“أشار عمي بيد مرتجفة ونحيلة بشكل مبالغ به، إلى أسطح الأبنية متسائلًا عن الصحون المعدنية الكبيرة المنتشرة عليها. كان يقصد بسؤاله (صحن الدش)، فالمشهد الاعتيادي لي ولأبناء جيلي كان محط دهشة رجلٍ غيّبه سجن نظام استبدادي طوال 25 عامًا، لم ير فيها ضوء الشمس، فعليًا لا مجازًا”.
تروي نور بإذن من عمها نضال قصته، وبعد 17 عامًا من خروجه من السجن يفضل اختيار اسم مستعار، وهو الذي اعتقل منذ كان عمره 25 عامًا على أبواب مدينة حماة من قبل الجيش السوري، في شباط عام 1982، وأمضى 25 سنة أخرى داخل المعتقل.
كان نضال يعمل في العاصمة دمشق حين بدأت تتوارد على مسامع السكان أنباء عن “مشاكل كبيرة” في مدينة حماة حيث يعيش أهله، وبسبب اقتصار الاتصالات حينها على الهواتف السلكية وعدم توافرها في جميع البيوت وقطع خطوطها عن المدينة مع بداية المجزرة، اضطر نضال إلى السفر لمدينته للاطمئنان على أهله، لتعتقله قوات الجيش عند مدخل مدينة حماة، وتغيّبه عن أهله 18 عامًا، دون أن يعرف الطرفان أن الآخر ما زال حيًّا يرزق.
وصل نبأ وجود نضال في سجن تدمر إلى أهله عن طريق أحد الأقارب الذي التقاه في السجن عام 2000، بعدما قضى 18 عامًا كاملًا قضاها باعتقال تعسفيّ، لتعلم العائلة بعد ذلك أن ولدها يقبع في سجن تدمر، المعتقل الأكبر في سوريا.
بعد ربع قرن
أكمل نضال 25 عامًا من حياته تحت الأرض، محرومًا من المحاكمة لعدم وجود دعوى أو تهمة في حقه، ورغم اقترابه مرات عديدة من الإعدام، نجى من رصاصات الموت وأساليب الإعدام المختلفة التي كان الضباط يتبعونها بأعجوبة، وفقًا لما تنقله نور عن عمها.
وعام 2007 خرج من المعتقل بعفوٍ شمله وعدد من المعتقلين معه، بعمر يقارب الـ50 عامًا، ويرى الدنيا غير دنيا والعائلة نصف عائلة، بعد أن رحل جزء من أفرادها إما بالمجزرة أو بفعل الزمن، وشبّ وشاب من ما زالوا أحياء، بحسب بوصفه.
الحديث عن تغيب أحد الأعمام كان شبه مستحيل في منزل نور، وأن مفردات كـ “مجزرة حماة” أو الثمانينات” أو حتى كلمة “الأحداث”، مفردات ممنوعة في المنزل، وذلك لأن كبار العائلة ممن شهدوا الإعدامات أمام الملأ، وقصفًا وحشيًا دمر المدينة خلال أيام، تخلله مداهمات وتشويه للأحياء والأموات، لم تسمح بخوض أحاديث فيها أحد تلك الكلمات، واقتصرت معلومات شباب العائلة على اختلاس السمع لأحاديث العائلة الهامسة.
ما قبل المجزرة
تعود الاضطرابات في مدينة حماة إلى عام 1964، أي بعد عام من الانقلاب العسكري على ماكان يُسمى الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة.
انطلقت من المدينة في الستينيات حركة احتجاج بدأت من الثانويات وصولًا إلى الجهاز الديني الذي نادى إلى الجهاد ضد الحزب الحاكم، وجاء الرد من رئيس مجلس الثورة في ذاك الوقت، أمين الحافظ، بقصف جامع السلطان الذي يعتبر خرقًا لأولى المقدسات.
استمر الاضطراب في المدينة بين صعود وهبوط واستمرت المعالجة الأمنية له بالاعتقالات وتغييب المعتقلين حتى الموت أحيانًا، وبالحملات العسكرية التي بدأت عام 1964.
وأسس مروان حديد، وهو شخصية دينية سورية من مدينة حماة تنظيمًا جهاديًا مسلحًا ومستقلًا عن جماعة “الإخوان المسلمين” وعن المجموعات الإسلامية في سوريا تحت اسم “الطليعة المقاتلة“.
وكانت النشرات الداخلية للتنظيم تصدر تحت هذا الاسم حتى عام 1979، حين قرر قائد التنظيم وقتها، عبد الستار الزعيم، تغيير الاسم إلى “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين”، لاعتبارات عدة.
ووفقًا لمقال تحليلي نشره مركز “مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط” بعنوان “الكفاح المسلح لجماعة الإخوان المسلمين”، تحدث فيه عن تبنّي جماعة “الإخوان” أسلوب الصراع المسلّح ضد النظام.
أدّت مساعي حديد طيلة سنوات الستينيات وأوائل السبعينيات إلى نمو مجموعة من المتشدّدين الراديكاليين الذين كانوا يرغبون في دفع جماعة “الإخوان” إلى خوض مواجهة مفتوحة مع النظام.
وبعد اعتقال حديد ووفاته في السجن عام 1976، تعهّدت الخلايا التي تمكن من تدريبها وتوزيعها في جميع أنحاء سوريا، بالانتقام لمقتله وبدأت حملة لاغتيال العديد من كبار ضباط الأمن والسياسيين في النظام.
وتحولت خطط عمليات القتل المستهدف إلى سلسلة من الهجمات الجهادية العشوائية ضد العلويين، الأقلية الحاكمة.
صباح دامٍ
في صباح 16 من حزيران 1979، استيقظت سوريا على مجزرة في مدرسة المدفعية في مدينة حلب، نفذتها جماعة “الطليعة المقاتلة” على أساس طائفي.
وبعد تفكير امتد أسبوعًا كاملًا قررت السلطة الإعلان رسميًا عن الاعتداء معترفة بذلك ولأول مرة بوجود معارضة مسلحة في البلد، وفقًا لما ورد في كتاب “سورية الدولة المتوحشة” للكاتب ميشيل سورا.
وأضاف سورا، أن السلطة قامت بإجراء انتقامي سريع أعدمت فيه 15 معتقلًا متهمًا بالتواطؤ للمخابرات العراقية بعد محاكمات نُقلت جلساتها على التلفزيون، كما عملت على تعبئة الجهاز الديني بأمر بعض شخصياته لقيادة مسيرات “عفوية” للتنديد بما أسموه “جريمة حلب”، وشن حرب بالخطب الدينية ضد “عصابة الإخوان المسلمين”.
وصلت الأزمة ذروتها في 8 من آذار 1980، أي في الذكرى الـ 17 لوصول البعث إلى السلطة، واحتفلت المدن السورية، إلا دمشق، بالإضراب والهتافات المنادية بإسقاط النظام، ما أدى إلى اشتباكات عنيفة مع قوى الأمن.
وبعد ذلك، قرر النظام الحاكم اللجوء إلى ما أسماه “العنف الثوري المسلح للتصدي للعنف الرجعي”، ووقع الاختيار الأول على بلدة جسر الشغور، فجرى قصفها بالطائرات المروحية لتكون عبرة لغيرها من المدن.
تلاها اجتياح حلب، ومجزرة سجن تدمر والتي كانت بذريعة الرد على محاولة اغتيال حافظ الأسد.
تسببت تلك الممارسات في حدوث موجة من القمع البعثي كانت تهدف ليس فقط إلى تدمير “الطليعة المقاتلة” بل إلى إضعاف جماعة “الإخوان المسلمين” أيضًا، وفقًا لما جاء في مقال مركز “مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط“.
بعد أن أنشأت جماعة “الإخوان” فرعها العسكري، جرى الاتفاق في اجتماع لقيادتها عُقد في كانون الأول 1980، على أن تدخل الحركة في شراكة مع قوات تنظيم “الطليعة المقاتلة”.
وقد وفرت هذه العلاقة التي استمرت لمدة سنتين بين القوتين الإسلاميتين ذريعة للرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، لأن يصنف الحركة الإسلامية كلها بأنها “إرهابية”، ويستخدم السلطة والقوة على نطاق غير مسبوق.
عن مجزرة حماة
في مقال نشرته صحيفة “The New York Times” للصحفي توماس فريدمان، أطلق فريدمان مصطلح “قواعد حماة” على العمل الإجرامي الذي ارتكبته قوات نظام حافظ الأسد بقيادة شقيقه رفعت الأسد، ووزير دفاعه مصطفى طلاس، واستمرت 27 يومًا.
وترجم الصحفي المصطلح الذي لخص السياسة التي اتبعها حافظ مع شعبه بما معناه (احكم بالخوف، ازرع الخوف في قلوب شعبك من خلال السماح لهم بمعرفة أنك لا تتبع أي قواعد على الإطلاق، حتى لا يفكروا أبدًا في التمرد عليك”.
تذرعت سلطات النظام آنذاك لاجتياح المدينة عسكريًا، وتدمير نحو ثلث أحيائها بشكل كامل، وارتكاب المجزرة، بأن حماة تشكل المعقل الرئيس لجماعة “الإخوان المسلمون” في سوريا.
في 2 من شباط عام 1982، وبعد حملات المداهمة والاعتقالات ليلًا من قبل عناصر الأمن، بدأت قوات الجيش بحملة قصف استهدفت الأحياء السكنية ضمن المدينة، وطالت 30 مسجدًا فيها.
وشارك في القصف التمهيدي “اللواء 47 دبابات”، و”اللواء 21/ميكا” التابع لـ”الفرقة الثالثة”، و”سرايا الدفاع”، إلى جانب سلاح المدفعية في المطار العسكري وجبل زين العابدين.
وفي 4 من شباط، ارتكبت قوات النظام المجزرة الجماعية الأولى في المدينة، في حي جنوب الملعب قرب مدخل حماة الجنوبي، رغم سيطرة النظام على هذا الحي بالأصل.
وفي 26 من شباط، اقتحمت قوات النظام منازل المدينة، واقتادت نحو ألف و500 شخص إلى أطراف المدينة الجنوبية، وأعدمتهم ميدانيًا، بأمر مباشر من قائد “سرايا الدفاع” حينها، رفعت الأسد.
وأُجبر الأهالي، عقب تتالي المجازر، على الخروج بمسيرة تأييد لحافظ الأسد، في شارع “8 من آذار” وسط المدينة المنكوبة، وهتفوا فيها “بالروح بالدم نفديك يا حافظ”.
وتتضارب الأرقام حول أعداد الضحايا، بينما أكدت “اللجنة السورية لحقوق الإنسان” أن عدد القتلى يتراوح بين 30 و40 ألف شخص.