شهدت الأسابيع الماضية صدور قرارات رسمية في سوريا عن إقالة مسؤولين من مرتبات الصف الثالث أو الرابع، واعتقالات أو إجراءات تظهر على أنها لمحاربة الفساد، في بلد يقبع في المركز الأخير ضمن قائمة البلدان الأقل فسادًا.
بعض الإجراءات لم تُعلن بشكل رسمي، وبقيت حبيسة تسريبات لأشخاص مطلعين وصور متداولة على أنها قرارات “محاسبة”، وتسجيلات لاقتياد شخصيات شغلت مناصب إلى خلف القضبان، كاعتقال محافظ اللاذقية السابق، إبراهيم خضر السالم، بقضايا فساد وهدر للمال العام.
هذه الحالات ظهرت على الواجهة الإعلامية، لكنها لا ترمم أو ترقّع حجم الفساد الذي وصلت إليه سوريا، لأن قضايا الفساد المالي في الوزارات والمؤسسات ذات الطابع الاقتصادي والإداري زادت، وفق تقرير صادر في نيسان الماضي عن “الجهاز المركزي للرقابة المالية”.
الفساد ينخر مفاصل المؤسسات
بلغت نسبة المبالغ المكتشَفة في قضايا الفساد والمطلوب استردادها أكثر من 104 مليارات ليرة سورية (13.7 مليون دولار أمريكي)، استرد منها سبعة مليارات ليرة سورية فقط، وفق تقرير “الجهاز المركزي”.
وتوزعت قضايا التحقيق على 20 وزارة، ووصلت المبالغ المكتشَفة والمطلوب استردادها بالقطع الأجنبي في هذه الوزارات إلى مليون و687 ألف دولار أمريكي، إضافة إلى 250 ألف يورو، وعشرة آلاف يوان صيني، ولم يُسترد من مجمل هذه الأموال سوى 21 ألف دولار فقط.
ومقارنة مع حجم الأموال المكتشَفة والمطلوب استردادها خلال عامي 2020 و2021، ارتفع حجم الأموال بشكل كبير في عام 2022 بجميع القطاعات، فخلال عام 2021، كشف تقرير “الجهاز المركزي للرقابة المالية” عن حجم المبالغ المكتشَفة في قضايا الفساد، وبلغت 22 مليار ليرة سورية، وفي عام 2020، بلغ حجم المبالغ المكتشَفة والمطلوب استرجاعها 6.7 مليار ليرة.
وينخر الفساد أكثر من ثلثي دول العالم، بحسب تقرير منظمة “الشفافية الدولية” لعام 2022، والذي احتلت فيه سوريا المرتبة قبل الأخيرة، إذ أدت سيطرة النظام السوري على مفاصل الدولة لمنافسة سوريا على المراكز الأخيرة في تصنيفات المنظمات للبلدان الأكثر فسادًا.
واحتلت سوريا المركز الأخير ضمن قائمة البلدان الأقل فسادًا، وفق تصنيف منظمة “غلوبال ريسك” لعام 2023، المتخصصة في خدمات إدارة المخاطر.
وبحسب التصنيف الصادر في 8 من تشرين الثاني الماضي، تقع سوريا في المركز 196 أخيرًا من بين الدول المصنّفة بعد اليمن وجنوب السودان والكونغو وكوريا الشمالية.
في 9 من كانون الأول الحالي، حين صادف الذكرى السنوية الـ 19 لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، لتسليط الضوء على الصلة الوثيقة بين مكافحة الفساد والسلام والأمن والتنمية، قالت السفارة الأمريكية في سوريا، إن الأخيرة لا تزال تصنف كواحدة من أكثر الدول فسادًا في العالم.
وعبر حسابها على “إكس” أوضحت السفارة الأمريكية أن الانكماش الاقتصادي في سوريا سببه الإدارة والفساد الذي يتحمل النظام السوري مسؤوليته، مشيرة إلى عدم الخداع بأحاديث النظام.
اعتقال محافظ
يعد التحقيق مع محافظ وسجنه سابقة في سوريا، وعادة ما يتم التستر على ملفات الفساد والمسؤولين عنها، لكن في نهاية أيلول الماضي، اعتقلت القوى الأمنية إبراهيم خضر السالم من منزله في مدينة اللاذقية، وجرى اقتياده إلى سجن اللاذقية المركزي “البصة”، على ذمة التحقيقات بعشرة ادعاءات.
وجرى تداول أو تسريب تسجيل مصور للسالم وهو في المحكمة والأصفاد في يديه، وتمكنت عنب بلدي من معرفة التهم الموجهة إليه، وأبرزها غسيل الأموال والتعامل بغير الليرة السورية، وهدر المال العام، والرشوة، وتغيير صفات تنظيمية، والسماح بمخالفات البناء واستملاك أراضي الدولة.
وقال مصدر مطلع على سير التحقيقات، فضل عدم ذكر اسمه، إن هناك سرّية كبيرة في عملية التحقيقات، كما أن إضبارة الادعاء ضد السالم جرى التحفظ عليها لدى النائب العام في اللاذقية.
وأضاف المصدر أنه بالإضافة إلى المحافظ، يوجد نحو عشرة مسؤولين سابقين من اللاذقية موجودين معه في السجن، من بينهم مدير المصالح العقارية، جهاد حاطوم، ورئيسا بلدية اللاذقية سابقًا، محمد فواز حكيم وأحمد وزان، ياسر البودي معاون مدير المصالح العقارية، ورجل الأعمال والمتعهد يوسف الحاج، وشخص استلم منصب مدير الخدمات الفنية سابقًا، ونائب في البرلمان بعد رفع الحصانة عنه دون أن يذكر المصدر اسميهما.
أكبر التهم الموجهة للمحافظ تخص ضاحية الزيتونة التي تعتبر أحد أكبر المشاريع السكنية في سوريا.
وبحسب المعلومات التي حصلت عليها عنب بلدي، فإنه لا يمكن فرز أراضي الضاحية، لوجود مخططات تنظيمية قديمة، وأماكن لمدارس، إضافة إلى تداخل الورثة في معظم أراضي الضاحية، وأيضًا لوجود أملاك عامة وحدائق، لكن المحافظ المعتقل استغل صلاحياته ومنح المتعهد يوسف الحاج جميع التسهيلات اللازمة لإشادة مشروع بناء الضاحية قبل نحو ست سنوات، والذي يعتبر أحد أرقى أحياء مدينة اللاذقية حاليًا.
من بين الملفات التي يتم التحقيق فيها مع السالم، وفق المصدر، هو موافقته على تشييد المخالفات مقابل حصوله على طابق كامل في كل مخالفة، وتغيير صفات تنظيمية حيث تم تحويل الأبنية التجارية إلى سكنية لتشييد المزيد من المنازل، رغم أن الأرض ربما تكون غير صالحة لبناء عدة طوابق فوقها.
وشكك أهالي وصفحات إخبارية محلية من أن كل ملفات الفساد تلك سواء المعلنة أو ما خفي منها ليست مبررًا لاعتقال السالم، فضاحية الزيتونة شيّدت دون توجيه أي سؤال له، وهو المحمي من المستشارة الرئاسية بثينة شعبان، كونه أحد أقاربها ويقال إنه صهرها زوج شقيقتها، لكن لم تستطع عنب بلدي التأكد من المعلومة الأخيرة، في حين أن دعمه من بثينة شعبان ليس خافيًا في اللاذقية.
هروب وابتعاد عن الأنظار
لا يزال مدير الشؤون الاجتماعية والعمل السابق، عمار أحمد صقر، مختفيًا منذ نحو 45 يومًا، بينما تفيد المعلومات بأنه بات خارج سوريا، حيث هرب إلى لبنان بعد معرفته بقرب اعتقاله على خلفية قضايا فساد.
إضافة إلى هروب صقر، تقول المعلومات التي حصلت عليها عنب بلدي من مصدر مطّلع، إن مديرًا كبيرًا في فرع الهلال الأحمر باللاذقية لا يزال متواريًا عن الأنظار، على خلفية فساد وسرقة المساعدات الإنسانية التي كانت قادمة لمتضرري الزلزال، وتقدر قيمة المسروقات بنحو 22 طنًا تبلغ قيمتها مليارات الليرات.
وبحسب المعلومات فإن ملف صقر فضح عند زيارة وزير الشؤون الاجتماعية والعمل لؤي المنجد إلى اللاذقية في حزيران الماضي، واجتماعه برؤساء الجمعيات الأهلية والخيرية فيها، حيث تم مناقشة العديد من الملفات من بينها اتهامات بالفساد تم توجيهها بشكل مباشر إلى صقر وعدة مسؤولين آخرين بينهم مديرًا كبيرًا بـ”الهلال الأحمر السوري”.
إلا أن الوضع استمر هادئًا بالنسبة لمدير الشؤون المدعوم من شقيقه مدير “الدفاع الوطني” في سوريا، فادي صقر، والذي يقال إنه من سهل مهمة هروب شقيقه إلى لبنان.
عُيّن عمار أحمد صقر مديرًا للشؤون الاجتماعية والعمل منذ عام 2020، وكان قبلها مديرًا للسياحة في المحافظة ذاتها.
وجرى تكليف المهندسة رشا سليمان مديرة للشؤون في اللاذقية منتصف تشرين الثاني الماضي، بالتزامن مع اختفاء المدير السابق.
“ضعف الأداء” و”غض الطرف”
معظم قرارات الإقالة حملت سبب “ضعف الأداء”، دون توضيح ماهيته، لتضع خلفها أشخاصًا خارج مناصبهم، مع تجديد لآخرين، ما يفتح الباب أمام التساؤلات عن أسباب وفعالية هذه الإجراءات.
وعلى غير العادة نشرت رئاسة مجلس الوزراء قرارات صادرة عن رئيس الوزراء حسين عرنوس بإقالة عدد من المسؤولين مع ذكر سبب الإقالة بـ “ضعف الأداء”، أحدثها في 14 من كانون الأول، بإلغاء تكليف بشار العزاوي بوظيفة مدير عام منشأة دواجن اللاذقية، لنفس السبب.
قبلها بيومين أصدر عرنوس قرارًا آخر بإلغاء تكليف علي داسم عبود بوظيفة مدير عام المؤسسة العامة للطباعة لـ”ضعف الأداء” أيضًا، ولذات السبب أقال عرنوس في 13 من تشرين الثاني الماضي، عبيدة أديب جبرائيل من منصب مدير عام مؤسسة الخطوط الجوية السورية (السورية للطيران).
مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، والدكتور في الاقتصاد، كرم شعار، قال لعنب بلدي، إن السبب بازدياد وتيرة الإعفاءات أو الاعتقالات بدعوى مكافحة الفساد والحجز على الأموال هو تدهور الوضع الاقتصادي في سوريا، ومحاولة النظام “البحث عن وفورات” بأي مكان ممكن.
وأوضح شعار أن هذه الاعتقالات أو عمليات العزل تكون لأشخاص ليست لديهم ارتباطات قوية بالنظام السوري، دونًا عن الحكومة، بمعنى أن لديهم علاقات قوية بالأجهزة الأمنية المرتبطة بالنظام، واصفًا هؤلاء الأشخاص بأنهم ما زالوا “لا يمكن المساس بهم”.
وذكر شعار أن هناك حالة من القبول الضمني عند النظام السوري بأن أي موظف في القطاع العام يحتاج لأن “يسرق حتى يعيش”، حتى لو كان هذا الموظف يشغل مستويات منخفضة أو على مستوى مرتفع كمدير عام مؤسسة ما، أو حتى وزيرًا في الحكومة، إذ لا يمكن لمبلغ يصل إلى 20 أو 30 دولارًا بالشهر أن يتحمل تكاليف المعيشة.
ويبلغ الحد الأدنى للرواتب الحكومية 186 ألف ليرة (الدولار الواحد 14200 ليرة).
وأفاد شعار أن النظام يتّبع سياسة “غض الطرف” على الفساد طالما كان “بحدود المعقول وغير جائر”، واصفًا وضع الفساد في سوريا بأنه “أقرب إلى الإفساد من الفساد”، وذلك لأن النظام يعيّن الموظفين برواتب لا يمكن التعايش معها دون فساد، وهو ما يحقق للنظام “مكسب كبير”.
هذا المكسب يتجلى في المستقبل، حين يحدث أي خلاف سياسي بين النظام وموظف قطاع عام أو خاص فاسد بتهربه ضريبيًا على سبيل المثال، يستطيع النظام وضعه بالسجن بحجة مخالفة القانون، وفق الأكاديمي الاقتصادي.
هذه الحالة جعلت سوريا خلال آخر أربع أو خمس سنوات، وفق منظمة “الشفافية الدولية” دائمًا ضمن أسوأ خمس دول، وفي المرتبة ما قبل الأخيرة في أحدث تصنيف، وهو ما يعطي صورة للبلاد بأن حكومتها فاسدة حتى “نقي العظام”، وفق تعبير شعار.
وتسهم القوانين والمراسيم الصادرة عن رئيس النظام في تسيير حالات الفساد، ومنها، قانون الكهرباء رقم “41” لعام 2022، الذي أتاح لرجال الأعمال المقربين من النظام الدخول في إنتاج الكهرباء، ليكون “مدخلًا للفساد”.
وفي 6 من تموز الماضي، أصدر مصرف سوريا المركزي القرار رقم “904/ل إ” الذي يتضمن “خصائص البطاقات المصرفية المصدرة من قبل المصارف العاملة للمنشآت الصناعية، وآلية تسوية الحركات المنفذة باستخدام هذه البطاقات على أجهزة نقاط البيع الموزعة في غرف الصناعة والتجارة ومحطات الوقود العائدة لشركة (محروقات) وشركة (البوابة الذهبية)، لاستخدامها بتسديد ثمن المشتقات النفطية المباعة للمنشآت الصناعية”.
ووفق القرار، أصبحت شركة “البوابة الذهبية” الخاصة الوحيدة التي يحق لها بيع المحروقات للصناعيين وأصحاب الفعاليات الاقتصادية بأرباح تعد جيدة وخصوصًا مع قرارات رفع الأسعار الدورية.
وتتبع ملكية الشركة لعائلة القاطرجي، التي تعد من أثرياء الحرب الجدد المقربين من النظام السوري، الذي سمح بتمدد نفوذ العائلة وتعزيز حضورها على مستوى اقتصاد البلاد.
شارك في إعداد التقرير مراسلة عنب بلدي في اللاذقية ليندا علي