فلا ينبغي أن يكون لها ثمن.
وتعتبر الورقة أن صحافة دفتر الشيكات على بياض (cheque-book journalism) في القضايا الجنائية، يسيء إلى حرية الصحافة، على اعتبار أنه أداة تسويقية للحصول على ميزة تنافسية تتعارض مع مدونة قواعد السلوك الخاصة بالاتحاد الوطني للإعلام (NUJ) في المملكة المتحدة وأيرلندا.
وترى ورقة “PressWise” أن تقديم حوافز للشهود في القضايا الجنائية يعرض مسار العدالة للخطر، وأنه بمنزلة الرشوة، فالمبلغون الحقيقيون عن المخالفات لا يقدمون معلومات لتحقيق مكاسب مالية، لأن ذلك يحول الأدلة إلى سلعة تباع لمن يدفع أعلى سعر.
وأبعد من ذلك تعتبر الورقة أن تسديد المبالغ للشهود، جريمة جنائية كأي تدخل آخر في المحاكمة.
وتشير “PressWise” إلى أن الدفع حتى لضحايا الجرائم أو الكوارث، أو أقاربهم، للحصول على “حصري” قد يكون مكروهًا، فحرية الصحافة مسؤولية يمارسها الصحفيون نيابة عن الجمهور، للبحث ونشر المعلومات ذات الصلة المباشرة بحياة الناس التي قد تظل مخفية عن المجال العام.
قد ينطبق ما تشير إليه تلك الورقة على نماذج أخرى من الدفع، فمهمة الصحافة لا تقف عند القضايا الجنائية، بل تشمل جميع مجالات الحياة والشأن العام، والأحداث، وحتى الشأن الخاص عندما يتعلق الأمر بشخصيات معروفة ولها دور في الحياة العامة، سواء كانت الشخصية سياسية او اقتصادية أو حتى فنية.
من جهة ثانية، يبدو الظهور على وسائل الإعلام مرهونًا، إضافة إلى خدمة الشأن العام، بمسألة الظهور وكسب الشهرة، وكذلك في الترويج لمشاريع معينة تحت لافتة إبداء الرأي أو تقديم الخبرة والمشورة، وهناك من المتخصصين من لا يتطلعون إلى المال بل إلى توزيع ونشر المعرفة، أو الدفاع عن قضاياهم سواء كانت محقة أم لا.
وثمة شكل آخر للظهور، وهو تفسير الموقف، وهو ما يتخصص به المكلفون كناطقين باسم حكومات أو أحزاب أو منظمات أو شركات.
تقول مجلة “سليت” (SLATE) الأمريكية المتخصصة بمكافحة التضليل الإعلامي، في مقال معنون بـ”اتبع المال” (Follow the Money)، إن الدفع يتم للمشاركين في البرامج الترفيهية الأمريكية، أما البرامج الإخبارية فلا يجري الدفع فيها، لأن ذلك يشبه الدفع للمصادر، وهو غير أخلاقي.
ويستثنى الضيوف الدائمون المنتظمون في البرامج الإخبارية، بينما يحصل المشاركون بجميع البرامج في بريطانيا على شيء ما من التعويضات المالية.
هل يتلقى رئيس بلدية المال عن ظهوره التلفزيوني أو حديثه للصحافة، خلال كارثة تضرب بلدته؟ وهل يحق له أو للقناة أو الصحيفة تقديم المال؟ هو سؤال مشروع، لكن الإجابة عنه بعدم جواز الدفع يجب ألا ترقى للشك.
لا يمكن لمن يعمل في الشأن العام أن يطلب المال عن شهادة أو مقابلة في صلب اختصاصه، لأن ما يقدمه من معلومات هو من واجباته أمام الجمهور بالأصل.
قد تختلف الحال عندما نطلب من متخصص تقديم رأي أو استشارة مكتوبة او مصورة، في مادة وثائقية وهو غير مضطر لذلك، ويعود الأمر هنا إلى قواعد الصرف في الوسيلة الإعلامية، وتقديراتها، كما يرتبط الأمر بطبيعة البرامج، فكثير منها تنتجه شركات خاصة وتبيعه لوسائل الإعلام.
يناكف بعض الصحفيين في الغرب بالقول، إذا كان المال موجودًا فما المانع من إعطاء الشهود من ضحايا الكوارث أو الحروب عندما يكون المال متوفرًا، لأن تقديم 50 دولارًا لأحد الشهود مقابل قضائه ساعات منتظرًا لتقديم شهادته قد يشكل فارقًا لديه، وقد يشتري بهذا المبلغ طعامًا يكفيه ويكفي أطفاله مدة أسبوع، وتلك مناكفة مشروعة في الظروف غير الاعتيادية.
سألت أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي عما إذا كان الدفع لمصادر المعلومات أخلاقيًا، فأجاب بأنه يتعارض مع أخلاقيات الصحافة، لكن لكل مؤسسة سياساتها، وحول عدم أخلاقية هذا السلوك، ذكر أنه يتسبب في تضارب المصالح المحتمل للصحفيين والمؤسسات الإخبارية في جوانب منها:
التحيز في الإبلاغ: عندما يدفع المراسل للمصدر للحصول على المعلومات، قد يكون المصدر متحمسًا لتقديم معلومات تتماشى مع توقعات أو رغبات المراسل، بدلًا من تقديم سرد موضوعي للحقائق. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحيز في الإبلاغ ويعرض دقته ونزاهته للخطر.
معلومات غير دقيقة أو خاطئة: قد يؤدي الدفع للمصادر إلى تحفيزهم على تقديم معلومات خاطئة أو مبالغ فيها من أجل تلقي الدفع. يمكن أن يؤدي ذلك إلى نشر معلومات غير دقيقة أو غير موثوقة، ما يقوض مصداقية المؤسسة الإخبارية ويمكن أن يضلل الجمهور.
التلاعب والاستغلال: يمكن أن يتسبب الدفع للمصادر بتلاعب المصدر بالمعلومات أو حجب التفاصيل الحاسمة من أجل تعظيم مكاسبه المالية. يمكن أن يؤدي ذلك إلى استخدام الصحفي كأداة للمصالح الشخصية أو الخاصة، ما يضر بنزاهة التقارير.
فقدان الاستقلال: من المتوقع أن يحافظ الصحفيون على الاستقلال، ويمكن أن يؤدي الدفع إلى تآكل هذا الاستقلال وخلق تصور بأن المصدر يسيطر على المراسل للدفع مقابل المعلومات.
تآكل الثقة العامة: إن الدفع للمصادر يقوض ثقة الجمهور في وسائل الإعلام الإخبارية. إذا أصبح من المعروف أن منظمة إخبارية تدفع للمصادر، يمكنها أن تثير تساؤلات حول موثوقية وموضوعية تقاريرها. قد يبدأ الجمهور في النظر إلى المنظمة على أنها مدفوعة بالحوافز المالية بدلًا من الالتزام بتقديم أخبار دقيقة ومستقلة.
ويختم التطبيق بخلاصة تقول، للحفاظ على الأخلاقيات والمصداقية الصحفية، تتجنب المؤسسات الإخبارية عمومًا دفع المصادر وتعتمد على وسائل أخرى لجمع المعلومات، مثل البحوث الشاملة والمقابلات والتحقق.
لم أدفع لتطبيق الذكاء الاصطناعي مقابل هذه المعلومات، التي أنا مقتنع بها مهنيًا، بطبيعة الحال.. وللحديث بقية.