هوامش قانونية في قضية إعلاميي “أورينت”
غزوان قرنفل
لا يستقيم في العقل القانوني الرشيد ذلك التكييف القانوني لجريمة “الإساءة للدولة التركية” التي نسبت لاثنين من صحفيي قناة “أورينت”، والتي قضت فيها محكمة الجنايات الثامنة في اسطنبول بحبسهما ست سنوات وشهرًا واحدًا، على خلفية بث حلقة تلفزيونية تناولت قضية جرائم وانتهاكات ارتكبها بعض عناصر “الجندرما” بحق سوريين على الحدود السورية- التركية.
ذلك أن قيام إعلامي بإثارة نقاش حول وقائع جرمية ثابتة ومعلنة ومعترف بها رسميًا من قبل وزارة الدفاع نفسها، ووقائعها منشورة في غير تقرير حقوقي، ومنها تقرير لواحدة من المنظمات الحقوقية البارزة في تركيا، لا يمكن، ولا يجوز، أن يشكل جريمة يطالها القانون، خصوصًا أن الجهة المنسوب إليها ارتكابها جهة إعلامية مرخص لها العمل على الأراضي التركية، وبالتالي فإن قيامها بعملها لا يمثل انتهاكًا أو تجاوزًا للقانون بأي حال.
وليس من منطق الأمور الزعم بأن تناول أي مثلبة أو نقيصة أو جريمة بالتحليل والنقاش العلني إساءة للدولة لأنها تسيء لسمعتها! لأن القبول بذلك التفسير لا يفضي فقط إلى كمّ الأفواه وإخراس الإعلام، وإنما أيضًا يفترض وجود دولة مثالية خالية من العيوب والنقائص، وهذا غير واقعي ومحض هراء وخيال. بل على العكس تمامًا، إن الجريمة نفسها وثبوت وقوعها وعدم اتخاذ إجراءات حيالها هو ما يسيء للسمعة وليس الحديث عنها وتعرية مرتكبيها والمطالبة بمحاسبتهم، فمواجهة الحقائق واتخاذ التدابير بشأنها لتصويب السلوكيات هو ما يمنح الدولة مناعة، ويسبغ عليها صفة دولة القانون ويرفع من شأنها وشأن سمعتها.
الجريمة، أو الجرائم موضوع الحلقة، التي أثارت حفيظة بعضهم، كانت قد فتحت فيها السلطات القضائية في هاتاي تحقيقًا أسفر عن توقيف ثلاثة ضباط، كما أخضع ثلاثة جنود للرقابة القضائية، وفق ما نشرته صحيفة “evrensel” التركية في 18 من آذار 2023، وكانت عدة تقارير حقوقية، أحدها صدر عن جمعية “مظلوم دار” وهي منظمة حقوقية تركية، نشر في 9 من حزيران 2021، رصدت عمليات قتل لسوريين يحاول بعضهم عبور الحدود، وبعضهم تم قنصهم داخل الحدود السورية ودون أي محاولة منهم لدخول الأراضي التركية. كما أصدرت جمعية حقوق الإنسان التركية (IHD)، في أيلول 2021، بيانًا نوهت فيه إلى الانتهاكات التي يتعرض لها اللاجئون السوريون على أيدي بعض عناصر “الجندرما”، وأشارت إلى مقتل 502 من المواطنين السوريين، بينهم 161 امرأة وطفلًا خلال السنوات العشر الأخيرة، ونحن هنا ما زلنا نتحدث عن توثيقات وتقارير حقوقية لمنظمات تركية وليست أجنبية، وبالتالي لا أحتاج تاليًا إلى الإشارة لتقرير “هيومن رايتس ووتش” الصادر في أيار الماضي وما تضمنه بهذا الشأن.
السؤال هو، لماذا كل ما ورد أعلاه عن مؤسسات حقوقية وإعلامية تركية لم تعتبره الحكومة إساءة للدولة التركية، في وقت اعتبرت الحديث فيه من صحفيين سوريين، يعملان في مؤسسة إعلامية سورية مرخص لها العمل في تركيا حتى قبل شهرين من الآن، عن نفس الموضوع والوقائع والتقارير إساءة للدولة التركية، وتجريمهما والحكم عليهما بعقوبة الحبس ست سنوات وشهر؟!
الدستور، والذي هو أبو القوانين في كل دول العالم ومنها الدستور التركي الذي لا يجوز إصدار قوانين تخالف قواعده العامة ونصوصه، ينص في مادته رقم “26” على أن: “لكل شخص الحق في التعبير عن أفكاره وآرائه ونشرها فرديًا أو جماعيًا، بالقول أو الكتابة أو الصور أو غيرها من الوسائل، وتشمل هذه الحرية حرية تلقي المعلومات أو الأفكار، ونقلها دون تدخل من السلطات الرسمية”.
كما تنص المادة “28” منه على أن: “الصحافة حرّة، ولا يمكن إخضاعها للرقابة، ويقع على عاتق الدولة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بضمان حرية الصحافة والإعلام”.
إذًا، يمكننا القول إن الجريمة المنسوبة للمتهمين فاقدة لأركانها القانونية، وبالتالي لم يكن الحكم الصادر في محله القانوني، ولم يكن متسقًا مع القواعد الدستورية لهذه الناحية، وأزعم أنه سيتهاوى عند البحث والتمحيص فيه بعد تقديم طعن عليه أمام المرجع القضائي الأعلى، بل وستتهاوى معه أيضًا أي مزاعم بتقديم معلومات مضللة أو نشرها أو ترويجها، لأن البرنامج أصلًا تناول الموضوع بالاستناد إلى حزمة المعلومات والتقارير الحقوقية المنشورة والمتداولة في وسائل الإعلام التركية نفسها، وبالتالي لا يستقيم الأمر أن تكون المعلومات غير مضللة عندما تنشر ويتم تداولها في وسائل إعلام تركية، وتصبح خلاف ذلك إن تناولتها وسيلة إعلام سورية، بنفس القدر الذي ستتهاوى معه أيضًا أي مزاعم بالتحريض على الكراهية، لأن تناول الحقائق الثابتة ومناقشتها بهدف دفع الحكومة لاتخاذ إجراءات إدارية أو قضائية حيالها لا يعتبر تحريضًا، فتلك هي وظيفة وسائل الإعلام وتلك هي مهامها.
القضاة بشر يخطئون هنا ويصيبون هناك وهذا لا ينتقص من مكانتهم ولا يقلل من هيبتهم، ولذلك لم تركن كل المؤسسات التشريعية والقضائية قط لفكرة التقاضي على درجة واحدة، بل حرصت دائمًا على أن يكون حق التقاضي على درجتين، تحصينًا لفكرة العدالة وإعلاء لمبدأ سيادة القانون وضمانًا لحسن تطبيقه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :