غزوان قرنفل
لم يكن ما نشرته صحيفة “تركيا”، المقربة من الحزب الحاكم، حول مشروع لترحيل 200 ألف سوري خلال العام المقبل، شيئًا جديدًا أو مفاجئًا أو خارج السياق العام لتعاطي الحكومة التركية مع ملف اللاجئين، فلطالما خلقت الإجراءات والتعليمات الإدارية الصادرة عنها مزيدًا من التعقيد والضغوط على حياة السوريين، التي لا يراد لها أن تكون مستقرة، بدءًا من تعقيدات إصدار بطاقات الحماية أو تصحيحها أو عمليات تحديث المعلومات وتثبيت العناوين، مرورًا بالمنع شبه الكلي للتنقل بين الولايات إلا في حالات ضيقة جدًا، وليس انتهاء بالقرارات المتعلقة بإغلاق مئات الأحياء أمام سكن الأجانب فيها، التي أسهمت بتأزيم أوضاع الناس ووضعهم تحت رحمة مالكي العقارات، الذين صاروا يفرضون زيادات على بدلات الإيجار تصل في الكثير من الأحيان إلى أكثر من 100%، وتزيد في بعض الأحيان لتصل إلى ضعف ذلك، وهي كلها إجراءات يمكن وصفها في أحسن الحالات بالتضييقية، ويراد منها، سواء أراد من أصدرها ذلك أو لم يرد، أن يصل السوري إلى خلاصة مؤداها أن ليس له في تركيا مستقر، وأنه يتعين عليه جديًا أن يفكر في العودة مضطرًا إلى بلده، خصوصًا أن الكثير منهم لم تعد لديه إمكانية للبحث عن بدائل أخرى بالنظر إلى تكاليفها العالية التي ليست متاحة للكثيرين.
نوهت بداية إلى أن هذا المشروع الذي تناولته العديد من وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، وفندته، لم يكن خارج السياق العام للرؤية الاستراتيجية للحكومة التركية بشأن ملف اللاجئين، فهي سبق أن أعلنت في غير مرة على لسان أكثر من مسؤول، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية نفسه، أن ثمة خطة لإعادة مليون سوري إلى مناطق شمالي سوريا “طوعيًا” وإسكانهم في مستوطنات يتم إعمارها لهم، وبالتالي فإن مشروع إعادة مئتي ألف سوري يمكن فهمه كجزء من برنامج إعادة المليون سوري، وذلك في مسعى محموم لطي ملف اللاجئين بشكل نهائي.
والحقيقة أن قضية اللاجئين عمومًا لم يعد يُنظر إليها أو يتم التعاطي معها كقضية حقوقية وإنسانية، ليس في تركيا وحدها، بل في لبنان والعراق والأردن، فلطالما تعالت الأصوات المطالبة بإعادة السوريين إلى بلدهم واتخذت إجراءات جدية بهذا الاتجاه بنسب متفاوتة من تلك الدول، رغم عدم تحقيق أي اختراق فيما يتعلق بالحل السياسي المزعوم للمسألة السورية.
حتى في العديد من الدول الأوروبية، كان خيار الناخبين التصويت لأحزاب اليمين، كما في إيطاليا والسويد وألمانيا وهولندا، التي لا ترغب بوجود اللاجئين، ولم تعد ترحب بأي موجات لجوء جديدة. وقد اتخذت الكثير من الحكومات الأوروبية إجراءات تضييقية وأضافت اشتراطات قانونية جديدة حاولت من خلالها وضع حدود صارمة على ملف اللجوء عمومًا، بل وضاعفت من التمويلات التي ترسلها لتركيا ودول أخرى لتبذل مزيدًا من الجهود للحد من أعمال الهجرة غير الشرعية في إطار الاتفاق التركي- الأوروبي المشهور، واتفاقات ثنائية أخرى مع دول إفريقية لفعل ذلك أيضًا، حتى وصل الأمر ببعض الحكومات إلى أن تتفق مع دول أخرى لنقل طالبي اللجوء إليها مقابل تمويلات ضخمة ومقابل الإنفاق عليهم على أراضي تلك الدول (كما في الاتفاق البريطاني مع رواندا، والاتفاق الإيطالي مع ألبانيا)، رغم مخالفة تلك الاتفاقيات للقوانين الأوروبية.
وتؤشر عمليات التصويت لأحزاب اليمين في العديد من الدول الأوروبية إلى أن المزاج الشعبي العام في تلك الدول لم يعد مرحبًا باللاجئين كما كان الأمر إبان التدفق الكبير لهم عامي 2015 و2016، ودون شك فإن هناك عوامل كثيرة أخرى، معظمها تتعلق بالأوضاع الاقتصادية في تلك الدول وبعضها يتعلق بعجز الكثير من اللاجئين عن الاندماج والامتثال للقوانين الأوروبية، التي يرى اللاجئون بعضها لا يتوافق مع قيمهم أو معتقداتهم.
المسألة إذًا لم تعد تتعلق بتركيا وحدها أو بلبنان وحده، بالرغم من تمايز أوضاع اللاجئين فيهما عما هو عليه في الدول الأوروبية بالنظر إلى اختلاف المراكز القانونية للاجئين في تلك الدول، لكن المسألة باعتقادي تتعلق بملف كامل اسمه “ملف اللاجئين”، الذي يبحث الجميع عن حلول له، لكنهم مع الأسف ينقبون عن، ويقاربون كل، الحلول المتخيلة، إلا حلًا واحدًا يتعلق بجذر المشكلة وأسبابها، وهي النظم السلطوية والدكتاتوريات العسكرية التي يدعمونها.
إن حلًا جذريًا لمسألة تدفق اللاجئين لا يكون بالتضييق على هؤلاء وتحويل حياتهم في الملاذات التي ظنوها آمنة إلى جحيم وكابوس يهدد استقرارهم، ولا بعقد اتفاقات لشحنهم إلى دول أخرى وكأنهم خراف يراد تسمينها في مزارع خارج الجنة الأوروبية. إن حل تلك المعضلة له باب ومسرب واحد لا بديل عنه، وهو دعم عمليات التحول الديمقراطي في البلدان المصدرة للاجئين والكف عن نهب مواردها وبناء علاقات إيجابية ومتكافئة مع حكوماتها المتأتية عن الإرادة الحرة لمواطنيها، ودعم فرص التنمية والعيش الكريم فيها، وما خلا ذلك فكل الحلول المزعومة مجرد إجراءات ترقيعية لا أكثر، ربما لأن صناعة الحلول هي في مكان قصي على الطرف الآخر من الأطلسي.