غزوان قرنفل
عادة ما تكون وظيفة القانون هي تنظيم ممارسة الحقوق وحمايتها، كحق الحياة، وحق التعبير عن الرأي، وحق التظاهر السلمي، والحق في الحصول على المعلومات وتداولها، والحق في السكن اللائق، وحق الملكية، والكثير الكثير من الحقوق التي ربما لم تسمع بها أجيال كاملة، فضلًا عن أنها لم تمارسها قط.
أما أن يكون القانون وسيلة وأداة لسلب حقوق الناس وتحديد آليات فعل ذلك، فحتمًا عليك أن تدرك بحصافتك أنك في سوريا، وهو أمر لا يعتبر خارقًا للمألوف عندما تتحول الدولة إلى “كارتل مافيوي” تديره إحدى عوائله بما يحقق لها مصالحها العليا، ويتواءم مع شبكات مصالح القوى الدولية الكبرى لضمان الديمومة.
قبل أيام أقر مجلس الشعب السوري بالأغلبية قانونًا يتعلق بـ”إدارة واستثمار الأموال المنقولة وغير المنقولة المصادرة بموجب حكم قضائي مبرم”، أنيط من خلاله بوزارة المالية دور إدارة واستثمار الأموال المنقولة وغير المنقولة المصادرة من المواطنين (الإرهابيين) متى كانت تلك الأموال في مناطق تقع داخل المخططات التنظيمية للمدن والبلدات، أما إذا كانت تلك الأموال خارج المخططات التنظيمية فتكون مسؤولية إدارتها واستثمارها منوطة بوزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، وكل ذلك بعد نقل ملكية تلك الأموال للجهات العامة ذات الطابع الإداري (كالوزارات والمديريات والمصالح والبلديات)، بلا أي مقابل مادي يؤدى للخزينة العامة، أو نقلها لجهات عامة ذات طابع اقتصادي (كالمصارف والشركات الحكومية التي لها نشاط اقتصادي)، مقابل أداء ضرائب ورسوم تدفعها تلك الجهات للخزينة العامة.
هذا القانون ليس فقط عبثًا بالنصوص الدستورية المتعلقة بحقوق الملكية وحمايتها، فلطالما عبث بها النظام وداسها عسكره ببساطيرهم، بل هو أيضًا سابقة تشريعية ربما تتفرد بها دولة العصابة على المستوى العالمي، إذ لم يسبق قط، ضمن مساحة اطلاعي وخبرتي القانونية، أن شرّعت دولة ما قانونًا لنهب ممتلكات مواطنيها وتحديد طرائق توزيع تلك المنهوبات على عصاباتها وأفراد عائلتها المافيوية، وهو لا يقل خطورة عن القانون رقم “10”، الذي يشرعن، تحت ستار إعادة تنظيم المناطق العمرانية والمدمرة، النهب ويعبث بالديموغرافيا، لكنه بشكل ما يترك الباب مواربًا للتحصل على النذر اليسير منها ضمن شروط معقدة وصعبة بالقطع، ليأتي هذا القانون ويغلق الباب تمامًا على أي بصيص أمل باستعادة الممتلكات المصادرة يومًا، لأنه لا يبقيها على ما هي عليه، بل يتصرف بها وبعائداتها فيغلق الدروب على أي تفكير بعودة المهجرين قسرًا من منافيهم، ويطبق على أي تصور أو مسعى لحل سياسي طالما كان هذا النظام جزءًا منه.
لو أمعنّا القراءة وفعّلنا خاصيّة التخيل في مضامين هذا القانون ومراميه، فأعتقد أن خيالنا سينشئ لنا صورة عصبة من البشر جعلت من نفسها وارثة لشخص اسمه “مواطن”، وأجبرت محكمة، لا تتمتع بأدنى مستوى من الاستقلالية ولا تتوفر فيها أقل شروط المحاكمات العادلة، أن تصمه بالعمالة أو الإرهاب وتصادر أمواله، ومن ثم يتولى هذا القانون مسألة تصفية تلك الأموال والتصرف بها كيفما شاءت تلك العصبة، وكأن مالكها قد مات وتم حصر إرثه وتوزيع تركته على هؤلاء الورثة المزعومين.
هل سمعتم بسوق “الحرامية” المشهور في دمشق، أو بسوق “السنّة” حيث تُعرض المنهوبات علنًا للبيع في الشارع بأبخث الأثمان؟ هذا القانون هو تمامًا عملية قوننة لنهب أموال المواطنين الذين جهروا بموقف من السلطة وعارضوا نهجها، فاستبيحت أموالهم، وهو على أي حال ليس سلوكًا طارئًا أو عرضيًا على تلك السلطة، فلطالما كان المواطن أصلًا مستباحًا في حياته وحقوقه قبل ممتلكاته، يُقتل ويُعذب ويُشرّد بلا أي أثمان.
في دولة العصابة لا يمكنك الإضاءة على قانون ما بطريقة أكاديمية صرفة فتحلل مدى مشروعيته ودستوريته، وتفكك النصوص لتدرك مراميها وتصوب مكامن ضعفها أو ضررها الاجتماعي، فكل هذا هراء لا قيمة له ولا أثر.
لا يمكنك قراءة القانون وفهم مراميه بمعزل عن بيئته السلطوية، ولا يمكنك إلا أن تبذل جهدًا مضاعفًا لاستكشاف أهداف السلطة من إصداره، بوصفه واحدًا من أدوات إخضاع المجتمع.
ما يحكم سوريا هو قانون واحد، شرّعته سلطة العصابة الحاكمة منذ أن سطت على السلطة في غفلة عن السوريين، وهو ذات القانون الذي يتيح لها الاستمرار في حكم سوريا والتحكم بحياة أهلها طوال عقود، هو قانون الاستباحة، استباحة الحريات، واستباحة الحقوق الدستورية وحقوق الملكية، واستباحة الثروات الوطنية والاقتصاد والموارد المالية، واستباحة الأعراض والمقامات والكرامات والحيوات.
هذا القانون يقول لنا: كل شيء مباح ما دامت لديك القوة اللازمة لتحقيقه، وهو تمامًا قانون العصابات وشبكات المافيا، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يكون قانونًا لدولة تقيم وزنًا لمواطنيها وحقوقهم.