علي عيد
يكافح الصحفيون للحصول على المعلومة، بينما يكافح من يمتلكون المعلومة لإيصالها إلى الجمهور، ونقصد بمن يملكون المعلومة كل الأفراد والمؤسسات وإدارات العلاقات العامة في مختلف الشؤون.
كلا الطرفين تربطه مصلحة مشتركة، كما يحكمهما عداء مبطّن، يظهر على العلن عند تضارب المصالح، وهذا يتطلب إدارة منظمة وذكية من قبل الطرفين، إذ تقول الصحفية السابقة سوزان كارني، مديرة الاتصالات في مدينة “مك سيتي” بجامعة “ميشيغان” الأمريكية، إن إدارات العلاقات العامة التي تسعى وراء الصحفيين ومن يملكون المعلومات، تسعى للتأكد من أن الصحفيين لم يحصلوا على معلومات لا ينبغي أن يحصلوا عليها، بينما يبحث الصحفيون في “الجانب المظلم”، وهي المساحة التي تحتوي على المعلومات القيمة ويمكن أن تفضح الفساد أو المخالفات في حال وجودها.
في البيئات الصعبة وغير الشفافة، تختلف أولويات الصحفي في بناء علاقاته، بهدف الوصول إلى المعلومة، إذ يمكنه أن يحصل على المعلومة بضمانة القوانين، وحق الوصول في كثير من الدول التي طورت تشريعات تسمح بالولوج إلى قواعد البيانات والميزانيات الخاصة بالمؤسسات، وهذا غير متوفر في الدول التي ينتشر فيها الفساد، أو تعاني فيها دوائر المال وصناعة السياسات تعتيمًا يصعّب مهمة الصحفي، وخصوصًا الاستقصائي.
كنت قبل أيام أتحدث أمام بعض الصحفيين حول حوار دار بيني وبين واحد من كبار الجنرالات في سوريا في بدايات الحراك عام 2011، انخرط هذا الجنرال في العمليات العسكرية لاحقًا، وأصبح معاقبًا دوليًا ومطلوبًا على المستوى القضائي في بعض الدول، وتندّر، وربما استغرب، بعض الحضور أن تربطني علاقة سابقة بشخصية عسكرية، وهو أمر مفهوم، وانشغلت في تبرير طبيعة وحدود العلاقة كمراسل لوسيلة إعلام خارجية بالرجل وغيره من الشخصيات السياسية والاقتصادية والأمنية.
كانت حجتي أن الصحفيين في بلد مثل سوريا، وهي بلد مصنف في ذيل القائمة بتصنيف منظمة الشفافية الدولية، مضطر لاتباع أسلوب هجين (Hybrid style) في العلاقات، إذ لا يمكن أن تحصل على ما تريد من دوائر العلاقات العامة والمكاتب الصحفية إن وجدت، وليست هناك معلومات متاحة في معظم الحالات، وخصوصًا في قطاع الجيش والمخابرات، ما يعني أن عليك أن تتحسس قائمة المعارف في سجل الهاتف، وإذا لم تكن تضم ما يكفي من أسماء صناع القرار في مختلف القطاعات، فستبقى تراوح في نقل ما يريدون منك أن تنقله.
تتراوح علاقات الصحفي بين الخاص والمهني، وهو الأمر الذي يقويه في بعض البيئات بينما يضعفه في بيئات أخرى، ولا يمكن قياس الفائدة إلا بتحليل شفافية تلك البيئات، ولا قياس ما يجب وما لا يجب إلا بتحديد المفيد والمطلوب في الإطار المهني.
لا يحاسب الصحفي، مثله مثل المحامي أو الفلاح أو صانع الأحذية، على علاقاته الخاصة، لكنه يصبح مسؤولًا أمام الجمهور عندما يستثمر هذه العلاقة في عمله، ومسؤولًا أمام أخلاقيات المهنة عندما يستثمر تواصلاته لأغراض خاصة، الصحفي المستقل لا يجب أن يكون طالب سلطة أو مال، ولا يجب أن يحصل على المعلومات بطرق غير مشروعة، ولا أن ينقل معلومات يأتمنه عليها مصدر ما نتيجة علاقة خاصة.
وفي أخلاقيات العمل الصحفي، أنت مطالب دائمًا باتباع قاعدة ألا تنجرّ مع المصادر، وحتى “ألا تكون ودودًا جدًّا معها”، كما تقول بيث واينجارنر في مقال نشرته على موقع شبكة الصحفيين الدوليين JNet)).
إذًا، كيف يمكن للصحفي أن يدير ويبني علاقاته لخدمة المهنة، ذلك السؤال المشكلة، يتطلب فهمًا لمهمة الصحفي، والمخاطر الناتجة عن الغوص في علاقة غير ضرورية مع مصادر خطرة.
على الصحفي أن يضع في اعتباره دومًا أن المعلومة هي ضالّته، وليست العلاقة بذاتها، ولكنه يبني شيئًا فشيئًا قائمة مصادره التي تتطلب تلك العلاقات، ويضع في حسبانه أن لحظة ما ستأتي، وسيكون فيها بحاجة إلى المصدر.
كثير من الصحفيين البارزين غطّوا قضايا بالغة الأهمية والحساسية معتمدين على علاقاتهم الخاصة، وأذكر منهم الصحفي الأمريكي الشهير توماس فريدمان، والصحفي المصري محمد حسنين هيكل، واللبناني غسان تويني، وآخرين، لكن تلك العلاقات لا يجب أن تشفع لأي شخصية عامة عندما ترتكب خطأ ما، كما يجب العمل على قاعدة أن تلك العلاقات لا يجب أن تخلط بين المصلحة العامة والمهمة الصحفية وبين المصالح الشخصية، حتى لو وجد الصحفي نفسه على نفس “اليخت” في نزهة بحرية مع رئيس دولة أو مسؤول رفيع في أجهزة الدولة.
رغم أهمية العلاقة بالمصادر رفيعة المستوى، قد تكون المعلومة عند صانع الشاي في مكتب وزير أو مسؤول، وهذا يعني أننا نبني علاقاتنا كصحفيين دائمًا بناء على تقييمنا لما سنحصل عليه في العمل، وهذا أيضًا لا يجيز لنا استغلال المصادر أو توريطهم فيما لا يرغبون، لكننا نبحث دائمًا عن المعلومة، ونحاصرها من جميع الاتجاهات، وقد لا نستخدمها إذا لم يتوافق هذا الاستخدام مع القواعد المهنية، وقد تفيد فقط في توجيهنا إلى السبيل الصحيح.
نصيحتي للزملاء الصحفيين، حاولوا ما استطعتم تأمين مصادركم من جميع المستويات، وترددوا كثيرًا وشككوا في معلومات أي مسؤول تعرفونه، وافصلوا بين ما هو شخصي وما هو مهني، وتذكروا دائمًا أن كثيرًا من كبار المسؤولين يسعون وراءكم ليس محبة، وإنما محاولة لاستغلالكم أو باعتباركم مصدرًا مهمًّا للمعلومة أيضًا.. وللحديث بقية.