إبراهيم العلوش
اعتقال المفرزة الأمنية قرب مكان اجتماع الضباط الإيرانيين الذين قُتلوا في منطقة المزة بدمشق، يعيد إلى الواجهة قضية الوشاية وكتابة التقارير، التي زرعها نظام الأسد في عناصره ومؤيديه.
فبحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، اعتقلت السلطات السورية رائدًا ونائبه، ومساعدًا أول وموظفًا مدنيًا، يقومون بحماية مبنى في منطقة مزة فيلات، تم الاشتباه بهم بأنهم متورطون بتسريب معلومات تسببت بقتل 12 عنصرًا، منهم أربعة قادة إيرانيين كبار في “الحرس الثوري”، في 20 من كانون الثاني الحالي، حيث تم استهداف القادة مع مساعديهم من قبل طائرات إسرائيلية قصفت المكان وأوقعت خسارة كبيرة في صفوف “الحرس الثوري الإيراني”، هي الأهم بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني والجنرال رضي موسوي، اللذين فجعت إيران بمقتلهما.
اعتقال المفرزة الأمنية، المكلفة بحماية مكان الاجتماع، يشير إلى الاشتباه بتورط عناصر من النظام بتمرير معلومات عن الاجتماع، الذي كان في منتهى السرية، ما يذكر أيضًا بتصفية القيادي في “حزب الله” اللبناني عماد مغنية، في 12 من شباط 2008، الذي استهدف قرب أحد فروع المخابرات السورية بكفرسوسة وسط دمشق، بعدما عجزت المخابرات الدولية عن ملاحقته لما له من أهمية في قيادة “حزب الله” وفي عمليات الهجوم على الجيش الأمريكي، وبعدها على المظليين الفرنسيين في بيروت عام 1982.
الوشاية وكتابة التقارير هي العمود الرئيس في بناء المنظومة الأمنية بنظام الأسد، وهي السكين المسمومة التي تم غرسها في صدر المجتمع السوري من أجل إفساد العلاقات السياسية والاجتماعية بين أفراده، لضمان استمرار هيمنة الأسد الأب، والابن من بعده، على حياة السوريين وعلى مستقبلهم.
تبدأ كتابة التقارير في صفوف العسكريين من لحظة تطوعهم، ويكتب القادة الكبار والعناصر الصغار ببعضهم، وفي المدن توظف أجهزة المخابرات شبكات واسعة من المخبرين في صفوف النقابات والفرق الحزبية وفي الدوائر الرسمية، يتغلغلون في الحياة العامة وبناها الاجتماعية والدينية والسياسية، من أجل الحصول على المعلومات الدقيقة حول تفكير الناس وعن نياتهم.
وليس غريبًا تداول حكايات ونكت عن المخبرين الذين صاروا يملؤون حياة السوريين، ومنها أن أحد قادة فروع الأجهزة الأمنية جاء إلى قرية صغيرة للاجتماع بمخبريها، وبعدما عاد إلى فرع المخابرات وجد أمامه 21 تقريرًا، عندها استعلم من معاونيه عن التقارير باستغراب، قائلًا إنه اجتمع بـ20 مخبرًا فقط فكيف صار العدد 21، رد عليه الضابط بأن مخبرًا جديدًا لم يذهب إلى الاجتماع، ولكنه تجسس على الاجتماع من ثقب الباب وكتب تقريره بكم.
صفّى الأسد عددًا كبيرًا من أكفأ الضباط السوريين عبر تصديق وشايات، واصطناع محاولات انقلاب، أو مؤامرات، ما أنهك الجيش السوري وحوّله عبر الزمن إلى جيش من المخبرين الذين يكتبون ببعضهم من أجل التقرب من القيادة، أو من أجل تجنب شرها المقيت.
آلاف المعتقلين في الثمانينيات والتسعينيات سقطوا ضحايا تهمة “كتم المعلومات”، التي تتسبب بسجن صاحبها أشهرًا أو سنوات طويلة إن لم تجد المخابرات تهمة أخرى تسجنهم بها، وكان عناصر الأمن يتعجبون من المعتقلين، لماذا لم يلتحقوا بسلك الوشاية وكتابة التقارير للحفاظ على “الوطن” وعلى “قائد الوطن المفدى”.
وعندما دخل المحتل الإيراني كانت ميليشياته وميليشيات “حزب الله” تحذّر عناصر جيش النظام من الاقتراب من مواقعهم، بسبب شبهة الخيانة والوشاية ونقل المعلومات للطرف الذي يدفع أكثر، بمن فيهم الروس، أو حتى لأطراف المعارضة العسكرية.
وخلال السنوات التي تلت الثورة صارت الوشاية طريقة لتصفية المنافسين والأعداء، حتى من الأقارب أو من الجيران، وفي مجلس عزاء لأحد الذين قضوا في التعذيب وقف الأب متهجمًا على المخبرين الذين تسببوا باعتقال ابنه وتسببوا بقتله تحت التعذيب دون أن يلوم فرع المخابرات المجاور لبيت العزاء أو قيادة النظام، التي لا يجرؤ على ذكرها.
يعرف القادة الإيرانيون والقادة الروس بأن عناصر نظام الأسد وجنوده متورطون بالفساد وبالخيانة، ولا يصدقونهم أو يأمنون جانبهم ما داموا خانوا وطنهم وسلموه للآخرين من أجل أن يستمروا في الفساد، الذي وصل إلى أخذ ثمن تسريب خبر موت معتقل، أو ثمن تأكيد استمراره على قيد الحياة في سراديب الجحيم الأسدي.
ولا ينسى الإيرانيون أن قاسم سليماني وصل يوم مقتله إلى بغداد على متن طائرة من “أجنحة الشام” المملوكة لعائلة الأسد، ولا يستبعد أحد بأن عناصر من النظام كانوا متورطين في الوشاية بالصيد الثمين لحسابهم الشخصي أو لحسابات سرية تخص قادة النظام أو القادة الروس.
يعيش القادة الإيرانيون والقادة الروس في مساحات مزروعة بالمخبرين الذين تم تأهيلهم عبر عقود من قبل نظام الأسد، وهم مؤهلون للعمل مع كل جهة تدفع لهم بعد انهيار قدرات النظام وضعف مكافآته المدفوعة على التقارير والوشايات.
ليست مصادفة أن يتم اتهام المفرزة الأمنية بالوشاية والتسبب بقتل المجتمعين تحت حمايتها، فصنعة الوشاية تحولت إلى صنعة “بيع معلومات”، وهذه لن توفر أحدًا في سوريا، لا إيران، ولا روسيا، ولا حتى قادة النظام الذين وطّدوا هذه الصناعة، وفي لحظة القرار الدولي بالتخلص من نظام الأسد، لن نستغرب أن يبيع حراس الأسد معلوماتهم عنه لمن يدفع أكثر.