عنب بلدي – ماريا الشعبان
تحولت مراكز التسوق (المولات) في المحافظات الواقعة تحت سيطرة النظام السوري إلى مرافق للتجول وأماكن لتمضية الوقت، أكثر من أن يكون الغرض من زيارتها التسوق وشراء الحاجيات.
وبات التسوق من “المولات” خيارًا مُستثنى أمام غالبية السكان، ويختلف الأمر بالنسبة للسياح والمغتربين في حال زياراتهم إلى سوريا، ولبعض الحالات ذات الدخل المرتفع.
العزوف عن التسوق في “المولات” يرجع سببه إلى الوضع الاقتصادي المتهالك الذي أدى إلى اعتماد غالبية السكان على البدائل الأقل ثمنًا، بغض النظر عن الجودة والنوعية في كثير من الأحيان، سواء من ملابس أو مواد غذائية أو منزلية، وإلى ازدياد الطلب على أسواق “البالة” (المستعمل).
صاحب أحد متاجر مستحضرات التجميل في “مول شام سيتي سنتر” بمنطقة كفرسوسة بمحافظة دمشق، قال إن حركة البيع والشراء تراجعت لدى غالبية متاجر “المولات” على مدار الأعوام العشرة الماضية.
وعزا التاجر “سليم” (اسم مستعار لأسباب أمنية)، في حديث لعنب بلدي، ضعف الحركة إلى تراجع قيمة العملة السورية مقابل الدولار، وانخفاض القوة الشرائية في الأسواق مع ارتفاع أسعار المنتجات عامة من ألبسة وأغذية ومواد أولية داخل “المول” وخارجه.
الاستمرارية أهم من التوسع
يرى الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” مناف قومان، أن التجار في مناطق سيطرة النظام السوري يعتمدون خططًا استراتيجية جديدة للبقاء في سوق العمل.
وباعتبار أن التاجر على دراية مسبقة بحالة الحركة التجارية والمبيعات، فإن الاستراتيجيات الجديدة المتبعة لا تسعى للتوسع في السوق وتحصيل أرباح عالية بقدر ما تهدف لاستمرارية البقاء وتغطية تكاليف الإنتاج، وفقًا لما أوضحه الباحث الاقتصادي قومان لعنب بلدي.
وقال قومان، إن التجار قد يلجؤون لرفع أسعار السلع أضعاف التكاليف التي تتحملها، كأحد أساليب محاولة استمرارية تجارتهم، إضافة إلى التهرب من الضرائب والرسوم، وتسويق المنتجات للفئة الغنية من الشعب عن طريق التواصل الخاص معهم.
ويقدم بعض التجار إتاوة شهرية (مبلغ يعطى كدليل على الخضوع أو كثمن للأمن) لحماية المحال بما فيها من الرقابة والضرائب، الأمر الذي يقوم به أصحاب المحال في “مول ماي سنتر” بدرعا، إذ يدفعون مبلغًا شهريًا لضابطين اثنين بـ”الأمن السياسي” لحماية “المول” من الرقابة وعدم التدخل بالأسعار.
ويدفع التجار الإتاوات من خلال جمع المبالغ وتقديمها لوسيط، دون أن يتعرف التجار إلى هوية الضابط الذي يتسلم الأموال، وفقًا لما نقله “محمد” (اسم مستعار) صاحب محل لملابس الأطفال في “مول ماي سنتر”، الواقع في حي الكاشف بمحافظة درعا، فضّلت عنب بلدي عدم ذكر اسمه الصريح لأسباب أمنية.
الإيجار في “المولات”
يفضّل بعض التجار شراء أو استئجار محل في “مول” على محال الأسواق الشعبية الاعتيادية، معللين ذلك بسياسة أسعار “المولات” غير القابلة لـ”المفاصلة”، إذ لا يحاول الزبون تخفيض السعر وتغييره كما يفعل في الأسواق الشعبية، بحسب التاجر “سليم” في مول “شام سيتي سنتر” بدمشق.
وتتفاوت إيجارات المحال في “المولات” بحسب رقم الطابق ومساحة المحل، وذكر سليم أن الإيجار الشهري لمحله أربعة ملايين ليرة سورية (285 دولارًا أمريكيًا)، وهو أقل مقارنة مع إيجار محال في شارع الحمرا أو الشعلان بمدينة دمشق، إذ يصل إيجار بعضها إلى سبعة ملايين ليرة.
وبالانتقال إلى “مول ماي سنتر” في درعا، قال التاجر “محمد” إنه يدفع ألفي دولار إيجارًا سنويًا لمحله، ما يقارب 28.5 مليون ليرة سورية وفق سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية بحسب موقع “الليرة اليوم“، ويدفع محمد تقريبًا 2.3 مليون ليرة شهريًا.
وبحسب سياسة الإيجار المعتمدة في “المول”، يملك التاجر الخيار بالسداد وفق الإيجار الشهري أو السنوي، مع العلم أن الإيجارات الشهرية مرتفعة عن السنوية.
ووفقًا لما رصده التاجر “محمد”، قرر عديد من مستأجري المحال التجارية في “مول ماي سنتر” إغلاق محالهم لأسباب عديدة، منها الأجرة المرتفعة بالنسبة لمعدل البيع والربح الذي يحققه التجار.
وتراجعت قيمة الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي بنسبة وصلت إلى 113.5% على أساس سنوي خلال عام 2023، إذ شهدت الأشهر الستة الأخيرة من السنة تغيرات كبيرة على قيمة الليرة.
ووصل الحد الأدنى لرواتب العاملين بالقطاع العام في مناطق سيطرة النظام حوالي 185 ألف ليرة (13 دولارًا)، فيما بلغ متوسط تكاليف المعيشة أكثر من 10.3 مليون ليرة، وبالتالي فإن متوسط تكلفة المعيشة في سوريا يقارب 55 ضعف الحد الأدنى للأجور.
“المولات” منفصلة عن الواقع
لا تحاكي “المولات” في مناطق سيطرة النظام الواقع الاقتصادي للبلاد، إذ إن أسعار البضائع لا تتوافق مع دخل الفرد أو العائلة، ولا توفر أسعارًا تتناسب مع جميع طبقات المجتمع السوري.
وبحسب الباحث الاقتصادي مناف قومان، فإن السياسات الاقتصادية التي يقرها النظام السوري من إشراف ورقابة ومتابعة ليست على قدر المسؤولية ولا تمت للمواطن أو التاجر بصلة.
وقال قومان، إن النظام السوري منفصل عن الواقع الاقتصادي للبلاد، ويهتم ببقائه في السلطة على حساب المواطن والتاجر والصانع أيضًا.
ويلجأ التجار في تسويق وبيع بضائعهم إلى الفئة ذات الدخل الجيد أو الممتاز، ومنهم السياح وأهالي المغتربين الذين يحصلون على دعم مادي من أولادهم او أحد أفراد عائلاتهم، بحسب ما قاله التاجر “سليم” في “مول شام سيتي سنتر”.
وبحسب تعبير “سليم”، “ببساطة لن تجد في (المول) من يشتري بنطالًا بمئة ألف ليرة في حين سيجد شبيهه بـ70 ألفًا خارجه”.
وعزا التاجر الأمر إلى أن الأرباح لم تعد كما كانت عليه فيما مضى، “إلا أنه وبالوقت ذاته لا نستطيع الجزم بخسارة التجار، فبعضهم شركاء مع مسؤولين وضباط في الدولة، وبالتالي هناك تغاضٍ عن الضرائب والتسعيرات، مقابل أن تحافظ الأرباح على مستواها قدر الإمكان”، بحسب تعبيره.
“مو لكل الناس”
تختلف آراء السكان المحليين في مناطق سيطرة النظام بما يخص التسوق من “المولات” أو من الأسواق الشعبية المتعارف عليها.
ويعود ذلك للفجوة ما بين أسعار السلع في “المول” التي لا تتصل بالواقع الاقتصادي للسكان، وبين قدرة الفرد على تأمين هذه السلع.
تفضّل شريحة من المجتمع التسوق من “المولات” لأنها تجمع كل ما قد تحتاج إليه العائلة بمكان واحد، كحالة سوزان، ربة منزل وزوجة لمدير في إحدى الشركات بدبي، طلبت عدم ذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية، وتختار سوزان التسوق من “المول” لأنها لا ترى فرقًا كبيرًا بالأسعار، ولرخص ثمن المنتجات حين تقارنها مع الأسعار في الدول المجاورة، بحسب تعبيرها.
وتعتمد شريحة أخرى من السكان على الأسواق الشعبية، باعتبارها الأسواق المتعارف عليها لدى المجتمع السوري، ومنهم نسرين، من سكان ركن الدين بدمشق، التي تفضّل الأسواق الشعبية والمحال العادية لانخفاض أسعارها مقارنة بالأسعار في “المولات”، ولقدرة الزبون على “المفاصلة”.
وقالت نسرين، إن حميمية الأسواق الشعبية في دمشق تجعلها تفضّلها على الأسواق الحديثة.
وقالت علا (40 عامًا)، من سكان البرامكة في مدينة دمشق، إنها لم تدخل مركز تسوق حتى يومها هذا، ككثير من أقربائها، وإن الفكرة غير مطروحة كونها تضيع الوقت والمال، “فلن تدخل (المول) دون أن تدفع، لأنه مو لكل الناس”، بحسب تعبيرها.
وعلى عكس ما هو رائج في دول العالم، ومع تراجع الوضع الاقتصادي لسوريا ومواطنيها، يبقى الاعتماد على التسوق من المراكز التجارية (المولات) حكرًا على أصحاب الدخل العالي والسياح وعلى المغتربين خلال زياراتهم.
يسود مناطق سيطرة النظام السوري واقع اقتصادي متهالك، أرجعته مؤشرات البنك الدولي في المقام الأول إلى تدمير رأس المال المادي في العقد الأخير، واضطراب النشاط التجاري، إضافة إلى آثار الزلزال المدمر في شباط 2023.
وتعتبر الأزمة الاقتصادية في سوريا من أسباب اندلاع الثورة السورية عام 2011، كما تتصدر سوريا قائمة الدول الأكثر فقرًا بالعالم، بنسبة بلغت 82.5%، بحسب بيانات موقع “World By Map” العالمي، ويعيش 90% من السكان تحت خط الفقر بحسب منظمة الصحة العالمية.
وتأتي سوريا بالمرتبة الثانية بعد الصومال ضمن “مؤشر مدركات الفساد” لعام 2022.