ياسر الأطرش لعنب بلدي: الرواية تفوقت والشعر يعيش فوضى عارمة
شكّل الشعر حالةً وجدانية في حياة العالم العربي لمئات السنين، وسجل مئات الشعراء أسماءهم في كتب التاريخ، خلّدوا قصص عشق وآلام الأوطان، خاضوا معارك شخصية وأخرى مع الخليفة وثالثة مع حاشيته.
استمر هذا الحال سنينًا طوال، لم ينته مع الشعر الحديث، وظهور محمود درويش ونزار قباني وأمل دنقل وغيرهم، كحالات متفرّدة، نقلت الشعر ومكانته وشكله إلى مرحلة جديدة.
وبرغم الأهمية الكبيرة للشعر العربي، لم ينجُ، كحال العديد من القطاعات الثقافية والسياسية والاقتصادية، من الفوضى، وصاحبته مشاكل لغوية، وضعفت أحيانًا الصور البلاغية فيه.
هذه الحالة دفعت الرواية لتصدّر المشهد في عالم الثقافة العربية، وكأن الشعر صار بعيدًا عن القارئ، وفي سوريا تحديدًا، يرى الشاعر السوري ياسر الأطرش، أن المشهد الثقافي والشعري بات ضبابيًا.
فوضى عارمة تجتاح الشعر العربي
قبل انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية، عُلّق على أستار الكعبة “المعلقات السبع”، وهي قصائد سبقت الإسلام، وتعدّ من أهم القصائد التي كتبت في العصر القديم.
إلى جانب المعلّقات، فإن أحد أشهر الأسواق في تلك الفترة كان سوق “عكاظ”، الذي شهد معارك شعرية بين كبار الشعراء العرب، في حين ما تزال حتى اليوم، تلقى قصائد الشعر الحديث، وتسجّل مشاهدات مرتفعة عبر منصات البث الإلكترونية.
هذه التفاصيل السريعة والبسيطة، تعكس أهمية الشعر في حياة المجتمعات العربية، لكن الأمر لا يبدو كذلك، تراجعت هذه المكانة، وأحد أسباب هذا التراجع، وفق ياسر الأطرش، الفوضى العارمة التي ضربت الشعر، سواء بإطلاق لقب “شاعر” كل من يستحق، وأحيانًا على من لا يستحق كذلك.
وقال الأطرش لعنب بلدي إن هناك فوضى عارمة شعرية في العالم العربي، ولا تزال “شهوة الشعر” تنتاب الشباب العربي، خاصةً أن الشاعر ومهما تراجع المشهد الشعري، له مكانته وحضوره في المجتمعات المحلية والدوائر المتخصصة.
وأضاف أن “نقاد الشهوة” يسهمون في تصعيد بعض التجارب الكارثية. حصل هذا الأمر ويحصل وسيحصل في كل زمان ومكان.
وبرغم هذا الواقع القاسي شعريًا، لا يبدو الأمر سوداويًا بالمطلق، وهناك بالفعل من يستحق لقب شاعر في زمن الفوضى، ووفق الأطرش، فإن في المشهد العربي الحالي شعراء مهمون بتجارب واعدة، ومع فتح باب التجريب وعدم تجريمه نقديًا، أصبح الأمر أفضل.
ولأن لقب “شاعر”، يعني أن الكاتب سيضع اسمه إلى جانب مئات الأسماء التي خلّدت نفسها في تاريخ الشعر العربي، فلابد أن هناك شروطًا ما، أو معايير على الأقل تناسب الاسم وتتفق معه.
وفق الأطرش، وبالإضافة إلى الموهبة والبلاغة واللغة السليمة، فيجب أن يكون الشاعر إنسانيًا أولًا، وأن يمتلك أدواته الإبداعية، وألا يكون “بوقًا” لأحد، وأن يرى العالم بعيون الناس ويكتبهم كما يشتهوا أن يعبروا عن أنفسهم.
من جهة أخرى، سجّل عشرات من شعراء العصر الحديث أسماءهم في كتب التاريخ، وفي ظلّ هذه الفوضى، يحيط بالمشهد الشعري ضباب يجعل الواقع الشعري برمّته غير واضح، ومن غير المعروف إن كان سيتاح للشعراء الشباب تسجيل أسمائهم أيضًا، وخاصةً السوريين منهم.
قال الأطرش لعنب بلدي، ردًا على هذا السؤال، إن القرن الـ20، “حمل إلى سجلات الخلود الشعري أسماء شعراء كما حمل في عصوره الذهبية”.
لكن هؤلاء الشعراء، كرياض الصالح حسين وأمل دنقل ومحمود درويش ونزار قباني ومحمد الماغوط، ظلموا من بعدهم، وفق الأطرش، وكأن سجلات الخلود أقفلت صفحاتها بعدهم.
وأضاف، “وعلى كل حال، نعود إلى المقولة النقدية القديمة الهائلة: المعاصرة حجاب، وبناء عليها لنترك تقييم تجربة الشعراء المعاصرين إلى مرحلة لاحقة، ولننظر هل سيُخلَّدُ التاريخ من يستحق منهم”.
أما عن سوريا، فالمشهد يبدو أكثر ضبابية من غيره، المواقف السياسية والأخلاقية للشعراء المعروفين تلعب الدور الأكبر في التقييم اليوم، ولا ندري عن الغد، يحاول البعض “فصل الثقافي عن السياسي”، ولكن لا يمكن هذا في العموم، وفق الأطرش.
ووقع الأطرش مؤخرًا ديوانه الجديد “عمر مستأجر”، الصادر عن دار “منشورات” في الكويت، ويرى الأطرش أن الكتاب حقق حضوره في المعارض العديدة التي اشترك فيها خلال 2023.
الرواية تصدّرت المشهد
إلى جانب وجود الشعر كحالة خاصة في حياة العرب، فنًا وقصائد وموسيقى دمجت معه، حضرت الرواية أيضًا، التي لم يكن لها هذه الأهمية حتى سنوات مضت، عندما بدأت بهدوء تحتل المكانة العليا بدلًا من الشعر، من ناحية الانتشار على الأقل.
لهذا التراجع الشعري، والحضور الروائي أسبابه، ولا يعني أن الانتشار يعني التفضيل، وإنما اختلاف الأجيال يغير المكانة أحيانًا.
منذ عقدين وأكثر، احتلت الرواية مكانةً أكبر، قال الأطرش لعنب بلدي، ربما منذ تسعينات القرن الـ20، تفوّقت الرواية في الحضور والتسويق، ولا تزال، بحسب رأيه.
“لأنها تحوّلت إلى موضة (الرواية) أصبحنا نرى كمًا من الرداءة لا يمكن تخيله أو تحمله”، قال الأطرش حزينًا، فأقل من 1% مما ينتج من الأدب في العالم العربي يستحق لقب “رواية”، وهذا ما يعني أن المشهد الثقافي العربي أمام كارثتين.
الكارثة الأولى تتعلق بـ”تسويق الرداءة”، تحت مسمى الرواية، أما الثانية فهي انحسار الدور التاريخي والجمالي للشعر.
ولكن لم الرواية تنتشر؟ علمًا أنها تحتاج إلى عملية إنتاج أصعب وأطول، فقد يتضمن الديوان 15 قصيدة، ضمن 50 صفحة من القطع المتوسط، في حين تحتاج الرواية إلى قصة وحبكة و100 صفحة تقريبًا.
أجاب ياسر الأطرش ببساطة، لأن الرواية “تلبي شهوة الحكي لشعوب توّاقة للكلام”.
المعارض الثقافية تحولت إلى “بازار”
اهتمت عدد من الدول العربية خلال السنوات الماضية بمعارض الكتب، وصار هناك نوع من التنافس بين مدن القاهرة وجدة والرياض والشارقة والكويت ومسقط، في حين فرضت الظروف الحالية لسوريا، ألا يذكر اسم دمشق، في حين يحاول معرض اسطنبول المنافسة على استحياء.
آلاف العناوين، ومئات آلاف الزوار، ندوات ونقاشات وإعلانات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، واستقطاب لـ”مؤثرين” و”صنّاع محتوى”، وكأن المعارض تحوّلت لـ”مهرجانات ثقافية” تبث “أيديولوجيتها”، الإسلامية أو الليبرالية أو العلمانية أم غيرها، ربما صورة المعارض اليوم تشبه صورة المشهد الثقافي العربي ككل.
تغير حال الثقافة في العالم العربي يعني تغيرًا في المعارض الثقافية، وحين جاء موعد السؤال عنها مع الأطرش، قال “لننزل من برج المثقف” ونقترب من الناس في مقاربة السؤال، المعارض ليست أرخص كما يظن البعض، هي فقط تتيح خيارات أوسع.
وأضاف، “المعارض هي بازار الكتاب، ستجد العناوين التي تريد، وستنقل عدوى اقتناء الكتب، هي مناسبة اجتماعية قبل أن تكون ثقافية”.
يرى الأطرش أن المعارض العربية ينطبق عليها هذا كليًا، أما معرض اسطنبول للكتاب العربي فينطبق عليه جزئيًا، إذ تغيب نقطة “التنوع” جزئيًا، وتستمر سيطرة الكتب الدينية وكتب التراث، مع تنوع مقبول في الأبواب الأخرى، تخيل لا توجد رواية واحدة لنجيب محفوظ في المعرض!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :