عنب بلدي – رزام السوادي
نشطت الأسواق التجارية (المولات) في مناطق شمال غربي سوريا، حيث تسيطر حكومتا “الإنقاذ” و”المؤقتة”، فارضة نفسها كوجهة لتأمين مستلزمات السكان.
وجود “المولات” لا يعكس حالة اقتصادية “جيدة” في منطقة تمتلئ بالمخيمات، ويقطنها 4.5 مليون نسمة، منهم 3.7 مليون يعانون انعدام الأمن الغذائي، ومليونا شخص في المخيمات من إجمالي 2.9 مليون نازح، وفق بيانات الأمم المتحدة الأحدث.
مع أي حديث عن “المولات” تختلف الآراء ووجهات النظر حول الجدوى من وجودها، ومدى إقبال الأشخاص على الشراء منها، خاصة مع ارتفاع معدلات البطالة، وقلة القدرة الشرائية لدى السكان.
آراء أخرى ترى في افتتاح هذه “المولات” نهضة اقتصادية للمنطقة، ومصدر رزق للعديد من الأشخاص.
بين اختلاف الآراء، يواجه أصحاب المحال أنفسهم تحديات للبقاء، نظرًا إلى قلة الإقبال وتردي وضع الأهالي اقتصاديًا، وانتشار الفقر.
“مولات” صغيرة
“المول” كما هو متعارف عليه عالميًا، مركز تسوق أو مجمع تجاري يضم متاجر ومطاعم وألعابًا متنوعة إضافة إلى مواقف سيارات.
ويختلف إطلاق تسمية “المول” من قبل السكان في شمال غربي سوريا، إذ يطلق بعضهم هذه التسمية على المجمعات التجارية الطابقية الكبيرة ذات المساحات الواسعة، بينما يطلقها آخرون على محال واسعة تتضمن أقسامًا محددة (ليست كبيرة).
تتكون “المولات” المصغرة من طابق واحد أو اثنين كحد أقصى، ولا تحوي داخلها متاجر متنوعة، بل فيها أقسام تعرض منتجات بثلاثة أو خمسة أصناف (ألبسة، عطورات، ألعاب أطفال)، لكن لا تحمل مواصفات “المول” المتعارف عليها.
أبرز هذه “المولات”، “مجمع إدلب للتسوق”، و”مول القهواتي”، و”مول ريتال”، وتتوزع في مناطق مختلفة من محافظة إدلب، بينما في شمالي حلب، يوجد “مول الأسرة”، و”مول الخطيب”.
أحمد نيعة، طالب جامعي كان يعمل في أحد “المولات المصغرة” بمدينة اعزاز، قال لعنب بلدي، إن “المول” حيث عمل يلقى إقبالًا من السكان لأن المحال فيه تطرح عروضًا وتنزيلات وتقيم فعاليات تجذب الناس وتشجعهم على الشراء، لذلك من النادر أن يأتوا فقط للمشاهدة.
وتابع أن الأسعار نفسها لم تكن غالية، ومناسبة لسكان المنطقة، والمنتجات الغالية تكون ذات علامات تجارية مشهورة (ماركات) في الغالب.
بالمقابل، قالت ثريا الشيخ، تقيم في مدينة اعزاز، إن أسعار البضائع في “المولات” تكون أغلى من الأسواق العادية، وأحيانًا تصل إلى الضعف.
ولا تعلم ثريا السبب وراء الفارق الكبير بين أسعار “المولات” والأسواق العادية، وقالت إنه قد يعود لجودة البضائع أو إيجار المحال في “المول” مع أن البضائع في بعض الأحيان تكون نفسها لكن الأسعار مختلفة.
تحدثت ثريا عن تجربتها عندما اشترت حذاء من “المول” بسعر 250 ليرة تركية، وشاهدت نفسه في السوق لكن بسعر 150 ليرة.
“مولات” إدلب
خلال العامين الماضيين، نشطت “المولات” بالشمال السوري، خاصة في مدن تابعة لإدلب، حيث تتمركز فيما يعرف بـ”شارع المولات” بمدينة الدانا وسرمدا.
ويعتبر “مول الحمرا” من أضخم وأشهر المراكز التجارية في مدينة الدانا، ويضم خمسة طوابق، تتوزع فيها محال توفر منتجات وخدمات مختلفة، كالمطاعم ومحال الأدوات المنزلية والكهربائية والتكنولوجية والملابس والمفروشات، إضافة إلى فعاليات متنوعة تقيمها إدارة “المول” أحدثها المهرجان السنوي الأول الذي بدأ في 7 من كانون الأول الحالي.
ويأتي “رويال مول” في سرمدا بعده من ناحية الضخامة، إذ يتكون من ثلاثة طوابق على مساحة واسعة تضم متاجر متنوعة تحوي منتجات تجميلية تخص السيدات وملابس لمختلف الأعمار والمناسبات.
مؤخرًا، نشرت مواقع وصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي صورًا لـ”مول” جديد لم يُفتتح بعد، يدعى “مول البدوي”، ويحمل مواصفات مشابهة لـ”مول الحمرا” و”رويال مول”.
ورصدت عنب بلدي في إدلب وريفها نشاطًا لـ”مولات” أقل ضخامة في مدينة إدلب، ومعرة مصرين، وبنش.
في حلب أيضًا
أما في شمالي حلب فتنتشر مراكز تجارية بمدينة اعزاز، منها “مول سقيط” في سوق المدينة، ويتألف من ثلاثة طوابق تحتوي على متاجر متخصصة لبيع الألبسة والمواد التجميلية والزينة.
و”مول كنو” الذي يقع في سوق المدينة أيضًا، ويتألف من أربعة طوابق، ثلاثة فيها متاجر لبيع الألبسة فقط، والطابق العلوي يحوي عيادات طبية.
ويعتبر “مول اعزاز” من أكبر المراكز التجارية في المنطقة، ويحوي متاجر تبيع سلعًا متنوعة، ويتكون من أربعة طوابق، في الطابق الأرضي والأول والثاني متاجر لبيع الألبسة و”الإكسسوارات” والمنتجات التجميلية، بينما في الطابق الثالث مكاتب لشركات مختلفة، وفي الرابع قاعة طعام (كافتيريا).
الإيجارات داخل “المول”
تتبع “المولات” نظام تأجير المحال، وتختلف الإيجارات بينها، فكل مركز له تسعيرة خاصة وطريقة دفع مختلفة، بحسب أصحاب محال تجارية ضمن “مولات” إدلب وريف حلب، تحدثت إليهم عنب بلدي.
مدين الشامي، يعمل في مجال العطورات بأحد متاجر “مول الحمرا”، قال إن سبب اختياره استئجار محل داخل “المول” جذبه للزبائن، إضافة إلى أجرة المتجر داخل المول التي تعتبر أقل من خارجه.
ويتراوح الإيجار الشهري لمتجر في “مول الحمرا” بين 75 و100 دولار أمريكي، وتدفع ضمن عقد لثلاثة أو ستة أشهر.
بحسب مدين، شهدت الحركة التجارية في “المول” عند افتتاحه إقبالًا جيدًا، وأمّنت مرابح للمتاجر داخله كون التكاليف تعتبر مقبولة في أجواء تنافسية وعروض مستمرة تجذب الزوار، وبنفس الوقت نشأت مشكلات لأصحابها مع تراجع المرابح.
وأضاف أن الضجة الإعلامية التي أثيرت مؤخرًا حول “المولات” وخاصة “الحمرا”، أسهمت في تراجع الإقبال بشكل كبير، وقال مدين، “نأمل أن تعود الحركة مجددًا لكيلا نضطر لتخفيض عدد العمال أو إغلاق المتجر”.
بينما قال مُضر شيخ نايف، وهو أحد أصحاب المحال في “مول اعزاز”، لعنب بلدي، إن من يود افتتاح مشروع ما، عليه أن يدرس الموقع ومدى تناسبه مع مشروعه في البداية.
لذا يتجه أغلب أصحاب المتاجر لفتح مشاريعهم في الأسواق المركزية، وغالبًا يكون من الصعب تأمين مكان فيها، لذا يعتبر “مول اعزاز” المركز الثاني في المدينة من ناحية حركة التسوق، ويُعد خيارًا للعديد من أصحاب المحال.
وحسب مُضر، يلعب الموقع وحركة العمل دورًا باختلاف الإيجارات، ولا علاقة لكون المحل داخل أو خارج “المول”، إذ يتراوح إيجار المحل داخل “مول اعزاز” بين 75 و300 دولار شهريًا، والدفع يكون كل ثلاثة أو ستة أشهر.
ويرى مُضر أن سكان المنطقة يخافون من دخول “المولات” لاعتقادهم أن الأسعار داخلها مرتفعة بسبب هالة “المول” من فخامة وتصميمات حديثة، “وقد يكون هناك شيء من الحقيقة”، لكن الإقبال بشكل عام حسب مُضر جيد، لكنه لا يُقارن بالسوق الشعبي الذي يزوره الفقير والغني وكل الطبقات، عكس “المول”.
وأضاف أن الوضع الاقتصادي في الشمال من سيئ إلى أسوأ، وأغلب السكان موظفون حكوميون لا يتجاوز راتبهم الـ70 دولارًا شهريًا، إضافة إلى هبوط قيمة العملة التركية مقابل الدولار، وتحكم الأخير بالسوق التجاري للمنطقة، بينما يتم التعامل بالليرة التركية، وكل ذلك خلق مشكلات لصاحب المتجر من ناحية البيع والشراء.
أجور متدنية
ينقسم العمال بـ”المولات” في شمال غربي سوريا إلى قسمين، منهم تابعون لإدارة “المول”، ويعملون في مجالات النظافة والأمن والتنسيق والتنظيم وغيرها من المهام الموكلة للإدارة.
وتتراوح أجورهم الشهرية بين 100 و150 دولارًا، أما العاملون داخل المتاجر فتتراوح أجورهم بين 90 و125 دولارًا، بنظام عمل 12 ساعة وعطلة أسبوعية، وفق أصحاب محال تحدثوا لعنب بلدي.
قال محمد (42 عامًا)، وهو نازح يقيم بمخيمات الدانا ويعمل عامل نظافة في “مول الحمرا”، إنه يتقاضى 100 دولار كأجر شهري وتزيد قليلًا في بعض الأحيان إن حصل على مكافآت (بقشيش).
محمد (تحفظ على ذكر اسمه الكامل) يعمل 12 ساعة يوميًا، ولديه يوم واحد عطلة أسبوعية، قال إن ما يتقاضاه لا يكفيه أجرة مواصلات وثمن بعض المستلزمات المنزلية، “لو أني اعتمدت على الراتب لقتلنا الجوع، ولكن ما يعيننا سلة إغاثية وبعض المساعدات من أهل الخير”.
عبد الله المحمد، طالب جامعي يعمل في أحد أقسام “سيتي مول” بمدينة بنش بريف إدلب قال لعنب بلدي، إنه إلى جانب عمله بقسم القرطاسية، يقوم بتنسيق البضاعة ومساعدة الزبائن في إيجاد متطلباتهم ويتقاضى 75 دولارًا راتبًا شهريًا، وأضاف أن الراتب أمّن له قسط الجامعة، وبعضًا من مصروفه اليومي، بعد أن ادّخره طيلة عمله خلال العطلة الصيفية.
مشاريع استهلاكية
وصل حد الفقر في مناطق سيطرة حكومتي “الإنقاذ” و”المؤقتة” إلى 7318 ليرة تركية (394 دولارًا)، وحد الفقر المدقع إلى 5981 ليرة تركية (322 دولارًا)، ووصلت نسبة البطالة إلى 88.74% بشكل وسطي (مع اعتبار أعمال المياومة ضمن الفئات المذكورة)، بحسب فريق “منسقو استجابة سوريا” العامل في المنطقة.
وقالت مساعدة الباحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، الحاصلة على ماجستير بالاقتصاد من جامعة “مرمرة”، نجاح عبد الحليم، لعنب بلدي، إن هذه المشاريع (المولات) بطبيعتها استهلاكية، يستفيد منها التجار وأصحاب رؤوس الأموال، إذ تؤمّن لهم الربح السريع، ولا تتضمن مساهمة فعالة بإعادة تأهيل البنية التحتية أو خلق فرص عمل مستدامة.
وتبدو المشاريع الحالية وكأنها تسهم في عملية التعافي المبكر وجذب الاستثمارات، إلا أنها تعجز عن تقديم قيمة مضافة للاقتصاد المحلي، إذ تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية المناسبة لتعزيز الاقتصاد المحلي وتعزيز القدرات الإنتاجية، حسب عبد الحليم.
وترى مساعدة الباحث أن الوضع المستقبلي لهذه المشاريع يتطلب مراجعة شاملة وتحسينات جوهرية تسهم في تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد المحلي، وتحفيز الاستثمارات التي تسهم في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز القدرات المحلية دون الاعتماد الكبير على السلع المستوردة.