علي عيد
يمضي غالبية الصحفيين عقودًا في حياتهم المهنية وهم يكافحون للوصول إلى نهاية الشهر دون ديون متراكمة، وقلة منهم ينفذون إلى مؤسسات كبرى تكفيهم مسألة الفقر في أحسن الأحوال، وهنا أتكلم عن حال الصحفيين على مستوى العالم، فالبعض يعتقد أن الصحفي الأوروبي يغرف من خزينة الصحافة بلا حساب.
فوجئت في اجتماع الفيدرالية الأوروبية للصحفيين في لشبونة، منتصف 2018، خلال مناقشة تقرير وضع الصحفيين، أن بعض الدول الأوروبية لا يزيد فيها مرتب الصحفي على ألف يورو، وانخفض في البرتغال إلى 800 يورو فقط، وكان ذلك تحت تأثير تراكمات الأزمة الاقتصادية العالمية، لكن في جميع الأحوال، عملت لبعض الوقت في مؤسسة “Euronews”، بمقرها في ليون الفرنسية، وكنت أتقاضى عن الساعة الواحدة نحو 14 يورو، نحو 40% منها تذهب للضرائب، وكانت هذه الحال تنطبق على مئات الصحفيين في قنوات تلك المؤسسة الأوروبية العريقة.
أثرياء الصحافة في العالم مثل الأمريكي أندرسون كوبر، والأسترالي جوليان أسانج، والبريطاني جيمس ماي، وحتى أولئك القلة الموجودون في العالم العربي، ليسوا تعبيرًا عن اقتصاد الصحفيين، فهؤلاء استثمروا في المهنة بأدوات موازية، مثل الكتب أو الشهرة أو تصادف أن وجدوا فرصة تنطبق فيها احتمالات الثراء على أي عامل في وظيفة أخرى، ومنهم من استغل موقعه للإثراء، ومع ذلك فهم ليسوا أثرياء “ملياريين”، وإن كنت لا أتحدث هنا عن الصحافة كمهنة إثراء مالي بقدر ما تكفي أبناءها أو توفر بعض المدخرات.
وللدلالة على وضع الصحافة بين المهن المدرة للمال، فهي لم ترد في قائمة المهن العشر الأولى التي أوردها تقرير موقع “بيزنس إنسايدر الأمريكي”، عام 2020، وأهمها الأعمال المصرفية، وخدمات الأعمال، والعقارات، والتكنولوجيا، والصناعة.
ولم تكن الصحافة بين الـ20 مهنة ذات الرواتب الأعلى في ألمانيا، عام 2021، حسب موقع “careeraddict”، وصحيح أن وظيفة “مدير قناة” احتلت المرتبة السابعة، لكنها لا تعنى بوظيفة الصحفي، بل بوصف أصحاب هذه الوظيفة على أنهم “ميسرون لعملية المبيعات”، ويستخدمون تقنيات التسويق وأدوات بناء العلاقات لضمان وصول منتج الشركة أو خدمتها إلى أوسع قاعدة من العملاء، وهم ذوو معرفة متعمقة بالتركيبة السكانية والاتجاهات والتسويق والعملاء.
وتنطبق الحال في ألمانيا على فرنسا والصين.
هذا التصنيف المتدني لدخل الصحفي مرتبط بانخفاض الطلب المتزايد على هذه المهنة لأسباب متعددة، منها سطوة وسائل التواصل الاجتماعي وتراجع دور وسائل الإعلام التقليدية، لذلك تجد أن المحررين الرقميين يأخذون دورًا متقدمًا مع تغير ملامح القطاع، وهو ما يعني أن الموجة الجديدة للذكاء الاصطناعي تفرض تغيير تعريف الصحفي من مجرد كونه جامع معلومات متمكنًا ومقنعًا إلى صانع محتوى متعدد المهارات (Multi-skilled)، أو متعدد المهام (Multi-tasking).
انخفاض الطلب على مهنة الصحافة بمعناها التقليدي أدى إلى نشوء صراع على الفرصة في دول لا يجري فيها تطوير المهارات بشكل مستمر، ومنها سوريا، إذ غالبًا ما يؤدي إغلاق مؤسسة صحفية إلى ضياع كادرها، أو نشوء أزمة لا تقف عند حد اقتصادي، بل تأخذ طابعًا إنسانيًا في معظم الأحيان، فالمؤسسات الخاصة لا تؤمّن استراتيجيات خروج آمنة لكوادرها، لأنها مبنية بالأساس على شرط الضرورة الآنية أو استثمار الظروف، لا على أساس مؤسسي يحاكي متطلبات سوق الإعلام ويواكب تطوراته.
تنطبق حال المؤسسات الخاصة على المؤسسات الحكومية، ففي سوريا، يمكن أن ترى رئيس تحرير أو مديرًا عامًا لمؤسسة صحفية كبيرة تمولها الدولة يبحث عن استكتاب بـ50 أو مئة دولار بعد إغلاق المؤسسة، أو حتى في حال خروجه إلى التقاعد.
ليست هناك حلول في قطاع الصحافة ذاته لضعف مداخيل الصحفي بالإعلام، ولا ينبغي أن يتسبب هذا الأمر بإحباط لدى الصحفيين المبتدئين، فالحلول يمكن أن تتوفر في اعتماد الصحفي على تنمية مهاراته للاستدامة لا للإثراء، كما أن أزمة ضعف مداخيل الصحفيين، وتركهم للمجهول، تتطلب نشاطًا نقابيًا مختلفًا، يبحث مع المؤسسات تأمين الحد المعقول للدخل، والأمن الوظيفي في حال الإغلاق، وحتى القيام بحملات تحشيد ومناصرة لتنظيم عقود عمل ملائمة تحفظ حق الصحفي والمؤسسة.
قبل نحو 13 عامًا، تعرفت في سوريا إلى صحفيين أمضى كلاهما ما لا يقل عن 20 عامًا في المهنة، ويتوليان منصبين مهمين في مؤسستين إعلاميتين حكوميتين، والمفاجأة أنهما كانا ينشطان في إقناع مديري مؤسسات خاصة وعامة لنشر الإعلانات والاشتراك في مجلة لبنانية، ويتقاضيان ربع المبالغ المحصلة مقابل ذلك، ولم يكن ذلك عيبًا في الصحفيين، لكنه يمكن أن يكون عملًا موازيًا لتجنب الانحراف فيما يكتبانه أو يمررانه في الإعلام، وكنت أسأل في نفس الوقت، هل يحصّل هؤلاء الإعلانات والاشتراكات إلا لكونهما يستفيدان من منصبيهما، وكيف يمكن التوفيق بين الأمرين.
في الخلاصة، إذا أردت أن تعمل صحفيًا، وأن تكون مستقلًا ونزيهًا، عليك أن تسعى وراء شغفك، وأن تتحضر لأزمات مالية قد لا تحصل وقد تحصل وتعصف بحياتك، وإذا كنت تعتقد أن الثروة لبعض مقدمي البرامج العرب هي عمل صحفي.. فللحديث بقية.