تعا تفرج

التشبث بالأرض والدفة والسراج

tag icon ع ع ع

خطيب بدلة

لا يزال صديقي “أبو محسن” مقيمًا في إدلب، على الرغم من المآسي، والنوائب، والكوارث التي حلت به وبالبلاد، متأثرًا، كما أخبرني ذات مرة، بدرس “التشبث بالأرض” الذي درسناه في الثانوية، مرددًا المقطع الشهير من قصيدة توفيق زيَّاد: هنا على صدوركم باقون كالجدار، وفي حلوقكم كقطعة الزجاج، كالصبار.

“أبو محسن” رجل مسخرجي، ضَحَّاك، عندما يحدثني، بـ”واتساب”، وبمجرد ما أرد على اتصاله، ينفلت بالضحك، ويعيد عليّ حكاية بياع البليلة “أبو مسطو” الذي ربح 100 ألف ليرة سورية بـ”اليانصيب”، قبضها من محل أسعد حلاق في ساحة البازار، وركض باتجاه منزله بسرعة البرق، وما إن دخل حتى ألقى النقود على الأرض، وشلح فردة جاروخه العتيقة، وناولها لأمه، وأحنى رأسه أمامها، وقال لها: زلغطي يا أمي واضربيني بفردة الجاروخ على رأسي! وأمه، التي يفترض أن تكون، كما قال أحمد شوقي، مدرسة تعد شعبًا طيب الأعراقِ، شرعت تزغرد، وتضربه على رأسه بفردة الجاروخ بلا شفقة، دون أن تسأله عن السبب، دواليك حتى طلب منها التوقف عن هذين الفعلين، وقال لها: أمرك غريب يا أمي، ما بتحبي تعرفي أشو اللي صار معي؟ قالت: صحيح والله، أشو صار؟ فأفهمها أن نمرة “اليانصيب” التي اشتراها بمئة ليرة، ربحت 200 ألف، ولكنه، ومن شدة الطفر، وقبل أن تصدر نتائج السحب، باع نصفها بـ50 ليرة، فالزلغوطة الآن لأنه ربح 100 ألف بنصف النمرة المتبقية معه، والضرب بالجاروخ على الرأس علامة الندم لأنه لم يحتفظ بالنمرة كلها!

فهمت من كلام صديقي “أبو محسن” أنه الآن نادم، لأنه صدق شعار التشبث بالأرض، ولم يضب كلاكيشه ويرحل عن هذه البلاد البائسة، وعندما سألته عن الأسباب، انفلت بالكلام مثل جلمود الصخر الذي حطه السيلُ من عَلِ، متحدثًا عن الأغاني التي كان يعشقها، ويقشعر بدنه من النشوة حينما يرددها، واليوم يراها غبية، مثل: الله محيي شوارعك يا بلادنا المعمورة، ويضحك باستهزاء ويقول: لو قال المطرب يا بلادنا المهدمة، المطربشة، الآيلة للسقوط، لكان كلامه صحيحًا، ووالله لا شيء يقهرني، كذلك، غير الذي يكتب اسم بلاده على الشمس اللي ما بتغيب.

قلت له: ولكنها أغنية جميلة، وأنا شخصيًا لا أتمالك نفسي عندما أستمع إليها، فتراني أغنيها مع مطربها. قال: هذا لأنك لم تكن غبيًا، مثلي، شمعت الخيط، وذهبت إلى بلاد الألمان “المعمورة”. اسمع هذه النهفة: البارحة، كنت أشوف فيديو، فيه أشخاص هاربون من القصف بالبراميل، وحينما يجدون مأوى مؤقتًا، تنطلق حناجرهم بالغناء “بكتب اسمك”، فانتابني شعوران متناقضان، وصرت أتساءل: لماذا يكتب هؤلاء المناحيس اسم بلادهم على الشمس، ويفدونها بمالهم وأولادهم؟ أليست بلادهم هي نفسها التي هدمت منازلهم، وشردتهم؟ يا أخي، أنا أبوس أيديكم، واحدًا واحدًا، اسمعوني، وافهموا كلامي:

أعطونا بلادًا آمنة، أو اتركونا نبني بلادًا محترمة، تؤوينا، وتدافع عنا، وتحترم إنسانيتنا، وتتركنا نموت ونحن مطمئنون على مستقبل أولادنا، ووقتها سنغني لتلك البلاد، ونفديها بأرواحنا. أما أن نموت ونتشرد إكرامًا لفلان وعلان، فهذا أمر معيب، وحقير.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة