غزوان قرنفل
عندما يرد اسم “مصر” في القرآن الكريم خمس مرات بمواطن مختلفة فذلك ليس تكريمًا من الله لها فحسب، وإنما إرشاد للبشر الذين يفقدون أمانهم وطمأنينة نفوسهم، أن مصر هي الوجهة والملاذ. لذلك فلا ينتابني أي شك أن السوريين، وكل اللاجئين والمقيمين من غير السوريين أيضًا، هم في مصر بين أهلهم وهم في أمان الله وحفظه أولًا، وفي رحاب شعب طيب وكريم، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما بعض الأصوات التي علا زعيقها على بعض المنابر والمنصات، والتي تطالب بترحيل السوريين، بزعم أنهم صاروا عبئًا على مصر واقتصادها ومواردها، أو لمجرد أن بعضهم ربما ارتكب جرائم أو خالف القانون أو تفوه بعبارات أو تصريحات وضيعة تسيء لمصر وشعبها، فهو ليس مسوغًا أبدًا لإطلاق تلك الحملة، التي لا تتسم بالبراءة لا في مضمونها ولا في توقيتها، ومع ذلك فإن تلك الأصوات القليلة لا تعبر بحال من الأحوال عن عموم المصريين، ولا حتى عن نهج أو سياسة حكومية معتمدة تجاه هذا الأمر، حتى الآن على الأقل.
قد يكون ثمة وجاهة في بعض الآراء المتعلقة بأوضاع مصر الاقتصادية غير المستجدة، والتي لا تستطيع معها الاستمرار في تحمل عبء اللاجئين بنفس الوتيرة والآلية، خصوصًا أن ليس كل هؤلاء اللاجئين يقدمون إضافة لهذا الاقتصاد، ما يجعلها تحتاج فعلًا إلى برنامج دولي لدعم وتمويل قضية خدمة اللاجئين وإيوائهم، أسوة بدول المنطقة التي تحمل عبئًا مشابهًا، وأعتقد أن إجراءات الحكومة المصرية التي صدرت بشأن قوننة أوضاع المقيمين في مصر وتنظيم وجودهم تدخل في هذا السياق، ويمكن تفهمها بوصفها إجراءات متبعة في مختلف دول العالم، وهي لا تتعلق بالسوريين وحدهم بل بكل المقيمين على أراضي الدولة، ودون أن تشمل أولئك المقيدين لدى مفوضية شؤون اللاجئين، وهذا ما يجعل الأمر تنظيميًا محضًا في ظل الجغرافيا المشتعلة المحيطة بمصر، وعلى السوريين تحديدًا واجب التعاون والامتثال ودعم تلك الإجراءات، لكونها تخدم وجودهم على المدى البعيد.
في هذا السياق على السوريين أن يعوا مسألة مهمة وهي أنه يتعين عليهم التعايش في مجتمعات جديدة ربما لا يتجانسون معها بالكلية، وربما يختلفون في طباعهم ومسالكهم عن مضيفيهم، لكن في جميع الأحوال يقع على عاتق الوافدين إلى تلك المجتمعات فهم وتفهم أفكار وثقافات ومفاهيم تلك المجتمعات والامتثال لها ولقوانين البلد المضيف، مهما كانت وجهة نظر الوافد أو اللاجىء فيها، فليست مهمتك هنا أن تغير تلك العادات والمفاهيم، بل وليس عليك أيضًا أن تحاول فرض أفكارك وسلوكك ومفاهيمك على المجتمع المضيف، وليس عليك أن تنقل “سوريتك” إلى هذه المجتمعات وتفرضها عليها، سلوكك وحده وطريقة تعاطيك مع الآخر واحترامك لهذا الآخر ولثقافته ومفاهيمه وامتثالك لقانون بلده هو ما يجعل منك ربما قدوة تجعلك تفتخر حينها بسوريتك.
لا أحاول في هذه السطور إبراء ذمة أولئك الذين أطلقوا تلك الحملة المسعورة عبر منصات التواصل الاجتماعي على السوريين، والتحريض عليهم والمطالبة بترحيلهم، رغم أن بعضهم يفعل ذلك بسبب أوضاعه المأزومة التي يرى في وجود هذا العدد من اللاجئين أحد أسبابها، لكن من المهم عدم التعاطي معهم بردود الفعل والخطاب المتشنج، بل بالتأكيد على إيجابيتك عبر السلوك الحسن وتقديم الأفضل، وحسن التعامل مع الآخر والامتثال لقوانين البلد المضيف حتى تفوّت على مثل هؤلاء أي فرصة للنيل منك ومن وجودك، فقد علمتنا التجارب في العديد من الدول أن احترام القوانين وعادات الناس وثقافاتهم ومفاهيمهم شرط لازم وضروري لتكون في مأمن من تقلبات الأحوال وامتحان الأهوال.
هناك بكل أسف سوريون موتورون يردون على تلك الحملة بخطاب أسوأ منها، فيمنحون مسوغات إضافية وقوة دفع لمروجي تلك الحملات، والغريب أن هؤلاء السوريين الجهلة الموتورين من المقيمين في أوروبا يحاولون تسجيل المواقف الاستعراضية من خلال المتاجرة بأهلهم السوريين في مصر، عندما يتشدقون بالمطالبة بـ”حقوق” سياسية للسوريين، أو بمنطقة خاصة بهم تتمتع بحكم ذاتي وكأن مصر دولة مستباحة. واللافت أكثر أن هؤلاء أنفسهم كانوا قد خرسوا وأغلقوا صفحاتهم وأبواقهم، ولم يجرؤ منهم أحد على نصرة المدنيين في غزة ولو بكلمة، لأن مثل هذا الموقف قد يكون مكلفًا لهم وربما يهدد وجودهم في تلك الدول.
عندما ضاقت سبل الحياة والعيش الآمن على عبد الرحمن الكواكبي في حلب وهو يقارع الاستبداد، كانت مصر ملاذه ووجهته، فمصر أكبر وأرقى من تلك الترهات، وشعبها أكثر نبلًا من أن يجبر السوريين، ومعظمهم هارب من الاضطهاد والقتل المجاني، على مغادرة بلده، وهو أكثر ذكاء من أن يستجيب لهذا السعار العارض، وسيبقى فضل المصريين دينًا في رقاب السوريين إلى يوم الدين، فادخلوها بسلام آمنين.