إبراهيم العلوش
في اليوم الأول من العام الحالي، رحل المعارض السوري رياض الترك (1930-2024)، الذي عبر عن وفاة حافظ الأسد بجملته الشهيرة “مات الدكتاتور”، قالها من قلب دمشق، غير آبه بالعودة إلى السجن من جديد في عصر الوريث بشار، مرددًا بأن سوريا لا يليق بها أن تبقى بلادًا للخوف والاستبداد.
الرئيس حافظ الأسد اعتقل الترك في العام 1980 بسبب عضويته في الحزب “الشيوعي”، ولمعارضته الصريحة للوجود السوري في لبنان، ليمضي 18 عامًا في زنزانة انفرادية، يعدّ حبات العدس والزيوان في الشوربة لشغل نفسه بدلًا من الاستسلام للفراغ واليأس، في نفس الوقت الذي كان فيه الأسد منكبًا على قراءة تقارير مخبري “الأمن العسكري” و”الجوي”، وتقارير “البعثيين” ببعضهم، ليرسم مسار تدمير سوريا والتفريط باستقلالها الوطني، المهمة التي اكتملت في عصر وريثه.
ولد رياض الترك في مدينة حمص ونشأ في دار للأيتام، لم تحطمه صعوبات الحياة ولا قسوة الأنظمة الاستبدادية، وظل قادرًا على قول رأيه مهما كانت النتائج، وتمرد على الشيوعية السوفييتية التي حوّلت “الشيوعيين” إلى بيادق في يدها، ورفض مقولات الحزب “الشيوعي” السوري عن الوطنية السورية والقضية الفلسطينية وعن العالم العربي.
سجن حافظ الأسد رياض الترك بين العامين 1980 و1998، لكنه عندما خرج قال: “خرجت من السجن الصغير إلى السجن الكبير، وعلينا جميعًا أن نسعى إلى فتح أبوابه. لن أتخلى عن حقي في ممارسة السياسة مهما كانت الظروف. وأهلًا بالسجن إذا كان ثمنًا للتمسك بالرأي وحرية التعبير”.
في مطلع السبعينيات تمرّد رياض الترك على قيادات الحزب “الشيوعي” السوري بقيادة خالد بكداش، الذي تحوّل إلى بوق للسلطة السورية اعتبارًا من انضمام حزبه إلى “الجبهة الوطنية التقدمية”، التي تم استيراد فكرتها من ألمانيا الديمقراطية المحكومة بقوانين ستالينية صارمة. وصار الترك منذ انشقاقه رمزًا من رموز الوقوف في وجه الدكتاتورية التي بدأ نسيجها الوحشي يتكامل مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، عندما بطش حافظ الأسد بكل القوى السياسية المعارضة له، وأحرق مدينتي حلب وحماة بحجة الإرهاب والتطرف الديني.
وتحت نفس الحجة كان “الشيوعيون” و”البعثيون” مع “الإخوان المسلمين” يخضعون لأشد أنواع التعذيب طوال عقد الثمانينيات، الذي غيّب جيلًا من السياسيين والمثقفين الطامحين للحرية. ولا حاجة لذكر قوائم المجازر وطرق التعذيب التي رسخها حافظ الأسد مع علي دوبا، وعدد آخر من المجرمين الذين ساقوا سوريا إلى حالتها المزرية اليوم.
استقطب الجناح السياسي الذي أسسه رياض الترك الكثير من المثقفين والكتاب والفنانين، وصاروا كتلة يعتد بها في الحياة العامة السورية مهدت لفضح الاستبداد، وتغير اسم الحزب إلى حزب “الشعب”، الذي حرّك الاحزاب المعارضة والكثير من المستقلين للتوقيع على “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” في العام 2005، وشكّل هزة عنيفة للنظام الذي يعتبر نفسه مؤسس “سوريا الحديثة”، وكان ذلك الإعلان أول شهاب للحرية يلمع في ظلام سوريا الأسدية.
وفي بداية الثورة السورية (2011) أعلن رياض الترك تأييده لها، وأعلن أنها ثورة للحرية وغير طائفية، وأسهم في إدارة القوى الثورية، وفي تأسيس “المجلس الوطني”، ورفض الرحيل عن سوريا حتى العام 2018، معتبرًا أن رحيل قيادات المعارضة إلى خارج سوريا تسبب بالفشل الكبير، بالإضافة إلى التحالف مع التنظيمات الدينية، إذ ظلت الكثير من تلك التنظيمات في طور المراهقة والاستعراض الأجوف والتبعية للقوى الخارجية.
ولد رياض الترك في نفس العام الذي ولد فيه حافظ الأسد (1930)، وتوفي بعد حوالي ربع قرن من رحيل الأخير، الذي صارت عائلته رمز الخراب والارتهان بعد التدخل العسكري الإيراني والروسي والميليشيات الأخرى، أما الترك فقد صار رمزًا للشجاعة في طلب الحرية.
يوم الجمعة 5 من كانون الثاني الحالي، تم إلقاء النظرة الأخيرة على جثمان “مانديلا السوري” قبل دفنه في باريس، بعيدًا عن سوريا التي أحبها وكرّس معظم حياته من أجل حريتها. ونتمنى من محبي الترك أن يحوّلوا حماستهم له إلى إنجازات ملموسة ويدوّنوا تفاصيل نشاطه وأفكاره من أجل أن تستفيد الأجيال القادمة من أفكاره ومن صبره وإصراره على الحرية.
إذا انتصر نظام الأسد فستحمل اسمه السجون، وطرق التعذيب، والبراميل المتفجرة، وأنواع من حبوب “الكبتاجون”، أما إذا انتصرت الثورة، وهي حتمًا ستنتصر، فسيطلق اسم رياض الترك على الحدائق والمدارس والساحات، التي تجمّع الناس فيها من أجل الحرية.