لمى قنوت
مع دخول عدوان الاحتلال الاستيطاني الإحلالي شهره الثالث على قطاع غزة، ومواصلته ارتكاب جرائم الحرب والتطهير العرقي والإبادة الجماعية وتدمير البنية التحتية لجعل القطاع مكانًا غير قابل للحياة، من مستشفيات ومحاكم وآبار ومزارع وجامعات ومدارس ومحطات المياه والوقود وأحياء سكنية وأسواق وطرقات، نستطيع تلمس تغيرات رمزية في الرأي العام وأنماط حراكات قائمة على الوعي والمعرفة تتصاعد ضد فاشية تحالف غيلان السلاح والمال والسلطة بجميع مؤسساتها، وقرارهم العابر للحدود في قتل الشعب الفلسطيني في غزة وتصفية الحق الفلسطيني بتحرير أرضه وإقامة دولته.
ورغم أهمية هذه التغيرات الرمزية وتنامي الحراكات، فإن أثرها قد يكون محدودًا مؤقتًا وآنيًا بسبب تَرَكُز رأس المال وقوى الاحتكار العالمية، والأثر السياسي للترابط الوثيق بين التصنيع العسكري والنظام الاقتصادي النيوليبرالي، والسيطرة الاستعمارية، سواء بالاحتلال المباشر أو الاستعمار الجديد عبر التدخل والهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية.
التحركات المناهضة للاحتلال وتسليحه
شهدنا منذ بداية العدوان على قطاع غزة حراكًا مناهضًا لتسليح الكيان الصهيوني، وهو واحد من أهم تحركات المقاومة السلمية المنتشرة عبر العالم، فمثلًا، تظاهر عمال نقابات وناشطون أمام مقار شركات تصنيع الأسلحة ومصانعها لعرقلة شحنات الأسلحة المتجهة إلى الكيان الصهيوني في كينت- المملكة المتحدة، وأغلق ناشطون من حركة فلسطين مصنع ليوناردو في أدنبره وفككوا معداته، وهو مصنع مسؤول عن تصنيع أنظمة الاستهداف بالليزر للطائرات المقاتلة التابعة للاحتلال، كما دعت نقابات عمال النقل البلجيكية أعضاءها إلى رفض تفريغ أو تحميل الأسلحة المتجهة إلى الكيان، وفي كندا نظم ناشطون نقابيون وقفات لإغلاق مداخل شركة الأسلحة “INKAS” الكندية التي تزود الكيان بالمعدات العسكرية، كما أغلق ناشطون محيط مقر شركة “برايثون” للأسلحة في جنوب كاليفورنيا، وقاموا بإغلاق الطرق المؤدية للمصنع بالحجارة والمتاريس، ومنعوا الموظفين من دخوله لساعات قبل الصدام مع الشرطة.
ورغم أهمية هذه التحركات فإنها تبقى رمزية في أثرها، فلكي تتحول إلى حركات اجتماعية قادرة على إحداث تغيير جذري هي بحاجة للناشطية الجادة والمستدامة ذات الرؤية السياسية الواضحة والأهداف المباشرة والمتوسطة والطويلة الأمد، التي تسعى لتفكيك الترابط الوثيق بين مصالح الصناعة العسكرية والبنى السياسية ذات المخططات الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، والمحرضة على النزاعات ونهب ثروات الشعوب في الجنوب العالمي والداعمة للدكتاتوريات المتواطئة مع أجندتها.
تصاعد حركات التضامن العالمية مع القضية الفلسطينية
أسهمت حركة التضامن الفردية والجماعية في جميع أنحاء العالم، سواء عبر المظاهرات وحملات المقاطعة الشعبية، أو دور الناشطين والناشطات في وسائل التواصل الاجتماعي، في تسليط الضوء على سياق القضية الفلسطينية ودعمها والضغط على حكومات دول الشمال العالمي لوقف العدوان على قطاع غزة. فعلى منصات وسائل التواصل الاجتماعي، تفوق نسبة المحتوى المؤيد لفلسطين المحتوى المؤيد لكيان الاحتلال، فمثلًا في 30 من تشرين الأول الماضي وما بعده، وبتكليف من مجلة “The Economist” البريطانية، أجرت إحدى الشركات دراسة مقارنة بين مستخدمي ومشاهدي المحتوى المتضامن مع فلسطين وبين المتضامن مع الاحتلال على منصة “تيك توك”، تبين فيها تفوق الأول بما يفوق عشرة أضعاف، الأمر الذي دفع بالمرشحة للرئاسة الأمريكية نيكي هيلي للمطالبة بحظر “تيك توك” إلى الأبد خلال مناظرة رئاسية للحزب “الجمهوري”، وأفادت بأن “كل شخص يشاهد (تيك توك) لمدة 30 دقيقة يوميًا يصبح معاديًا للسامية بنسبة 17% وأكثر تأييدًا لـ(حماس). نحن نعرف أن 50% من البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عامًا يعتقدون أن (حماس) لها ما يبرر ما فعلته مع إسرائيل، هذه هي المشكلة”.
لقد أسهمت حركات التضامن بنشر جرائم الاحتلال وأهمية الخيار الفردي والجماعي في مقاطعة الشركات الداعمة له، وأسهمت أصوات عديدة في نقد سياسات حكومات دول الشمال مثل الحكومة الأمريكية، واحتجت أصوات من مواطنيها، نساء ورجالًا، على تمويل العدوان على غزة من أموالهم كدافعي ضرائب، ورفضت أصوات أخرى تكميم أفواه من ينتقد سياسة الاحتلال، في حين أنهم ينتقدون سياسة حكومة بلدهم.
ومع ذلك فإن أكثرية الأمريكيين (77.4%) يعتبرون الكيان الصهيوني حليفًا، لكن 65% من الناخبين والناخبات مع وقف إطلاق النار الدائم في غزة.
على المدى المنظور، لن تؤثر هذه النسب على الدعم غير المشروط للاحتلال من قبل الحزبين “الجمهوري” و”الديمقراطي”، لكن الانتقادات الحادة لإدارة بايدن في صفوف الحزب “الديمقراطي” ستدخل في حساباته خلال الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني 2024، التي كان آخرها رسالة وُجهت له ولنائبته كاميلا هاريس من قبل أكثر من 40 متدربًا يعملون في البيت الأبيض ومكاتب فرعية تنفيذية أخرى، قائلين فيها إنهم لن يلتزموا “الصمت بعد الآن بشأن الإبادة الجماعية المستمرة للشعب الفلسطيني”، وهددوا بالتخلي عنه في الانتخابات المقبلة، وفي الشهر الماضي، تلقى بايدن أيضًا رسالة مماثلة من أكثر من 500 معين سياسي.
لقد دخل خطاب الإدارة الأمريكية مرحلة “الواقعية السياسية” بعد 60 يومًا من العدوان الصهيوني على غزة، وانتقل من “القضاء على (حماس) بشكل كامل” إلى أن “الحرب ستتوقف بعد تدمير قدرة (حماس) على تهديد إسرائيل” بفعل المعطيات على الأرض والضغط الشعبي في دول الشمال.
وعليه، يجب مواصلة زخم التحركات لوقف إطلاق النار الفوري والدائم ودعم النضال التحرري للشعب الفلسطيني.