إنني أشهد ذكرى ولادتي ولكن هذه المرة خلف القضبان…إنه عامي الثلاثون… ولكن هذه المرة لا يوجد متسع لأنير شموعًا بعدد سني عمري التي قضيتها… فزنزانتي ليس فيها متسع من مكان لتلكم الشموع… وهذه المرة بعيدًا عن أهلي.. وعن أحبابي… بعيدًا عن كل من أراد أن يقدم لي التهاني…
في كل سنة الكل فرحون بي… والابتسامة تملأ وجوهم… أما اليوم فأنا أعيش هذه اللحظات لوحدي في زنزانتي… خلف القضبان…
مرت ثلاثون عامًا أمام ناظري وأنا أحاول أن أسترجع ذكرياتي…أن أرى مكانًا لم تدنسه قدم الطاغية… أن أرى حلم والدي يتحقق.. إذ لطالما حلم بوطن حر.. فقد رباني وإخوتي على قول الحق… ومات شهيد الحقيقة وكلمة العدل…
تذكرت البيوت الصغيرة الفارغة… حتى أنها بلا جدران.. ولكنها تحتضن أناسًا لفظتهم المدينة بعيدًا عنها حتى لا يشوهوا مظهرها كما ادّعى الطاغية….
تذكرت موكب الطاغية وهو يجوب الشوارع…. ويدوس كل من يقف أمامه… ولا يخرج إلا بعد أن يخرج قبله المئات من زبانيته ليجهزوا له معبرًا خاليًا من أبناء شعبه… فهو لا يقدر على رؤية إلا من يركع ولا يرفع رأسه أمامه… بل يستمر طيلة حياته راكعًا أو ساجدًا له…
تذكرت شرطي المرور الذي يقف عند مفترق الطرق ويمد يديه ليملأ جيوبه نقودًا يأخذها من المارة… وهو يدّعي أنه يحافظ على السير… ويمنع وقوع الحوادث….
تذكرت (المسالخ) المشافي العامة التي امتلأت بالمرضى…والصراخ يعم المكان… ولكنه صراخ الموظفين والأطباء أو بالأحرى الجلادين… الذين يتأففون من كل مريض قادم…
تذكرت أولاد جارتنا الذين ينامون وهم يصرخون من الجوع… إذ أن اللقيمات التي اقتاتتها لهم اليوم لم تكفيهم… ووالدهم لم يعد إذ أن دوره في محطة الوقود لم يأتي بعد… فكيف يمضون ليلتهم؟.. أينامون من شدة البرد أم من شدة الجوع؟…
ولم يغب عن مخيلتي أولئك الصبية الصغار وهم يركضون حفاة وشبه عراة…. لا ترى إلا هياكل عظمية تجوب الطرقات… تمد يدها للصغار قبل الكبار… وتقف عند حاويات القمامة… لتجمع لها فتات علية القوم.. عله يسمنها أو يغنيها من جوع…
تذكرت الأفران محطات الوقود وكذا الدوائر الحكومية… والناس تقف أرتالاً وصفوفًا في انتظار دور يقطعه لهم ابن مسؤول .. أو سائق زوجة المعلم… أو ربما قطة ابن العقيد…
ولاح أمام عيني دور السينما والمراكز الثقافية وكذا البرامج التلفزيونية… التي لا تعرض في خشباتها إلا ما هو بعيد كل البعد عن الثقافة والفن… وتذكرت أسماء أدباء ومثقفين لم يجدوا متسعًا من فسحة تضمهم في وطنهم السليب… الذي أبعدهم خارجًا…
وليتني لم أتذكر المدارس الابتدائية ولا حتى الثانوية… وكلها تعلم الصمت وكأنه فن راقٍ… بل وحب التخاذل ونبذ العمل والجد…
ذرفت دمعتين على جدي الذي مات تحت ركام بيته إذ دمرته البلدية لأنها تريد أن تبني نادي رياضة لأبناء الوزير… وابن عمي الذي وقع في حفرة الصرف الصحي المكشوفة طبعًا…في أحد شوارع بلدتهم… وخالي المفقود منذ عشرين عام في غياهب أحد السجون.. وعمتي التي اغتصبها أحد أزلام الطاغية وعلى مرأى من أهل قريتها.. فأردى بها نزيلة دائمة في مشفى الأمراض العقلية…
أخذت نفسًا عميقًا ثم تذكرت يوم 15 آذار… يوم بدأت ثورة كرامتنا… ثورة حريتنا… لحظة خروجنا وبكل قوة رافضين الصمت والخنوع للطاغية… لحظة قولنا:
الله أكبر … سلمية… سلمية… بدنا وحدة وطنية… إسلام ومسيحية.. وعاهدت نفسي أن أجعله يومًا أحتفل به … فهو يمثل يوم ولادتي… وقلت وبأعلى صوتي…
رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه..