تبدأ تحضيرات عيد “البربارة” لدى أم محمد (67 عامًا) قبل عدة أيام، حيث تأتي بالحنطة البلدية السمراء، وتضعها في الجرن الحجري، وتبدأ عملية قشر حبات القمح، في الجرن الذي تتناوب عليه عدة نساء كون العمل مجهد لا تبدده كلمة “تسو” التي تقولها السيدة مع كل مرّة تهوي فيها بالحجر فوق حبات الحنطة.
قالت “أم محمد”، وهي من ريف مدينة جبلة، إنها وبعد قشر القمح تعرضه للشمس إن وجدت أو تتركه في الطبق فوق الطاولة ليوم أو اثنين، حتى يحين موعد طهيه صبيحة يوم 16 من كانون الأول وهو عيد “البربارة”.
خلاف على عيد “البربارة”
يحيي عبد “البربارة” غالبية قرى الساحل السوري من طرطوس وحتى اللاذقية، بطبخ أكلة الهريسة أو القمحية والتي تتألف من دجاج وقمح أو حبش وقمح أو لحم وقمح.
ويحتفل المسيحيون بعيد “البربارة”، في 4 من كانون الأول، بطبخ القمح مع السكر وإضافة المكسرات والزبيب إليه، وسمي كذلك تيمنًا بالقديسة “بربارة”.
بينما يحيي العلويون طقوسًا مشابهة باسم عيد “البربارة” أيضًا، في 16 من كانون الأول، لكن الاختلاف في طريقة طهي القمح، إذ يطبخه المسيحيون بالسكر والحلويات، بينما يطبخه أهالي ريف الساحل السوري مع الدجاج والسمن البلدي.
ويقال إن عيد البربارة الذي يحتفل به أهالي الريف الساحلي، ما هو إلا جزء من أسطورة الخصب لدى السوريين تقديسًا للقمح.
ويوجد بعض الخلاف على عيد “البربارة” الذي يحتفل به العلويون، فالبعض يؤكد أنه عيد القديسة “بربارة”، وآخرون يقولون إنه عيد “البر”، والبر اسم سوري للقمح والشعير، ويصادف يومه في شهر زراعة القمح، وفق ما ذكره الباحث التراثي نبيل عجمية، لصحيفة “تشرين” الحكومية.
طبخة “الهريسة”
قررت السيدة هذا العام وبسبب ارتفاع سعر الدجاج، تجهيز ديكين بلديين اثنين، استعدادًا لهذا اليوم، وكي لا تحرم عائلتها الكبيرة وأحفادها من متعة تناول الطبخة.
وتبدأ عملية طهي الطبخة منذ الصباح، وتضع السيدة الدجاج والقمح فوق نار الحطب، وتتركها حتى تنضج، وغالبًا ما تحتاج لنحو أربع ساعات تقريبًا في حال كان الدجاج بلديًا، وثلاث ساعات إذا كان دجاجًا عاديًا، لكون البلدي يحتاج وقت أطول للنضج والذوبان.
بعد استوائها تضع أم محمد السمن البلدي أو الزبدة الحيوانية فوق الطبخة، وتبدأ عملية الخفق لتمتزج المكونات مع بعضها البعض.
كلّفت طبخة الهريسة “أم محمد” هذا العام 75 ألف ليرة سورية، وهي ثمن خمسة كيلوجرامات حنطة بلدية، و30 ألف ليرة ثمن نصف كيلو زبدة عربية، ووفرّت ثمن الدجاج كونها استخدمت البلدي، ولو اضطرت لشرائه كانت لتدفع 250 ألف ليرة على الأقل، فثمن كيلو الدجاج الحي يبلغ 41 ألف ليرة (الدولار 14150 ليرة).
أكثر ما يحز في نفس “أم محمد”، هو عدم تمكن ابنتها المتزوجة في ريف اللاذقية من القدوم إلى الاجتماع العائلي السنوي بمناسبة “البربارة”، نتيجة بعدها وأزمة النقل وعدم قدرتها على تحمل تكاليف أجور السيارة الخاصة التي تزيد عن 400 ألف ليرة فيما لو أحضرتها.
لا حطب يحيي الطقوس
لا يتضمن عيد “البربارة” للعلويين أي طقوس دينية، بل طقوسًا اجتماعية تتضمن الطبخ، وفيما مضى كان يتم إشعال النيران والتنافس بين أبناء القرى لمن تبقى ناره مشتعلة لوقت أكثر، إلا أن هذا الطقس انقرض تقريبًا منذ نحو 13 عامًا.
يضحك “أبو ماجد” (47 عامًا) من ريف جبلة، وهو يتذكر كيف كانوا يشعلون النيران فيما مضى، ويتنافسون مع أبناء القرى المجاورة، وما يزيد من ضحكاته أن هذا الطقس اليوم يعتبر رفاهية مطلقة.
“من يملك حطبًا اليوم يشعله للتدفئة، لن يضيعها على البربارة”، أشار “أبو ماجد” إلى قلة مازوت التدفئة واعتماد أغلبية أهالي الريف على التدفئة بالحطب.
وروى كيف كان يحضر مع أصدقائه لـ”البربارة” قبل شهر من موعدها، حيث كانوا يجمعون الحطب ويخبئونه في قبو أحد منازلهم، كذلك يجمعون الأحذية البلاستيكية القديمة المهترئة، التي تزيد من اشتعال النيران استعدادًا للمناسبة.
أما الطقس الأغرب، فكان وضع رماد الحطب المشتعل فوق المنازل ورش بعض المازوت عليه ثم إشعال النيران، لتبقى القرى مضاءة في هذه الليلة، وتبقى النيران مشتعلة، فالفوز بالنسبة لهم كان أمرًا حتميًا كي لا يتعرضوا للتنمر والسخرية من أبناء القرى الأخرى.
ويتداول أبناء الساحل السوري عدة أمثال شعبية خاصة بيوم البربارة، مثل “بعيد البربارة بتطلع المي من قدوح الفارة”، في إشارة إلى أن هذا اليوم يأتي في وقت تكون الأمطار في أوجها، لكن يبدو أن التغييرات المناخية قالت كلمتها هذا العام فلم يهطل المطر كما العادة.
كذلك يوجد مثل “إن لم تُروَ الأرض بالبربارة فرد قمحك إلى الكوارة”، والكوارة هي المكان الذي كان الأجداد في الساحل يحفظون القمح داخله، والمثل يعني أنه بحال تصادف يوم البربارة دون مطر، فهذا يعني أن على الأهالي الحرص على القمح جيدًا لأن موسمه لن يكون وفيرًا هذا العام.
غلاء يطيح بطقوس فقراء الساحل
منذ أن أصبح شراء فروج كامل حلمًا في سوريا عمومًا، والكثير من أهالي الساحل تخلوا عن عادة إحياء طقوس “البربارة”، فيما اعتمد قسم منهم على تربية الدجاج البلدي خصيصًا لهذا اليوم.
ماجدة (45 عامًا)، اكتفت بطهي كيلو من القمح الأبيض مع كيلو من أفخاذ الدجاج، كي لا تحرم عائلتها من متعة تناول هذه الطبخة، التي تشكل لهم تراثًا وذكريات جميلة لا توّد حرمان ابنائها منها.
قالت السيدة، إنها كانت تموّن عادة الحنطة البلدية، لكن ثمنها تضاعف ولم تعد تستطيع شراءها بالعشرة كيلوغرامات كما السابق، وهي غير متوفرة في المحال التجارية، لذا اشترت النوع الأبيض المقشور منها.
ورغم أن أكلة “الهريسة” تحتاج إلى وجود صدر الدجاج فيها، اختارت السيدة شراء كيلو أفخاذ بسعر 41 ألف ليرة، كونه أدسم، وأرخص من الصدر، وبالنسبة للسمنة البلدية استبدلتها بالسمنة النباتية العادية.
ذكرت ماجدة أن غالبية جيرانها فعلوا مثلها هذا العام، فالفقر اشتدّ عليهم لدرجة حرمانهم من طقوسهم المحببة، كما حرمهم من تناول الطعام الصحي المتكامل الذي اعتادوا عليه سابقًا.
ويعيش الأهالي في مناطق سيطرة النظام السوري واقعًا اقتصاديًا ومعيشيًا مترديًا، ويبلغ الحد الأدنى للرواتب الحكومية 186 ألف ليرة (الدولار الواحد 14150 ليرة).
اقرأ أيضًا: السمك.. فرصة فقراء اللاذقية لتناول اللحوم