عنب بلدي – وفاء عبيدو
في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية المتردية التي تعيشها مناطق سيطرة النظام، باتت الملابس المستعملة (البالة) بديلًا عن الملابس الجديدة للمواطن السوري، ففُتحت لها أسواق ودكاكين في مناطق مختلفة منها العاصمة دمشق.
ورغم التضييق عليها من قبل الحكومة، فإن تجارة “البالة” باتت رائجة أكثر من ذي قبل، ويعمد التجار إلى تهريبها مستندين إلى دعم أشخاص نافذين في الجيش.
وتشكل “البالة” اليوم منفذًا لا غنى عنه لكثير من العوائل والأشخاص، لكونها تقدم سلعة رخيصة وعالية الجودة مقارنة بالمنتج المحلي، كما أنها تتوافق مع قدرات المستهلك المالية من جهة، وتحقق عوائد مجزية للتجار والباعة من الجهة المقابلة.
طرق غير شرعية
أيهم تاجر وصاحب محل ألبسة مستعملة في دمشق، أوضح لعنب بلدي أن “البالة” تنتقل إلى سوريا بطرق غير شرعية، حيث تدخل من لبنان إلى سوريا عبر منافذ حدودية غير رسمية، منها وادي خالد شمالي لبنان إلى ريف حمص أو من مدينة الهرمل اللبنانية، أو عبر الحدود الرسمية مع لبنان ولكنها تصل تهريبًا بـ”الرشوة”.
يشرف على هذه العمليات والطرقات ضباط سوريون تربطهم مصالح اقتصادية مع التجار المستوردين لـ”البالة”، بحسب التاجر.
“المكسب أضعاف مضاعفة بس بدك حدا بضهرك”، قال أيهم، مشيرًا إلى حجم المنفعة الاقتصادية التي تحققها هذه التجارة في حال وجود داعم.
يتراوح وزن “الرصة” (المصطلح الذي يطلقه التجار على مجموعة الملابس)، بين 60 و65 كيلوغرامًا.
ويبلغ سعرها نحو مليون و800 ألف ليرة سورية (نحو 125 دولارًا أمريكيًا)، من نوع “كريم” أي نوع أول، كما يتراوح عدد القطع بين 240 و270 قطعة، وتتألف من كنزات نسائية أو معاطف أو ملابس أطفال وغيرها.
أوضح التاجر أن سعر القطعة يصل إلى ستة آلاف ليرة (بالجملة)، علمًا أنها لا تباع بأقل من 30 ألف ليرة، ويحدد سعرها بحسب منطقة البيع، سواء في مركز المدينة أو بالأحياء الشعبية.
ولا يقتصر وصول “البالة” إلى مناطق سيطرة النظام على تلك الطرقات فقط، إذ أوضح قصي تاجر “بالة” في القامشلي، أن الألبسة القادمة من أوروبا يتم تجميعها وإرسالها إلى تركيا، وتدخل بشكل غير قانوني (تهريب) إلى العراق، وحتى تصل البضائع إلى مناطق سيطرة النظام، يتطلب الأمر أن يملك الوسيط كفيلًا يتيح دخوله للمنطقة لنقل البضاعة، وهذه الحالة تتطلب دعمًا، بما يتيح المرور عبر الحواجز التابعة لقوات النظام.
وفي الحالة الثانية، ربما يكون التاجر من أبناء المنطقة (شمال شرقي سوريا)، يأخذ البضاعة إلى مناطق سيطرة النظام، وهو ما لا يعفيه أيضًا من ضرورة وجود دعم أو “واسطة” للمرور عبر الحواجز ذاتها، كون أي مشكلة قد تعرضه لمساءلة قانونية وقضايا جمركية، على حد قوله.
وفي تموز 2018، أصدرت وزارة التجارة الداخلية قرارًا منعت بموجبه بيع “البالة”، واعتبرت استيرادها محظورًا بموجب القوانين الرسمية، مع الاشارة إلى أنها ستتخذ إجراءات مشددة بحق العاملين ببيع هذه الألبسة كونها تؤثر سلبًا على “الصناعة الوطنية”.
القديم أفضل من الجديد
تتوزع محال بيع “البالة” في مختلف المحافظات السورية، بما يحولها إلى منافس للألبسة الجديدة من حيث الإقبال عليها، في ظل الظروف الصعبة.
“القطعة يلي باخدا من البالة مالها شبيه بكل السوق وبتضل سنين وبنفس السعر”، هكذا وصفت منار (32 عامًا) وتقيم في دمشق، ملابس “البالة”، موضحة أن سوق “البالة” يحتوي على بضائع مختلفة من حيث السعر والجودة.
تقصد الشابة سوق “البالة” بين فترة وأخرى، ونادرًا ما تشتري ألبسة جديدة، إذ تشتري “بلوزة” من “البالة” بسعر يتراوح بين 50 و100 ألف ليرة، لكنها ذات جودة عالية مقارنة بالألبسة المحلية الجديدة سيئة الجودة باهظة الثمن.
كما أن “البالة” تحتوي على قطع من ماركات عالمية، وليس بالضرورة أن تكون الملابس مستعملة.
يسرى (55 عامًا) تقيم في ريف دمشق، تقصد السوق كل فترة للحصول على قطع تتناسب مع دخلها ومع مقاسات أبنائها.
أوضحت السيدة لعنب بلدي أنه على الرغم من ارتفاع الأسعار حتى في أسواق “البالة”، يمكن مع البحث المستمر العثور على قطع بأسعار تتناسب مع ظروفها، وتكون أقل بفارق ملحوظ عن سوق الألبسة الجديدة الذي لم تقصده منذ وقت طويل، بحسب قولها.
توضح السيدة أنها حصلت نهاية موسم الشتاء الماضي على معطف لابنتها بسعر 55 ألف ليرة، بينما العثور على واحد يشبهه بالجودة في محال الألبسة الجديدة سيكون بما يقارب الـ300 ألف ليرة، موضحة أن أبناءها يرغبون في بعض ألبسة الموضة التي توجد في سوق الجديد ولا تتوفر في سوق “البالة”، ولكن فروقات الأسعار تمنعها من الشراء.
تشهد أسعار الملابس في سوريا ارتفاعًا مستمرًا، بما لا يتناسب مع الدخل الشهري ومتطلبات الحياة اليومية للمواطن، إلى جانب ارتفاع اسعار المنتجات والسلع الأخرى.
وبحسب “مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة“، الصادر نهاية 2023، فإن وسطي تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد يتخطى 12 مليون ليرة سورية، وبعد أحدث زيادة على الرواتب في مناطق سيطرة النظام، وصل الحد الأدنى لرواتب العاملين بالقطاع العام إلى نحو 186 ألف ليرة سورية.
مشاريع صغيرة
يلجأ معظم السوريين إلى الاعتماد على أكثر من مصدر في سبيل تحقيق الموازنة بين الدخل والمصاريف، بينما تستغني كثير من العائلات عن أساسيات في حياتها لتخفيض من معدل إنفاقها.
رهام تقيم في دمشق، قالت لعنب بلدي، إنها تشتري البضائع من أحد التجار في دمشق، وتعرضها للبيع في منزلها ولا تضيف مبالغ كبيرة للأرباح، لكنها تحصل منها على مردود مالي جيد.
أوضحت رهام أنها بدأت مشروعها الصغير بما يقارب خمسة ملايين ليرة سورية، لسعر “رصتين”، كما اقتنت “مكواة بخار” لتحسين مظهر القطع وعرضها بطريقة لافتة ما يسهل بيعها بسعر أفضل، على حد تعبيرها.
تتخوف رهام من حملات الجمارك ضد “البالة”، التي قد تسبب “خسارة كبيرة” لها في حال مصادرتها.
وتشهد الأسعار ارتفاعات متكررة شبه يومية تطال سلعًا ومواد أساسية وغذائية، تضاعف انعدام القدرة الشرائية للمواطنين.
الباحث الاقتصادي عبد العظيم المغربل، يرى أن الحكومة تحاول محاربة الألبسة المستعملة التي تدخل عبر طرق غير شرعية، لما لها من تأثير على الأسواق المحلية، وخصوصًا من أجل حماية ما تبقى من صناعات محلية متهالكة.
كما تجذب ألبسة “البالة” الأفراد ذوي الدخل المنخفض أكثر من الألبسة المحلية، لانخفاض سعر الأولى، بالإضافة إلى ضبط محاولات التهرب الضريبي والجمركي التي تعود في هذه الحالة لحواجز النظام، وفقًا للباحث.
أوضح الباحث أن سبب انخفاض أسعار “البالة” أمام الألبسة الجديدة رغم “الإتاوات” التي تفرض لدخولها، يعود لارتفاع تكلفة الإنتاج والتصنيع وعدم توفر بعض المواد الأولية الرئيسة.
يعاني تجار الألبسة في مختلف مناطق سيطرة النظام ارتفاعًا في أسعار حوامل الطاقة وتكاليف الإنتاج، ما يسهم برفع أسعار منتجاتهم، إلى جانب التزامهم برواتب العمال والضرائب وغيرها من الأعباء، بحسب صحيفة “تشرين” الحكومية، في نيسان 2023.
ووفق تصنيف “منظمة العمل الدولية” لعام 2022، حلت سوريا في المركز الـ21 من أصل 117 بلدًا في مؤشر “معدل فقر العاملين” على أساس خط الفقر الدولي وهو 1.90 دولار في اليوم.
كما صنفت إنتاجية العمل في سوريا بالمركز الـ159 من أصل 189 بلدًا، ما يشير إلى ضعف الإنتاجية.