كرنفال الاستثمار في الشمال
غزوان قرنفل
حين توضع العربة أمام الحصان فذلك مسلك لا يبشر بالخير، من حيث إنه يقطع الطريق على كل أمل في إمكانية التحرك للأمام.
هذا تمامًا ما حصل عندما استبدل بشار الأسد بالإصلاح السياسي إصلاحًا إداريًا ليتجنب أداء الاستحقاقات التي توجبها عملية الإصلاح السياسي، والتي تقود عمليًا إلى تفكيك المنظومة الحاكمة، وتغيير بنى وأدوات السلطة بشكل شامل في سوريا، فكان أن تلطى وراء أكذوبة الإصلاح الإداري كمدخل لكل الإصلاحات المزعومة، التي لا يزال يتاجر بها بعد ربع قرن تقريبًا له في الحكم.
وهذا أيضًا ما تفعله اليوم “الحكومة المؤقتة”، عندما أطلقت مؤتمرًا للاستثمار بمناطق شمال غربي سوريا في 17 و18 من كانون الثاني الحالي، زاعمة أنه ورغم وجود بعض التحديات، فإن المنطقة تتوفر فيها بيئة استثمارية تشجع الممولين على تنفيذ مشاريع استثمارية، تنجي المنطقة من حال العطالة والبطالة التي يعانيها قرابة 85% من سكانها.
صحيح أن تلك المناطق تحتاج حقًا إلى كثير من المشاريع الإنتاجية التي تنتشل الناس من البطالة وظروف الحياة العسيرة وتفتح آفاقًا أمام سبل عيشهم، لكن مقتضيات هذا الأمر توجب الاشتغال أولًا بتهيئة البيئة الأمنية والقانونية والإدارية والخدمية المناسبة لفعل ذلك، وليس مجرد مساحات مبنية نسميها مناطق صناعية ونزعم، أو نفترض، أنها يمكن أن تستقطب الاستثمارات والكفاءات.
قبل كل ذلك وبعده، هل “الحكومة المؤقتة” نفسها صاحبة قرار نافذ ضمن الحيز الجغرافي المتواضع المسمى بالمناطق “المحررة”، أم هي مجرد واجهة سياسية متهالكة لمجموعة من النافذين وأمراء الحرب وقادة الميليشيات وهم أصحاب القول الفصل فيها.
هل هناك ارتباط عضوي بين المجالس المحلية المعينة من قادة الميليشيات، والمتحكمة في إقطاعيات صغيرة هنا وهناك، وبين تلك الحكومة، ليكون لها قرار في شؤون تلك المناطق؟ أم أنها تتبع لتلك الميليشيات المتحكمة في تلك المناطق وهي مجرد ملحقية سياسية لها؟
في معرض تقديمه للمؤتمر، قال وزير المالية والاقتصاد في “الحكومة المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، إن هدف المؤتمر هو “الارتقاء بملف الاستثمار في شمال غربي سوريا، وإطلاع المستثمرين على الواقع الحقيقي للمنطقة”.
هل حقًا أطلع الوزير ضيوفه على حقائق الحال كما هي، وهل أخذ هؤلاء المستثمرون علمًا وخبرًا أن في تلك المناطق ثمة “أبو عمشة” يمكن أن يفرض عليهم شراكة بالإكراه، أو إتاوة لا بد من أدائها لينعموا ببيئة عمل آمنة؟ وهل أحيط هؤلاء المستثمرون المأمولون بحقيقة أن ثمة “سيف أبو بكر” المبدع في ابتكار وسائل قتل واختطاف الناشطين المدنيين، وأنه القادر على فرض حماية للمستثمرين وأموالهم مقابل نسبة من أرباحهم، وهل قيل لهؤلاء إن هناك حراسًا للبوابات كـ”أبو علي سجو” يتعين عليهم أن يؤدوا لهم معلومًا محددًا ليتمكنوا من تمرير بضائعهم ومنتجاتهم لتصديرها؟ وإن هناك قطاعًا للطرق يستوفون رسمًا للعبور الآمن!
هل قيل لهؤلاء إنه ليس في مناطق استثماراتهم قضاء قادر على أن يحمي نفسه، فضلًا عن قدرته على حماية حقوق الناس، وإن أي منازعات قانونية في سياق أعمالهم ستكون لها تكاليف مالية كبيرة تؤدى لقادة الميليشيات وأعوانهم في البنى الأمنية، والخاضعين لهم في المؤسسة القضائية، ليتمكنوا من حماية أو تحصيل حقوقهم التي قد تتعرض للضغط أو الابتزاز؟
هل قيل لهؤلاء إنه لا بنوك في تلك المناطق، وإنهم مضطرون لوضع أموالهم في البنوك التركية وإدارة عمليات تحويل معقدة إلى الداخل بالليرة التركية حصرًا، ليتمكنوا من تمويل أنشطتهم الاقتصادية؟ وهل يعلم هؤلاء أن تصدير منتجاتهم سيكون خاضعًا دائمًا وأبدًا للقوانين والتعليمات التركية، التي غالبًا ستخضع فيما يتعلق بتلك المناطق لتقلب السياسات والمواقف؟
هل.. وهل.. وهل، وكثير من الأسئلة وإشارات الاستفهام التي مؤداها الإجابة عن سؤال واحد سيطرحه هذا المستثمر على نفسه بعد جولته واطلاعه على تلك الحقائق، هل حقًا هناك بيئة استثمارية في المناطق “المحررة”، وهل وفرت “الحكومة المؤقتة” طوال عقد من الزمن الشروط أو الحدود الدنيا للبيئة الاستثمارية قبل أن تطلق مؤتمرها الكرنفالي؟
بتقديري، لا يوجد عاقل بين هؤلاء الضيوف سيتمكن من الإجابة بالإيجاب، أو سيقرر المخاطرة بأمواله في تلك المناطق، إلا بعد أن تقرر تلك “الحكومة المؤقتة”، وتدرك أن مكان العربة هو خلف الحصان لا أمامه، وأن إطلاق مؤتمر للاستثمار لا يكفي للضحك على لحى المستثمرين لجلب أموالهم واستثمارها إلى أرض متصحرة من الخدمات والأمان والقوانين، وأن حوكمة أداء الحكومة نفسها وفرض سلطانها بقوة القانون على تلك الجغرافيا وتوفير الخدمات الأساسية شرط لازم، وإن كان غير كافٍ للتأسيس لبيئة آمنة للاستثمار المأمول. عندها يمكن لنا أن نشاهد العربة خلف ذيل الحصان، وعندها أيضًا يمكن لنا افتراض إمكانية البدء بالمسير.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :