من يوقف نزيف الغطاء الأخضر في سوريا

  • 2024/01/07
  • 5:42 م
رجل يستند إلى شجرة بعد احتراق أحد الأحراج في طرطوس (AFP)

رجل يستند إلى شجرة بعد احتراق أحد الأحراج في طرطوس (AFP)

خالد الجرعتلي | محمد فنصة | براءة خطاب

اجتمعت الحرب وتبعاتها وظروف المناخ على تدمير الغطاء النباتي بمساحات واسعة في سوريا، وتحويل مناطق خضراء من البلاد إلى بقع جرداء.

ويظهر هذا التحول جليًا في المشاهد التي التقطتها الأقمار الصناعية مؤخرًا للأراضي السورية.

ففي شمالي محافظة حلب على سبيل المثال لا الحصر، يمكن رصد مشهد غريب، إذ يتوقف اللون الأخضر الممتد في الأراضي التركية عند الحدود السورية، وتظهر سلسلة خضراء ممتدة في الجنوب التركي، توازيها مساحة بنية بلون التربة، تدل الناظر على بداية الأراضي السورية.

وأدت مجموعة من العوامل، أبرزها التحطيب والحرائق، بالتزامن مع إهمال حكومي، إلى تراجع الغطاء النباتي، ما ترك أثرًا سلبيًا على الصعيدين البيئي والاقتصادي طال مختلف المناطق وتأثر به السكان في سوريا، وسيمتد أثره طويلًا.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع خبراء وباحثين، أثر تراجع الغطاء النباتي في سوريا على الصعيدين البيئي والاقتصادي، وفعالية القوانين التي تطرحها السلطات الأربع المسيطرة لدعم هذا القطاع.

اجتثاث الغابات للتدفئة

أظهرت دراسة لمنظمة “PAX“، تستند إلى تحليل الأقمار الصناعية والأبحاث مفتوحة المصدر في آذار 2023، التأثير المدمر الذي خلفته 12 عامًا من الحرب على الغابات والبساتين في سوريا، حيث قطعت أكثر من ثلث الغابات.

وغالبًا ما تتزايد إزالة الغابات في أثناء النزاعات، ويعود ذلك في كثير من الأحيان إلى الإفراط في الاحتطاب من قبل المجتمعات التي أصبحت تعتمد فجأة على الخشب والفحم للوقود والتدفئة، بحسب موقع “SciDev.Net” المتخصص بالأخبار والتحليلات بهدف التنمية العالمية.

ويعتمد السوريون على الحطب بشكل شبه رئيس بعد ارتفاع أسعار الوقود، وانخفاض الحصص التي توزعها الدولة لكل عائلة.

ويعد التقرير، الذي نشرته منظمة “PAX” تحت عنوان ” قُطع وأُحرق”، الدراسة العلمية الأكثر تعمقًا التي أجريت حول الأسباب والعواقب العديدة لفقدان الغطاء النباتي في جميع أنحاء سوريا.

وأظهرت الدراسة أن إزالة الغابات تؤثر بالفعل على حياة المدنيين وسبل عيشهم، ولها عواقب طويلة المدى بشأن القدرة على التكيف مع تغير المناخ.

وتسببت الأوضاع في سوريا من فقدان الكهرباء والوقود بقطع الأشجار على نطاق واسع لأغراض التدفئة والطهو، “في حين يسهم النزوح والقتال العنيف في فقدان الغابات”، بحسب الدراسة.

وفي دراسة أخرى استقصائية عام 2021، للباحثة في مجال الاقتصاد ربا جعفر، قالت إن من الأسباب الأخرى، المتعلقة بالصراعات، لاجتثاث الغابات هو الاعتماد الكبير للسكان على الأشجار من أجل الحصول على التدفئة والمأوى.

وأضافت أنه في العام 2013، تعرضت 40% من خطوط الكهرباء في سوريا للهجوم، وتعطلت 30 محطة، فأصبحت الأشجار ضرورية للتدفئة والحصول على الكهرباء.

وقُطعت سبعة آلاف شجرة في تل كلخ والهامة، وكذلك في محمية “البلعاس” التي تقع جنوبي شرقي حماة، حيث فُقدت مئات الأشجار التي تصل أعمارها إلى قرون، بحسب الدراسة.

وقُطعت 7500 شجرة في الحسكة، معظمها من محمية “جبل عبد العزيز” جنوبي غربي الحسكة، فيما أُزيلت غابات بأكملها في محمية “جباتا” بالقنيطرة، وهي الأولى من نوعها في المحافظة، وتبلغ مساحتها 133هكتارًا، بينما قُطعت 100 شجرة صنوبر حجري في الشحار جنوبي “جباتا”.

وتضر عملية اجتثاث الغابات بالاقتصاد، وتؤدي إلى تدمير المحميات الطبيعية، كما حدث في محمية “الضمنة” جنوبي سوريا، ومن بين تلك الخسائر أشجار معمرة وموسمية كأشجار البلوط، والبطم الأطلسي، وأشجار التوت، وشجيرات توت العليق، وأشجار الصنوبر البري، وكرز المحلب، بالإضافة إلى مئات الأنواع من النباتات الطبيعية، كالبابونج والقُرّاص والزعتر البري، وهي نباتات ضرورية للصناعات الدوائية، إضافة إلى أعشاب عطرية نادرة مثل اللافندر والكزبرة والفطر.

وبين شهري تشرين الأول وكانون الأول 2016، دُمرت أكثر من 251 ألف شجرة فاكهة في حرائق غابات اندلعت بمحافظة اللاذقية في مناطق الحفة وجبلة والقرداحة واللاذقية المركز، الأمر الذي أدى إلى تدمير سبل العيش وعرّض الأمن الغذائي لكثير من العائلات للخطر.

صورة جوية تظهر أعضاء من “الدفاع المدني السوري” يكافحون حريقًا على منحدر في بلدة جسر الشغور، غربي محافظة إدلب- 11 أيلول 2020 (AFP).

حرائق

باستخدام بيانات “الاستشعار عن بعد”، توصلت دراسة منظمة “PAX” إلى أن أكثر من 36% من مناطق الغابات في غربي سوريا تأثرت بقطع الأشجار غير المنظم، وحرائق الغابات المكثفة بين عامي 2018 و2020.

ورصدت مجلة “MDPI“، الرائدة بمجال النشر العلمي، في مقال لها انخفاضًا ملحوظًا في إجمالي مساحة الغابات بالمنطقة الساحلية السورية، حيث يعد فقدان الغطاء الحرجي، وانخفاض مساحة الغابات الكثيفة، وزيادة الغابات المتفرقة، مؤشرات على الضغط على الغابات الطبيعية، وكذلك تفتيت هذه الغابات وتدهورها.

وربط المقال التغيير في الغطاء الحرجي بمجموعة متنوعة من العوامل المختلفة المرتبطة بـ“النزاع”، إذ كانت الدوافع الرئيسة هي التغيرات في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، والاستغلال الواسع النطاق لموارد الغابات، وحرائق الغابات المتكررة، وضعف مؤسسات الدولة في إدارة الموارد الطبيعية والتنمية البيئية.

وكشف تقرير لمرصد الصراع والبيئة (CEOBS) عن فقدان الغابات في سوريا 3505 هكتارات في عام 2020، بزيادة قدرها 159% على عام 2019، ما يعني أن ما يقارب 20% من غابات سوريا قد فقدت منذ عام 2000، وتعتبر بؤر الحرائق على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط بالقرب من اللاذقية وطرطوس، وهي موطن لأكثر من ثلاثة أرباع مناطق الغابات في البلاد.

وذكر التقرير أن الظروف الجوية تسبب خطر نشوب حرائق في سوريا، لكن وردهم أن شرارة بعض الحرائق كانت بسبب القصف، بينما يعتقد السكان أن بعضها الآخر “مفتعل”.

وبين عامي 2010 و2018، التهمت حرائق الغابات أكثر من ربع مساحة غابات سوريا، حيث سُجلت أكثر من 2000 حادثة حريق، طالت مساحة تزيد على 100 ألف هكتار في الساحل السوري.

وكانت سوريا تنتج قبل عام 2011 نحو 30 مليون غرسة سنويًا، وانخفض العدد إلى 1.5 مليون غرسة نتيجة ظروف الحرب، وفق إحصائيات وزارة الزراعة.

تقرير قدمته مديرية الأحراج في وزارة الزراعة السورية إلى منظمة الأغذية والزراعة الأممية (FAO) عام 1993، قسم مساحة الغابات في سوريا، البالغة 445 ألف هكتار، إلى 150 ألفًا في طرطوس واللاذقية وإدلب وحماة، تتشكل من الصنوبر والأرز والشوح والسنديان والبلوط، و225 ألف هكتار من تغطية غابية متفرقة “لا تناسب إلا صناعة الفحم النباتي”، في دمشق وحمص وحلب والسويداء، و70 ألف هكتار من الغابات في حماة ودمشق، يشكل الفستق الحلبي والعرعر أهم أنواعها.

وجاء في دراسة استقصائية، للباحثة في مجال الاقتصاد ربا جعفر، أن حرائق الغابات تعتبر من الأسباب الرئيسة لاجتثاث الغابات، وقد ازداد تواتر اندلاعها وشدتها بشكل كبير خلال سنوات الصراع في سوريا، ففي عام 2020 وحده تسببت الحرائق في القضاء على ما يزيد على 9 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية والغابات.

وأضافت الدراسة أنه في مناطق أخرى، مثل شمال حلب، “كانت الجماعات المسلحة هي المحرك الرئيس لقطع الأشجار بكثافة في الغابات الطبيعية، وقطع ما يقرب من 60% من الأشجار”.

كما تسببت الحرب بشكل مباشر في تدمير بساتين تجارية واسعة النطاق، ما أثر على سبل العيش.

وفي مواقع مثل تدمر، فُقد أكثر من 52% من أشجار الفاكهة “في القتال العنيف بين قوات النظام والجماعات المسلحة”.

وفي مناطق أخرى، كان السكان النازحون بحاجة ماسة إلى الطاقة، ما أدى إلى زيادة قطع الأشجار، وأثار بناء القوات التركية مواقع عسكرية في البساتين شمالي سوريا المخاوف بشأن فقدان سبل العيش، وفقًا للدراسة.

“في شرقي سوريا، لم يتبقَّ سوى عدد قليل من المحميات الطبيعية ومشاريع إعادة التشجير حول الرقة والطبقة، تأثرت بشدة خلال وجود تنظيم “الدولة”.

وأضافت الدراسة أن العواقب الإنسانية للحرب تفاقمت بسبب تدمير الموارد الطبيعية، وحرمان مزارعي البساتين من سبل عيشهم، والتأثير على النظم البيئية الفريدة والتنوع البيولوجي، ما أدى إلى فقدان مصارف الكربون في بلد يواجه تحديات مناخية حادة بسبب ارتفاع درجات الحرارة والجفاف.

وكشف التقرير فقدان المساحات الخضراء في المدن، مؤكدًا أن حصار المدن الكبيرة مثل حلب وحماة ودمشق، أدى إلى زيادة قطع الأشجار من أجل الحطب.

وطغت التكلفة البشرية الهائلة للحرب في سوريا على عواقبها البيئية، فالصراعات الطويلة والمعقدة عادة ما يتم فيها إيلاء القليل من الاهتمام للتأثير المحتمل طويل المدى للأنشطة العسكرية على الطبيعة، والآثار التي تنعكس على السكان.

وحتى عندما لا يكون التدمير البيئي متعمدًا، تسبب الحروب ضررًا عميقًا بالبيئة وبطرق عديدة، كحفر الخنادق، وتسوية الدبابات للغطاء النباتي، وتدمير القنابل للمناظر الطبيعية وإحراقها، وبالدرجة الأولى انطلاق الغازات والجسيمات السامة في الهواء، وتسرب المعادن الثقيلة إلى التربة والمياه.

رجال سوريون يقطعون قطعًا من الخشب لتكون بمثابة مصدر للدفء خلال فصل الشتاء – 3 نوفمبر 2020، سوريا (pax)

ثلاث حالات جفاف

ضربت المنطقة الجغرافية لسوريا ثلاث حالات جفاف كبرى منذ الثمانينيات، وكان أحدثها بين عامي 2006 و2010، وهو ما يعتبره الكثيرون أسوأ جفاف متعدد السنوات في التاريخ الحديث، ونتجت عنه انخفاضات هائلة في هطول الأمطار بالتزامن مع درجات الحرارة المرتفعة، ما أدى إلى تدمير الأراضي الزراعية والتصحر ونزوح جماعي لما يقارب مليوني شخص من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، بحسب تقرير “MedGlobal“.

وشهد حوض الفرات ودجلة بأكمله وأجزاء كبيرة من إيران جفافًا زراعيًا شديدًا واستثنائيًا على مدار 36 شهرًا حتى حزيران 2023، ما يجعله ثاني أسوأ جفاف مسجل في كلتا المنطقتين بناء على دراسة نشرتها “World Weather Attribution”.

وتحتل سوريا المرتبة 65 في قائمة تضم 191 دولة معرضة لخطر وقوع كارثة إنسانية أو كارثة طبيعية تعزى إلى تغير المناخ، وفي المرتبة السابعة على قائمة الدول الأقل استعدادًا للاستجابة لمثل هذه الكوارث، وفق ما ورد في الدراسة.

وترجع الزيادة في شدة الجفاف بالمقام الأول إلى ارتفاع الحرارة للدرجة القصوى، وأحد أسباب هذا الارتفاع احتراق الوقود الأحفوري الذي تعتمد عليه جيوش العالم بشكل رئيس، مثل النفط والفحم والغاز، بحسب دراسة “World Weather Attribution”.

ويؤدي حرق الوقود الأحفوري إلى خلق غطاء من الغازات تحبس حرارة الشمس على الأرض وترفع درجات الحرارة العالمية، ثم يؤدي الاحترار العالمي إلى تغيرات أخرى مثل الجفاف، وشح المياه، والحرائق، وارتفاع منسوب سطح البحر، والفيضانات، وذوبان الجليد القطبي، والعواصف العاتية، وتدهور التنوع البيولوجي.

ويرتفع استخدام الوقود الأحفوري سواء مع الصراعات أو دونها، فمجرد الحفاظ على الجيش يسهم في تغير المناخ، وذلك لما يستخدمه من وقود للتدريبات العسكرية والاستمرارية بعمل المنشآت، كذلك فإن الحرب النشطة تزيد من هذه الإمكانية إلى أقصى حد.

وبحسب دراسة مرصد الصراع والبيئة (CEOBS)، تشكل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الصادرة عن أضخم الجيوش نسبة أكبر من انبعاثات العديد من دول العالم مجتمعة.

ملوحة التربة

انتشرت ظاهرة ملوحة التربة في أراضي الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، أرجع فلاحون أسبابها إلى البطء في تنظيف وتأهيل مصارف المياه الزائدة، إذ يسبب تراكمها لأوقات طويلة ملوحة التربة.

وبحسب إحصائية قامت بها لجنة الري التابعة لـ”الإدارة الذاتية” في المنطقة، فإن ما بين 2300 و2500 هكتار تعرضت للتملح، وصارت تربتها غير صالحة للزراعة.

أحد العاملين في محطة الري بقرية الشحيل بريف دير الزور (تحفظ على اسمه لأنه غير مخوّل بالتصريح)، قال لعنب بلدي، إن التملح نتج عن خروج “الآبار الشاقولية” عن الخدمة منذ عام 2013، مضيفًا أن الآبار البالغ عددها 85 بئرًا في المنطقة، يعمل منها حاليًا عشر آبار فقط بعد مبادرات محلية أدت إلى تشغيلها.

وتعرض قسم كبير من هذه الآبار للتخريب والسرقة، إذ نُهبت منها محطات الإقلاع، وكوابل الكهرباء، وشبكات الصرف المغطاة المسؤولة عن جر المياه الزائدة من التربة وتصريفها في نهر “الفرات”.

متطوع في الدفاع المدني السوري خلال العمل على إخماد حريق زراعي في قرية السويدة بريف حلب الشرقي- 17 من تموز 2022 (الدفاع المدني).

قوانين “صورية” وإجراءات متأخرة

بعد انعقاد قمة المناخ “COP 28” بدبي، في 1 و2 من كانون الأول 2023، استمرت حكومة النظام السوري التي شاركت بالقمة عبر وفد برئاسة رئيس الوزراء، حسين عرنوس، بنشاطات تروج لاهتمامها بالبيئة في سوريا.

بعد عقدها ورشة عمل سبقت القمة حول حالة البيئة في سوريا، وتحميل أسباب تدهورها لـ”الإرهاب المدعوم من قوى الشر”، وفق تعبير عرنوس، أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 25 من كانون الأول 2023، القانون رقم “39” بهدف “الحفاظ على الثروة الحرجية وإدارتها”.

وفرض القانون عقوبات بالسجن من عشر سنوات إلى 20 سنة، وبغرامة تعادل ثلاثة أمثال قيمة الضرر الحاصل لكل من أضرم النار “قصدًا” أو حرض أو تدخل أو شارك في إضرامها في حراج الدولة، وبالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وغرامة مماثلة لكل من تسبب بنشوب حريق في حراج الدولة نتيجة “الإهمال” أو عدم مراعاة القوانين.

وعلّق وزير الزراعة، محمد حسان قطنا، على القانون بأنه تضمن فصلًا خاصًا بالعقوبات المشددة “للحفاظ على حراج الدولة والحراج الخاصة والقطاع النباتي خارجها”، بحيث تصل العقوبة إلى الإعدام لمن أضرم النار “قصدًا” بالحراج، وأدى إلى إصابة إنسان بعاهة دائمة، وعقوبات تتدرج من السجن ضمن عقوبات جزائية وجنائية، وغرامات مالية “رادعة”.

وجاء هذا القانون ليلغي قانونًا سابقًا صدر عام 2018، يخص أيضًا حماية الثروة الحرجية، لكن أبرز ما حمله القانون الجديد هو التشديد والتفصيل الأكثر للعقوبات.

خلال ورشة حوارية في اللاذقية، نهاية عام 2021، قال مدير الحراج في وزارة الزراعة، إن قانون الحراج عام 2018 يعاني “خللًا واضحًا” على أرض الواقع له علاقة “بالمجتمع المحلي”، ما أسفر عن تعديات أدت إلى فقدان مساحات كبيرة من الحراج، الأمر الذي انعكس “سلبًا على الغابة والإنسان وعلى حماية التنوع الحيوي”.

وتساءل عضو جمعية “العلوم الاقتصادية السورية” عبد اللطيف شعبان، في تشرين الثاني 2022، عن أسباب ظهور سلبيات قانون الحراج عام 2018 والحاجة الماسة لتعديله، ولم يمضِ على صدوره، وقتها، ثلاث سنوات، وأنه طالما أن الخلل قائم في القانون السابق فمن المؤكد أن الوضع الحرجي القائم في حالة “خلل متتابع” خلال السنوات الماضية.

وأشار إلى أن واقع الغاز والمازوت والكهرباء المتدهور في البلاد يفرض المزيد من القطع الجائر المستمر للثروة الحرجية، وهو ما يظهر في الانتشار الكبير للمتاجرة بالحطب والفحم، الأمر الذي يجعل هذه الثروة “رهن التشريعات الحائرة والتعديات الجائرة”، وفق تعبيره.

المحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان محمود حمام، قال لعنب بلدي، إن النظام السوري غالبًا ما يصدر “قوانين صورية” تكون رصينة قانونيًا لكنها تختلف فعاليتها عند التطبيق.

 

“القانون (39) جاء نتيجة التعدي الكبير والفاضح على الثروة الحرجية خلال السنوات الماضية وما رافقه من حرائق انتشرت بشكل واسع ضمن مناطق سيطرة النظام وخصوصًا في المنطقة الساحلية”.

محمود حمام
محامٍ وناشط في مجال حقوق الإنسان

 

وشدد حمام على أن طرح مثل هذه القوانين والإجراءات يأتي متأخرًا جدًا، إذ إنه حتى حين صدر القانون السابق عام 2018، كان قد تدمر جزء كبير من الغطاء النباتي في سوريا بعد عام 2011.

وأشار حمام إلى أن معظم المناطق الحرجية داخل الأراضي الخاضعة لسيطرة النظام تعد مرتعًا للميليشيات والفصائل الموالية له أو لإيران غير الخاضعة لسلطة القانون، وهي التي تدمر بشكل رئيس الغابات بما تسببه من حرائق أو قطع للأشجار والتجارة بالأخشاب، مستغلة حاجة السكان لها للتدفئة كبديل أرخص عن المحروقات.

في 21 من كانون الأول 2023، وافقت حكومة النظام على استيراد كمية 10 آلاف طن من حطب التدفئة الجاف، “للحفاظ على الثروة الحرجية”.

وبحسب المدير العام للحراج في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، علي ثابت، فإنه للمرة الأولى منذ عام 2010 يجري استيراد الحطب بغرض التدفئة، بالرغم من تدهور الغطاء النباتي خلال العقد الماضي، مشيرًا إلى أن استمرار استنزاف الثروة الحرجية له “فاتورة بيئية كبيرة جدًا تتجاوز فاتورة الاستيراد”.

صدر القانون رقم “6” الخاص بالحراج عام 2018، وهو القانون الرابع لحماية الحراج في سوريا، إذ سبقته قوانين للأعوام 1935 و1994 و2007.

وخففت معظم العقوبات في قانون 2018، بالمقارنة مع القوانين السابقة، كما ألغيت عقوبة المؤبد لمن يضرم النار بالحراج في حال كان الدافع الإضرار بالاقتصاد الوطني.

في تشرين الثاني 2022، أوضح مدير الحراج في وزارة الزراعة، علي ثابت، أن مساحة العقارات الحرجية حاليًا لا تزيد على 3% من مساحة سوريا، بينما كانت بنسبة 15% من مساحة البلاد قبل عام 2011.

ما الوضع شمالي سوريا

الوضع في شمال غربي وشرقي سوريا ليس أفضل من مناطق سيطرة النظام بما يخص نزيف الغطاء النباتي، إذ تتشابه حاجة السكان في هذه المناطق إلى بديل للمحروقات أوفر للتدفئة والطبخ وغيرهما كالحطب، بسبب ضعف القوة الشرائية، كما تنتشر الحرائق في صيف كل عام مقلصة من المساحة الخضراء دون تعويض كافٍ من تحريج صناعي.

مدير دائرة الحراج في حكومة “الإنقاذ”، شادي رحال، قال لعنب بلدي، إن المنطقة شهدت تراجعًا في الغطاء النباتي سابقًا بفعل القصف المتعمد لحرق الغابات من قبل قوات النظام، وكذلك القطع والرعي الجائر من قبل الأهالي، الأمر الذي لا يزال أثره واضحًا حتى يومنا هذا.

وعن جهود الحكومة للتعويض عن هذا النقص، أفاد رحال أنه في الأعوام القليلة الماضية، بدأت وزارة الزراعة والري في حكومة “الإنقاذ” بالعمل على الحفاظ على الغطاء النباتي والغابات المتبقية، من خلال وضع قانون أملاك الدولة رقم “35” للعام 2020، وأنشأت دائرة “الحراج والمخافر الحرجية” لحماية الغابات والمناطق الحرجية، كما منعت بموجب القانون القطع والرعي وحراثة وزراعة هذه المناطق أو التمدد العمراني من قبل الأهالي.

وعملت الوزارة في عام 2023، وفق رحال، على إطلاق حملة تشجير شملت زراعة 2112 شجرة في الأتارب وسرمدا وحارم وكفر تخاريم وإدلب وأريحا وجسر الشغور، فيما تخطط في المرحلة المقبلة لتفعيل مشتل لإنتاج الغراس الحرجية.

وتواصلت عنب بلدي مع عدة أطراف في “الحكومة المؤقتة” للسؤال عن وضع الثروة الحرجية في المنطقة والإجراءات للحفاظ عليها، لكنها لم تلقَ أي تجاوب حتى لحظة إعداد هذا التقرير.

يدير عمليات الاحتطاب وقطع الأشجار حول البحيرة الواقعة على بعد 70 كيلومترًا من مدينة حلب، و12 كيلومترًا من بلدة عفرين، قرب قرية ميدانكي المطلة على نهر “عفرين”، عناصر في فصيل “لواء شهداء السفيرة” التابع لـ”فرقة السلطان مراد” في “الجيش الوطني” الذي يسيطر على المنطقة منذ آذار 2018.

ومنذ سيطرة “الجيش الوطني” على عفرين، حذرت جهات محلية ومؤسسات عسكرية من قطع الأشجار الحرجية في المنطقة وريفها، تحت طائلة المحاسبة ومصادرة أي سيارة محملة بالحطب، وتوقيف الجهة المسؤولة ومحاسبتها، لكن ذلك لم يوقف أو يخفف وتيرة الاحتطاب التي ترتفع قبل شتاء كل عام.

ونقلت عنب بلدي عن مصادر أهلية في المنطقة، تحفظت على نشر أسمائها لمخاوف أمنية، أن قطع الأشجار يتبعه بيع للحطب بما لا يقل عن 140 دولارًا أمريكيًا للطن الواحد.

لا يختلف الأمر في شمال شرقي سوريا، حيث توجد عدة محميات طبيعية مثل محمية “جبل عبد العزيز” جنوب غربي مدينة الحسكة التي أعلنت كمحمية طبيعية بقرار من وزارة الزراعة السورية عام 1993، ومحمية “القرين”، التي تُعرف أيضًا باسم “جزيرة عايد”، وتقع جنوب غربي محافظة الرقة.

وخلال العقد الماضي، ومع تبدل الجهات المسيطرة في أثناء القتال العسكري، فتحت أبواب محميتي “جبل عبد العزيز” و”القرين” أمام عمليات التحطيب ورعي المواشي بطريقة عشوائية، واندلعت الحرائق الناجمة عن الإهمال.

وبسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على الجبل والمحمية، باتت محطة الإذاعة في أعلاه نقطة اتصالات عسكرية، وتحتوي المحمية على معسكرات للتدريب تابعة لـ”قسد”، وبُنيت فيها مقار دائمة وحُفرت أنفاق داخل بنية الجبل الصخرية.

موظف بمديرية الزراعة التابعة لـ”الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، قال لعنب بلدي بشرط عدم الكشف عن اسمه كونه غير مخول بالتحدث لوسائل إعلام غير مرخصة لدى “الإدارة”، إن هناك قوانين تفرض غرامات مالية على من يمارس عمليات التحطيب والرعي الجائر في المناطق الحرجية خصوصًا خلال فترة الشتاء، مشيرًا إلى قانون حماية البيئة الصادر عن “الإدارة الذاتية” في تموز 2022.

وأضاف الموظف أن التحطيب والرعي الجائر أثرا بشكل سلبي على الغطاء النباتي في المنطقة، خصوصًا المواقع القريبة من الأنهار، مقدرًا نسبة الأضرار التي لحقت بالغطاء النباتي بأكثر من 80% من إجمالي مساحته، وأن أكثر المناطق تضررًا كانت سرير نهر “الخابور” ومنطقة جبل عبد العزيز ومنطقة سد الجوادية والمالكية وعين ديوار.

بالمقابل، أفاد المسؤول بمديرية الزراعة في “الإدارة الذاتية” (تحفظ على اسمه لعدم وجود ترخيص) أن نزيف الغطاء النباتي تناقص في السنوات الثلاث الماضية، لأن كل عائلة بدأت تحصل على مخصصات للتدفئة تغنيها عن التحطيب، وخصوصًا سكان الريف الذين يعتمدون على مدافئ الحطب أكثر من المدن، كما أن تطبيق القوانين التي تمنع تحطيب وقطع الأشجار أصبح أكثر “صرامة”.

وأشار إلى وجود خطة لتنفيذ غابات نموذجية في المنطقة كالتي نفذت في منطقة عين العرب بمساحة 100 دونم ضمت نحو ألفي شجرة حرجية، وغابة في ريف بلدة القحطانية (مساحتها أربعة هكتارات ضمت نحو ثلاثة آلاف شجرة حرجية كالسرو والصنوبر)، كما جرت إعادة زراعة مئات الأشجار على أسرة الأنهار في المنطقة وافتتاح الحدائق العامة آخرها حديقة “غرب القامشلي” الأكبر في المنطقة.

من زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد لأحراج ريف اللاذقية الشمالي التي تعرضت للحرائق – 3 من آب 2023 (سانا)

اقتصاديًا وبيئيًا.. ما الأثر؟

دائمًا ما ترتبط الأضرار البيئية وتراجع الغطاء النباتي من أشجار ونباتات نادرة بازدياد الاحتباس الحراري، وأضرار أخرى متعلقة بالنظام البيئي في منطقة جغرافية قد تجمع دولًا عديدة.

وبالنسبة لسوريا، لم تكن آثار الاحتطاب والتصحر والحرائق وغيرها من العوامل التي أضرت بغطائها النباتي ذات أولوية وفق المعايير البيئية فحسب، بل يعتبر النظر نحوها من جانب اقتصادي أكثر أهمية بالنسبة لبلد تعاني نسبة كبيرة من سكانه انعدام الأمن الغذائي.

الباحث الاقتصادي فراس شعبو، قال لعنب بلدي، إن سوريا تعاني بطبيعة الحال مشكلات في الأمن الغذائي، زادته الحرائق والأضرار البيئية الناجمة عن التحطيب وعوامل أخرى، وأضرت بمصادر دخل شريحة من المجتمع السوري.

وأرجع الباحث هذه الأضرار إلى عدم توفر أي قاعدة اقتصادية للمواطن السوري، إذ لا محروقات للتدفئة، مع عدم توفر البنية التحتية الخدمية، والإهمال الحكومي في رعاية الغابات والمناطق الخضراء.

يضاف إلى ما سبق انخفاض الدعم الحكومي لمصادر غذاء المواطنين السوريين، وانخفاض حجم المساعدات الممنوحة لهم، بالتالي زيادة في سوء الوضع الاقتصادي الذي يعانون منه.

شعبو اعتبر أن الأضرار التي لحقت بالقطاع الزراعي، وارتفاع تكاليف الزراعة مع انخفاض هامش الربح، دفع بالمزارعين إلى إهمال أراضيهم، والتخلي عنها.

ومع جملة العوامل المشار إليها، يرى شعبو أن الغطاء النباتي في سوريا، والمرتبط بشكل وثيق بالجانب الاقتصادي لحياة السوريين، أصبح بخطر، إلى جانب الأمن الغذائي، والأمن الصحي، والأمن الاقتصادي.

أجبرت الحرب في سوريا الناس على الهروب من أماكن عيشها، وشردت آلاف المزارعين، إذ انخفضت نسبة السكان الذين كانوا يعيشون بالمناطق الريفية في 2011 إلى النصف مع حلول عام 2016، بحسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة صدر عام 2017.

وأدى تغير توزع السوريين بين الريف والمدينة إلى خسائر “فادحة” في إنتاج المحاصيل والماشية، ودمار في نظم الري الزراعي، وتضررت مناطق زراعية واسعة، وازدادت تكاليف الاحتياجات الزراعية مثل البذور والأسمدة والمبيدات زيادة حادة، بحسب التقرير.

أستاذ العلوم الزراعية الأكاديمي عبد العزيز ديوب، قال لعنب بلدي، إن موضوع الحرائق قديم ويتجدد باستمرار، وينجم في الكثير من الأحيان عن حرق بعض المزارعين لأجزاء من محاصيلهم لأسباب مختلفة.

وما زاد الأمر سوءًا هو توجه شريحة من السكان إلى التحطيب في الغابات بشكل عشوائي، ما تسبب بانخفاض نمو النباتات في هذه الغابات.

ديوب أضاف أن سلوكيات التحطيب وحرق المحاصيل أدت إلى تراجع نمو أشجار الغابة والغطاء النباتي، خاصة أن النباتات الطبية من أنواع نادرة تنتشر في الغابات السورية، وشكلت الحرائق والتحطيب سببًا رئيسًا في تدهورها.

ويرى ديوب أن هذه العوامل أسهمت بانعدام أي ريع محتمل من اقتصاد تلك النباتات التي كانت تسهم في عملية التصدير والحصول على العملة الصعبة للاقتصاد السوري.

وبحسب تقرير نشرته منظمة “كارنيغي” البحثية، كتبه المهندس في مجال الأبحاث الزراعية العلمية جلال العطار، فإن القطاع الزراعي في سوريا يعتبر عنصرًا أساسيًا من عناصر الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

ومع تراكم المشكلات، تعرض هذا القطاع لضرر كبير، كحال بقية القطاعات الاقتصادية الأخرى، وما زالت بوادر تعافيه غير بادية في الأفق في غياب حل جذري مستدام يعيد الثقة إلى الاقتصاد والمجتمع السوري، ويشجع على إعادة الاستثمار في ظل جو استثماري محفز.

حريق زراعي في محافظة اللاذقية بلغت مساحته ثلاثة دونمات – 24 آب 2023 (الإعلام الزراعي في سوريا)

ما الحلول؟

أستاذ العلوم الزراعية عبد العزيز ديوب، يرى أن الوسائل المتاحة لوقف تراجع الغطاء النباتي في سوريا عديدة، ومن أهمها حماية الغابات، وتنفيذ القوانين الخاصة بالحرائق المتعمدة، وتشجيع السكان المحليين بوسائل متعددة.

 

“يجب تطبيق قوانين لحماية المحميات الزراعية، والاهتمام بالكثافة النباتية، أي زراعة أصناف مختلفة، واختيار إدارات جيدة، لكن سلطات الأمر الواقع الموجودة في سوريا لا تهتم بشيء سوى بالسلطة”.

 عبد العزيز ديوب

دكتور في العلوم الزراعية

 

من جهتها، تعتقد الناشطة والصحفية المتخصصة بالمجال البيئي جلنار خطار، أن الوسائل المتاحة متعددة في مناطق النفوذ الأربع للتخفيف من التحطيب الجائر، لكن المشكلة وفق اعتقادها أن الجهات المسيطرة ليس لديها استعداد لتنفيذ ما هو مطلوب منها للحد من هذا النزيف البيئي، لكونها ليست ذات أولوية وفق أجندتها.

وتتخوف خطار من أن الضرر الحاصل أكبر من تداركه في سنتين أو ثلاث، في حين يمكن توقيف التدهور عبر مشاريع جدية للتشجير، وتنقية المياه، والحاجة إلى خبرات المهندسين الزراعيين في تدريب المزارعين عبر ورشات توعوية بكيفية التعامل مع هذا الضرر البيئي وأي الأنواع من المحاصيل والأسمدة التي يمكن أن تفيد في التحسن البيئي.

وقدّرت دراسة للأمم المتحدة منشورة في عام 2020 حاجة سوريا إلى 360 مليون دولار لإيقاف تدهور البيئة في البلاد بحلول العام 2030.

مقالات متعلقة

تحقيقات

المزيد من تحقيقات